أثار مقال المفكر والسياسي المعارض السوري، برهان غليون، “حان الوقت لتجاوز طفولتنا السياسية” والمنشور في “العربي الجديد” في 14/2/2020 نقاشاً قيماً بين الكاتبين، علي العبد الله في مقالتيه “المعارضة السورية وطفولتها السياسية.. تعقيب على برهان غليون” في 21/2/2020، و”إلى عمار ديوب: ما هكذا تورد الإبل” في 20/3/2020، وعمار ديوب “في نقد نقد طفولتنا السياسية” في 2/3/2020. وأضاءت المقالات بشكل متفاوت على أوجه خلل عديدة عانت، وما زالت تعاني، منها المعارضة السورية السياسية، الأمر الذي ساهم في إضعافها، وبالتالي في إضعاف الثورة السورية، ودخولها في متاهات عديدة، حتى ضلت الطريق، وتبوأت مواقع الفعل فيها قوى الثورة المضادّة التي تعمل على كسر الثورة، وفرض مصالح داعميها الدوليين أو الإقليميين.
وعلى أهمية الحوار الدائر في هذه المواد القيمة، إلا أنها لم تخل من مبالغات وأخطاء منهجية، انطلاقاً من نزعات رغبوية، وأحياناً بحكم قولبة الماضي وفق معطيات الحاضر، وهو ما يفقد الحوار عنصراً مهماً، يتمثل في دوره في تحليل الماضي وتفسيره ودراسته بدقة وعلمية، بهدف معالجته وتجاوزه نحو مستقبل أفضل، يلبي طموحنا وآمالنا وأهدافنا الوطنية الجماعية في وطن حر وديمقراطي تسوده قيم العدالة والمساواة بين جميع أبنائه. ومساهمة في هذا الحوار البناء، تحاول هذه المقالة الإضاءة على جوانب يراها الكاتب هنا غير واقعية وغير منطقية تضمنتها المواد المشار إليها سابقاً.
النقد بغرض النقد فقط
استند مقال برهان غليون، في غالبيته، على فكرتين مركزيتين، يمكن اختصارهما بنقد سياسات التعويل على الخارج واستدعائه من غالبية أطياف المعارضة السياسية، وافتقاد المعارضة السورية ثقافة الحوار الوطني الديمقراطي الحقيقي، بعيداً عن “تحطيم بعضنا بعضاً، وإقصاء واحدنا الآخر، وتشويه وجهة نظره وتسويد صفحته واسمه”، وفق كلمات غليون الحرفية. وبعيداً عن جمالية النقد وصوابية التوجه العام فيه، إلا أن المقال يترفع عن الدخول في بعض التفاصيل المحورية التي يصعب دونها الاستفادة من أي توجه نقدي، حيث لا يُقصد بالتوجه النقدي مقال غليون فقط، بل مجمل الكتابات والأصوات التي نقدت، بل وصرخت محذرة من هاتين الخطيئتين منذ اليوم الأول للثورة السورية.
ما هو النقد وما الغرض منه؟ وكيف نستفيد من تجاربنا الماضية، ومن تجربة الثورة السورية تحديداً؟ والأهم، كيف نضمن عدم تكرار الأخطاء المنهجية نفسها بعد عشر سنوات جديدة؟ لا يتطرق مقال برهان إلى أي من هذه المسائل بذريعة توحيد الجهود، وهو ما قد يؤدي إلى سلب النقد قدرته على التغيير الجذري، بغضّ النظر عن احتمال حدوث تغيير في الخطاب الآني لدى بعض الأطراف. كذلك يتجاوز المقال قوة تأثير المصالح والأهداف الذاتية المرتبطة بمصالح الأطراف الخارجية، وبالتالي قدرة هذه المصالح على إفساد أي إجماع وطني. ولا أعني تضمين المقال تعريفات نظرية عن النقد ومغزاه وأدواته ووسائله. ولكن يمكن أن نستشفّ ذلك من الخطوات والمرتكزات التي تنطلق منها المادة الناقدة بذاتها، وهو ما افتقده مقال غليون.
في الحالة السورية، وفي ظل تبعية عدة أطراف وقوى لداعميهم الخارجيين الذين هيأوا لهم قدرات وإمكانات مالية وسياسية، وأحياناً عسكرية، قادرة على فرض خياراتهم التي تمثل مصالح هذه الفئات التابعة، والتي باتت جزءاً من مصالح داعميهم، لا بد من أن يطاول النقد هذه البنية المستعصية على الحل، والإقرار بحتمية تجاوز هذه المنظومة وتخطيها، بكامل أركانها الجماعية والفردية، في خضم أي عملية نقدية وطنية تهدف إلى استعادة الزخم والمسار الثوري الذي يلبّي مصالح السوريين الوطنية وآمالهم وأهدافهم الوطنية. وبذلك يحدّد المقال ماهية النقد الذي يمارسه وأهدافه، بكونه نقداً ثورياً يسعى إلى عزل (ومحاصرة) المجموعات المأجورة وقوى الثورة المضادة على مختلف ألوانها ومواقعها، واستبدالها بجسم ثوري معبر عن الشارع، ومستمد منه، وخاضع مستقبلاً لمحاسبته، يقوم على أسس ديمقراطية، وشفافية مالية وسياسية، وخاضع لسلطة قضائية ثورية قانونياً أولاً وشعبياً ثانياً. من دون ذلك يصبح من السهل انحراف النقد عن أهدافه الثورية إلى أهداف أخرى، لا تمت لمصلحة سورية والسوريين بأي صلة، إذ لا تكمن الغاية من النقد بالنقد ذاته، بل بمدلولاته الثورية والتغييرية.
بين النقد أو المحاسبة والتشهيرالاسام
يدعو مقال برهان غليون إلى إعطاء الحوار السوري – السوري أهمية قصوى، نظراً لحاجتنا إلى توحيد الجهود والرؤى قدر الإمكان، من أجل وقف حالة التفرقة والتضارب التي فرضتها، وفق المقال، التبعية الخارجية لقوى متناحرة، كما يدعو إلى وقف المهاترات والمزايدات الإنشائية الفارغة من أجل تحقيق هذا الغرض. لكنه يغفل مرة أخرى الإشارة، ولو على عجالة، إلى ضرورة التمييز بين النقد بغرض المحاسبة والمساءلة والتشهير بوصفه سلوكاً سلبياً يهدف إلى تشويه سمعة بعض الأشخاص، واتهامهم جزافاً بما لا يمتّ للواقع بصلة، سياسياً أم مالياً، فمن الطبيعي، بل ومن الواجب اليوم؛ وخطوة أولى لتعديل المسار الثوري؛ العمل على محاسبة جميع المسؤولين عن الوضع الحالي، بداية من النظام السوري وانتهاء بفصائل المعارضة السورية العسكرية والسياسية، وقواها وهيئاتها، على المستويين الجماعي والفردي، فما دون ذلك سوف يعني التستر على المفسدين والناهبين والمرتزقة والمجرمين، بغض النظر عن مكان وجودهم وطبيعة اصطفافهم السياسي، وسوف يفضي ذلك لا محالة إلى حمايتهم، وتمكينهم من المضي في الممارسات المسيئة للثورة والضارّة بمصلحة سورية والسوريين. ولذا من واجبنا، مثقفين ومعنيين بالشأن السوري، التمييز بين ضرورة تشجيع النقد العلمي والموضوعي المبني على حقائق مثبتة، ودعمه بنظام قضائي يستقصي الحقائق، وينظر في صحتها ويحاسب جميع المسيئين بغض النظر عن موقعهم الراهن أو السابق، وضرورة نبذ التشهير بأي جهة أو شخص كان، ومحاصرة ذلك ومنعه، وبغض النظر عن مدى توافقنا أو تعارضنا مع هذا الشخص أو الجهة، فالتشهير سلوك مدمر لجميع الجهود الوطنية، وهو على النقيض من المحاسبة التي تعتبر بداية مسار الحوار والبناء الوطني.
التضحية بين الإيمان الديني والديمقراطية
لا يُولد تكرار بعض المزاودات في بعض النقاشات العامة البعيدة عن الموضوعية والدقة الاستغراب والاستهجان، على اعتبارها من أنواع التفريغ النفسي الضروري أحياناً. لكن؛ وعلى العكس؛ فإن ورودها، ولو على عجالة، في أي نقاش جدي؛ كالحاصل في مقال علي العبد الله الأول؛ يحتم علينا نبذ هذ الظاهرة ونقدها، كي لا تتحول بفعل تكرارها إلى حقائق دامغة وثابتة. ومنها مفهوم التضحية وعلاقته بالإيمان الديني أو بالانتماء الديمقراطي أو اليساري، والذي يمكن نقده بسهولة، استناداً إلى وقائع الثورة السورية ذاتها، فضلاً عن إمكانية نقاشه وفق أبعاده التاريخية والعالمية التي شهدت بروز قوى ثورية يسارية أحياناً، وغير يسارية أحياناً أخرى، على القدر ذاته من التضحية والإيثار، وهو ما يكشف خطأ هذه الافتراضات الجوفاء. وعليه، وبما يخص الثورة السورية تحديداً، يبدو واضحاً الالتباس عند الكاتب، بالمقارنة بين تضحيات الشباب الثائر عموماً (ينسبها في جلها خطأ إلى أحزاب يمينية أو إسلامية) وتضحيات الأفراد والرموز ذات التوجه اليساري. حيث لن نختلف على تضحية الشباب السوري الثائر داخل المدن والأرياف والبلدات السورية قاطبة، وبغضّ النظر عن هويتهم الفكرية، من دون التنكر لرجاحة كفة الشباب غير المنتمين إلى أي تيار سياسي أو حتى فكري، دينياً كان أم ليبرالياً أم ماركسياً، وذلك بحكم انعدام الحياة السياسية والثقافية والمطلبية في سورية الأسد قبل الثورة، في مقابل انعدام شبه كامل لتضحيات القيادات، ذات الميول اليمينية أو اليسارية على السواء.
وفي ما يخص ظاهرة هروب رموز المعارضة من عنف النظام وجبروته، أتفق مع المقال بشأن آثارها السلبية، مع تحفظي على تعميمها، فهناك من تم إبعاده وترحيله من النظام بشكل مباشر أو عبر اتفاقات ومعاهدات لتبادل المعتقلين؛ ولنا بإبعاد المناضل العربي سلامة كيلة خير مثال على ذلك؛ وتحفظي كذلك على لوم المغادرين أو الهاربين؛ كما وصفهم المقال؛ فلكل منا ظروفه وأوضاعه وقدراته الجسدية والنفسية. وخطيئة ثانية تضمنها مقال علي العبد الله في هذا الخصوص، تتمثل بحصر هذه الظاهرة ضمن الوسط المعارض الديمقراطي واليساري السوري فقط، وهو ما تكذبه ظاهرة خواء الساحة السورية الداخلية من جميع قيادات الإسلام السياسي بشقيه، التنظيمي والتعبوي، نتيجة خشية بعضهم من العودة إلى سورية في المرحلة التي سبقت الثورة، وهي بالمناسبة مخاوف مشروعة، ونتيجة مغادرة أو هرب القسم الأكبر من الموجودين داخل سورية قبل بدء الثورة، وبحكم صمت جزء لا يستهان به منهم وتحفظهم على تأييد الثورة ومعارضة النظام مدة طويلة نسبياً، امتدت على طول مدة بقائهم داخل سورية، وهي ثلاث حالات تعكس مدى تحفظ قيادات قوى الإسلام السياسي على التضحية بالذات، على نقيض تضحيات الشعب السوري، يساريين وإسلاميين وليبراليين من غير الفئة القيادية، وفق نسب تعكس حجم التيارات الفكرية الأساسية؛ على محدوديتها؛ مع ضرورة التمييز بين الإسلام ديناً وثقافة عامة والإسلام السياسي خياراً أيديولوجياً وحزبياً وعقائدياً.
الإسلام الحزبي والشعبي والسياسي
الإسلام الشعبي اتجاه ديني يصفه بعضهم بالفطري؛ ولا يمكن اعتباره فطرياً كونه نتاج ثقافة وبنية المجتمع المتوارثة؛ والإسلام السياسي خيار حزبي وأيديولوجي، ورؤية شمولية للدولة والمجتمع. التناقض بينهما صارخ وكبير، ولا مجال في العمل السياسي والثقافي والاجتماعي لأي خلط بينهما، سواء في المجتمعات ذات الغالبية الإسلامية أو في غيرها، فهي ظاهرة عالمية عالجها المفكر عزمي بشارة في كتابات وتوضيحات كثيرة مهمة. لكن، وبغض النظر عن نقاش الظاهرة وتداخلها عالمياً، علينا التعاطي معها بدقة في مجتمعاتنا وأوساطنا السياسية والثقافية، عبر التمييز بين الاثنتين، فظاهرة التدين الشعبي عامة ومنتشرة في كل سورية، حتى في الأوساط غير المتدينة، وتتمظهر في لغة الخطاب والتعبيرات اليومية، وأحياناً بالملابس والأمثال الشعبية وبعض المفاهيم العامة التي يرددها الجميع، بغض النظر عن مدى إيمانهم المطلق بها. أما الإسلام السياسي فيسعى إلى بناء نظام صارم ومحدّد وثابت للدولة والمجتمع، وهو ما يدفع أوساطاً متدينة وغير متدينة عديدة إلى نبذه، ورفضه بالحد الأدنى. لذا من الخطأ اعتبار كل من قال باسم الله، أو الله أكبر، أو الله الحامي أو الله على المفتري والظالم، جزءاً عضوياً من قوى الإسلام السياسي، بل قد يكون صاحب هذه العبارات قومياً أو يسارياً، وفي بعض الحالات قد يكون ملحداً أيضاً، كونها تعبيرات اجتماعية ذات مدلولات غير دينية، وإن كانت تعبيرات دينية ظاهرياً.
ويخلط مقال علي العبد الله بين تيارات الإسلام السياسي المتطرّفة، كالقاعدة وداعش وجبهة النصرة، والتيارات الحزبية كحركة الإخوان المسلمين السياسية، وهو ما حاول مقال عمار ديوب الإشارة إليه بصيغة تستهجن هذا الخلط بقوله “لماذا يدافع العبد الله عن قضية خاطئة، وقد انتقد الإسلاميين، ورؤيتهم الطائفية والفئوية في الثورة السورية في مقالاتٍ كثيرة؟” انطلاقاً من انجرار مقال علي العبد الله الأول نحو الدفاع عن حق التيارات الإسلامية في العمل، وإبراز حجم قوتها الشعبية، إلى درجة ضرب المثل بشعبية قوى رجعية متطرّفة كداعش وجبهة النصرة، لا خلاف بشأن دور أجهزة المخابرات في وجودها، ولا مدى عدائية الشارع السوري لها، بدليل خروج مظاهرات عديدة رافضة لها داخل مناطق سيطرتها، من دوما وغوطة دمشق الشرقية، إلى محافظة إدلب ودرعا وأرياف حمص. لذا كان الأجدى أن يوضح العبد الله الفرق بين التوجهين الإسلاميين، والتمييز بين أسباب وجود وظهور كل منهما، وتبيان مدى استنادها لقوة التأييد الشعبي، أو لعوامل وأسباب خارجية لا قدرة للسوريين اليوم على مواجهتها في ظل الحرب القذرة المستمرة عليهم منذ تسع سنوات.
ويعرض مقال علي العبد الله الأول ملاحظة دقيقة، أشاركه الاتفاق في أهميتها، من دون المبالغة في تحميلها الأسباب الكاملة، وهي “لكن السبب الرئيس لخسارة المعارضة الديمقراطية، برأيي، وجود هوة واسعة بين حواضن الثورة ورؤية المعارضة الديمقراطية السياسية والاجتماعية، وفشل الأخيرة في جسر هذه الهوة، هذا إذا كانت تقرّ بوجود هذه الهوّة وخطورتها وتدرك ضرورة العمل على جسرها”. ولكنه ينطلق من هذه الملاحظة إلى نتيجة غريبة وعجيبة، لا تمت للملاحظة الأساسية بأي صلة مفادها ” فشعارات المواطنة؛ والدولة المدنية التعدّدية؛ شعارات نخبوية.. ما جعل تشكيل ألوية جهادية ومكاتب شرعية وحسبة وبيت مال ورفع شعارات تنادي بالخلافة أو الإمارة التقليدية تحصيل حاصل”!!. تنطوي الخلاصة على عثرات وأخطاء تحتاج إلى جهد كثير لتوضيحها وشرحها. ولكن التركيز هنا على أهم مواضع الخلل فيها، كانطلاق الكاتب من إبراز فوقية الشعارات السياسية الثقافية، وانعزالها عن هموم الشارع السوري ومشكلاته، بشقي هذه الشعارات، اليساري والديمقراطي فقط، معتبراً شعارات الإسلام السياسي أقرب إلى هموم الشارع ومشكلاته، وهو أمر يناقض الواقع، فقد فشلت غالبية قوى الإسلام السياسي تماماً كما فشلت غالبية القوى اليسارية والديمقراطية في اجتذاب الشارع إلى هياكلها التنظيمية، وهو ما عبر عنه الشارع الثوري في الهتافات، وفي الآليات التنظيمية الجديدة التي أفرزها، من التنسيقيات واللجان الأهلية، على طول مراحل الحراك الثوري الشعبي، وقبل الولوج في مرحلة العسكرة. ولا يضر التذكير هنا مرة جديدة بأن هناك فرقاً بين شعارات قوى الإسلام السياسي وأهدافها وبعض التعبيرات والمدلولات الإسلامية الشعبية التي لا تعبر عن توجه سياسي محدد.
كان من الأفضل لو انتقل الكاتب من نقد الشعارات الفوقية للأحزاب والقوى التقليدية، وابتعادها عن هموم الشارع، إلى دعوة هذه القوى إلى رفع شعارات وأهداف تمسّ حياة السوريين اليومية على جميع الأصعدة، خصوصاً الاقتصادية والاجتماعية والخدمية والوطنية والسياسية والقانونية طبعاً، وفق كل مرحلة من مراحل النضال، واستناداً إلى حجم الوعي الثوري المكتسب في الشارع السوري، عبر ممارسة النضال والتظاهر. وهو بالمناسبة جهد نجحت به نسبياً بعض القوى اليسارية، وبالتحديد الماركسية، في مناطق جغرافية محدودة المساحة في مرحلة النضال الثوري السلمي، أي قبل العسكرة، لكنها واجهت بعد الانتقال إلى مرحلة العسكرة استبداد النظام وقواه الأمنية وإجرامهما؛ واستبداد الجماعات التكفيرية المتطرفة وإجرامها الذي وصل إلى حد تصفية عديد منهم فردياً وجماعياً.
قولبة الماضي
يقع باحثون وكتاب في الإشكالية المنهجية، استعادة قراءة الماضي أو التاريخ انطلاقاً من نتائج الحاضر، وهو ما وقع فيه مقال علي العبد الله الأول، إذ اعتبر أن أسباب سيطرة قوى الإسلام السياسي على المناطق المحرّرة تعود إلى قوة الدعم الشعبي الذي تحظى به، وهي عملية قولبة للماضي وتغيير للحقائق، تتيح تفسير سيطرة قوى إسلامية متعددة على المشهد المعارض السوري بأسباب غير حقيقية. في حين يفرض علينا فهم الحالة السورية، ودراسة تاريخها، العودة إلى المرحلة السابقة بدقّة وموضوعية، كما أشير إلى جزء منها أعلاه، بخصوص هامشية تأثير قوى الإسلام السياسي في مرحلة النضال الثوري السلمي.
بدأت العسكرة بمجموعات صغيرة محلية غير مؤدلجة بغالبيتها، وذات طابع وطني عام، عملت على حماية المظاهرات الخاطفة، المعروفة في سورية بالمظاهرات الطيارة؛ إشارة إلى سرعتها وتعدد مناطقها؛ وهي شكل جديد ابتدعته الحركة الثورية لمواجهة آلة النظام الأمنية التي حالت دون تنظيم مظاهرات كبيرة وجماهيرية، بفعل القمع الهمجي والإجرامي باستخدام القناصة والعيارات النارية الحية. ومن ثم ونتيجة تصعيد النظام لحملته القمعية، واقتحامه المدن والبلدات بقواه الأمنية والعسكرية، وبفعل كذب أطراف محسوبة على قوى يمينية وتضليلها، تم فرض منهجية جديدة على المجموعات المسلحة، عبر تحميلها مسؤوليات ومهام لا تقوى عليها قدراتها الذاتية، كحماية المدن والبلدات، بدلا من حماية المظاهرات فقط، وهو ما جعلها تقع بين نار النظام ونار الخضوع لطلبات الداعمين القادرين على تزويدها بالمال والسلاح اللازم؛ وهم في غالبيتهم العظمى؛ الداعمين، من المحسوبين على قوى الإسلام السياسي، وهو ما انعكس رويداً على هذه التشكيلات العسكرية بتغيير عناصرها وقادتها وأسمائها ونوعية سلاحها وشعاراتها، بعدما كانت تحرص على شعارات وأسماء وطنية، كتسمية الجيش الحر عموماً؛ بغض النظر عن تحفظنا على صحة استخدام تعبير جيش في هذه المرحلة.
من المفيد للكاتب العزيز علي العبد الله العودة إلى تجارب مئات المجموعات العسكرية الأهلية والمدنية الأولى في سورية، والتي كشفت عن امتناع الداعمين عن تزويدها بأي قطعة سلاح مهما كانت بسيطة ومحدودة، حتى في أقصى حملات النظام العسكرية والأمنية، من دون خضوع هذه القوى لرغبات الداعمين الكاملة، وهو ما كان يؤدي إلى سيطرة النظام على المنطقة، واقتحامها وسلبها وتدميرها واعتقال شبابها. ومن ثم وبعد الرضوخ لمطالب الداعمين، يتم تزويد المجموعات الشبابية والأهلية المسلحة الباقية بقدر معين من السلاح الكافي لطرد قوات النظام، وفرض سيطرة ورؤى الداعمين على هذه المنطقة. وقد تكرّر هذا السيناريو في مئات المواقع، وفي جميع المحافظات السورية. لذا يمكن للكاتب التيقن منه بكل سهولة، عبر الاستفسار عن تجارب المناطق الذاتية من نشطائها وثوريّيها غير المؤدلجين.
ولم يكتف المقال بهذه القولبة لتاريخ الثورة السورية، بل تبعته قولبة أخرى، تناست مئات المظاهرات والاحتجاجات المناطقية في المناطق المحرّرة، رفضاً لهيمنة قوى مسلحة محسوبة على تيارات الإسلام السياسي، بداية من “داعش” وجبهة النصرة، وليس انتهاء بجيش الإسلام وما شابهه، وتم رفض هيئاته الشرعية على مختلف تسمياتها وتقسيماتها. لكن وبحكم حصار هذه المناطق، وسيطرة قوى الإسلام السياسي العسكرية على السلاح، وجميع طرق إمداد المناطق، ونتيجة استبداد هذه القوى وقمعها وإجراميتها، تم إخضاع المجتمع المحلي في هذه المرحلة، حيث كانت المجتمعات المحلية والأهلية، والسوريون عموماً من أنصار الثورة، يعزون أنفسهم بسهولة تجاوز هذه القوى الدخيلة على الثورة وعلى السوريين في المرحلة التي تعقب الخلاص من نظام الأسد. ولذا حاولت المجتمعات المحلية أن تؤجل معركتها مع هذه القوى الإسلامية الاستبدادية، خدمة لمعركتها الكبرى مع النظام.
بين موجتين ثوريتين
انطلق عمار ديوب في مقاله من قراءة الموجة الثورية العربية الثانية، كي يحلل توجهات الموجة الأولى، من دون أن يوفق بذلك. وكان من الأفضل لو حلل الموجة الأولى للثورات انطلاقاً من معطياتها التي يعلمها جيداً، كما أغفل أهمية إبراز موضع الترابط بين الموجتين الثوريتين. فمن ناحيةٍ، قدمت الثورة السورية مئات الأدلة على جوهرها الوطني غير الديني، لا سيما في مرحلة النضال المدني السلمي الذي اعترف رأس النظام باستمراره ستة أشهر، من الشعارات والهتافات، إلى لوائح المطالب التي نظمتها الجماهير الثائرة في أكثر من مدينة وبلدة، كدرعا البلد وغوطة دمشق الشرقية، وحمص وغيرها من التجمعات الشعبية. وفيما يخص الموجتين الثوريتين، الترابط بينهما على المستويات، السياسي والثقافي والوطني، واضح جداً، وهو ما أوضحته مئات المقالات والدراسات التي تناولت الموضوع، لكنه ترابط تراكمي لا يمكن عكسه. لذا لا يمكن تفسير الموجة الثورية الأولى استناداً إلى هتافات الموجة الثانية وأهدافها، بسبب اختلاف الزمان والمكان. ولكن قد يمكن تفسير الموجة الثانية انطلاقاً من الموجة الأولى، على اعتبارها امتداداً وتطوراً وتعبيراً عن استفادة الشعوب من تجارب الموجة الأولى، بغض النظر عن موضع كل ثورة، فالثورة مدرسة يومية تراكمية، تنهل منها الشعوب الثائرة، بغض النظر عن مكانها وموقعها، لذا نجد دائماً بصمات واضحة لجميع الثورات في ثورات أخرى، كبصمة تونسية في الثورة اللبنانية، أو سودانية في العراقية، وعراقية في الجزائرية، وسورية في السودانية وهكذا.
.. وأخيراً، يمكن الخروج بخلاصات مهمة من هذا النقاش الحيوي والضروري، قد تمكّن من تجنب تكرار أخطاء الماضي مستقبلاً، وتدفعنا نحو تجارب جديدة، تهدف إلى استعادة زمام المبادرة، وإحياء الخطاب الوطني الجامع، والاتفاق حول برنامج تحرري وتنموي يقود المرحلة النضالية المقبلة.
المصدر: العربي الجديد