تحمل رسائل ذات بعد اقتصادي وجيوسياسي للعراق الذي يسعى إلى استعادة وتكريس موقعه. قمة ثلاثية عربية جمعت الأردن ومصر والعراق على أرض الأخيرة، عنوانها تشكيل منظومة إقليمية جديدة تحت مسمى “المشرق الجديد”، من المفترض أن تتوسع في المستقبل لتضم كلاً من سوريا ولبنان وفلسطين ودول أخرى، كما يؤكد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، مما يعني أن هذا المشروع سيكون النواة الأساسية ومنطلق العودة إلى مشروع الشرق الأوسط الكبير، لجهة أنه لا يمثل تهديداً للعلاقات التي تربط هذه الدول الثلاث مع العمق العربي في مجلس التعاون الخليجي، بل يتكامل معها ومع رؤيتها في العمل لبناء منطقة تعاون اقتصادي عربي واسعة، خصوصاً أن الهدف النهائي لهذه المنظومة هو الانفتاح باتجاه الدول الأوروبية.
القمة الثالثة بين هذه الدول الثلاث جاءت في سياق استمرار الجهود التي أسس لها رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي، لكنها بدأت بالتبلور في عهد رئيس الوزراء السابق عادل عبدالمهدي الذي بدأ بخطوات عملية تجاه هذين البلدين، والتأسيس الفعلي لهذه المنظومة في قمة القاهرة الثلاثية الأولى في مارس (آذار) 2019، في حين استضاف الأردن القمة الثانية في أغسطس (آب) 2020، مباشرة بعد عودة الكاظمي من زيارته إلى الولايات المتحدة ولقائه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب.
على المستوى العراقي، تأتي القمة واستضافة العراق لها في ظل الحكومة الحالية ورقة في يد رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، وما تحمله من رسائل واضحة للقوى والمكونات السياسية المؤثرة في الساحة العراقية، بقدرة هذه الحكومة ودورها في إعادة العراق إلى ساحة الفعل الإقليمية والدولية من خلال هذا الانفتاح والموقع المتقدم الذي بدأ تحقيقه على مستوى المعادلات الإقليمية.
من ناحية أخرى، هي رسائل لكل دول الجوار العراقي، خصوصاً الجار الإيراني الذي يرى في العراق “حديقة خلفية” لدوره ونفوذه في منطقة الشرق الأوسط، وفي صراعه مع الوجود الأميركي في منطقة غرب آسيا، بأن العراق الجديد لن يكون تابعاً أو واقعاً في دائرة مصالح الآخرين على حساب مصالحه الوطنية والقومية والإقليمية، وبالتالي فإن على كل القوى الإقليمية أن تعيد حساباتها في التعامل مع العراق الطامح إلى استعادة موقعه وقراره المستقل والفاعل والمؤثر في المنطقة وقضاياها.
بناء على هذه السياقات، يمكن اعتبار القمة الثلاثية وانعقادها في بغداد ذا بعد جيوسياسي لمنظومة أو محور يسعى إلى تكريس موقعه على الساحتين الإقليمية والدولية، وأن الحكومة العراقية تسعى إلى توظيف الفراغ السياسي الذي يسيطر على المشهد الداخلي العراقي، خصوصاً ما يتعلق بالسلطة الرقابية المتمثلة في البرلمان، وانشغال الكتل والكيانات السياسية والحزبية والفصائلية في تقويم أوضاعها ونفوذها الشعبي استعدادا للانتخابات البرلمانية المقبلة، الأمر الذي وفر للكاظمي وحكومته هامشاً للتحرك من دون وجود أصوات حقيقية قد تعارض هذه الفعاليات.
الهدف الاقتصادي الذي شكل العنوان الرئيس لاجتماعات قادة دول “المشرق الجديد” يسعى إلى تفعيل الربط الاقتصادي بينها من خلال تنشيط خط أنابيب النفط الذي يربط بين البصرة العراقية وسيناء المصرية مروراً بالأردن، وهو ما يوفر لهذين البلدين الحصول على النفط العراقي بأسعار تشجيعية يصل الخفض فيها إلى حدود 16 دولاراً عن أسعار السوق، في مقابل أن يحصل العراق على الكهرباء واستقطاب الاستثمارات المصرية والأردنية.
وعلى الرغم من أهمية البعد الاقتصادي لقمة “المشرق الجديد”، لا يمكن إهمال البعد السياسي لهذا التحالف الجديد وتداعياته المستقبلية على خريطة المنطقة الجيوسياسية والجيواستراتيجية، خصوصاً أن تفعيل هذا التعاون الاقتصادي والسياسي لا يخرج عن أعين ومراقبة الجار الإيراني الذي ينظر إلى العراق كمجال حيوي لا يمكن أن يتساهل في خروجه من دائرة نفوذه الاقتصادية والسياسية والأمنية، وعلى الرغم من الآثار الإيجابية التي قد تتحقق اقتصادياً من خلال هذه المنظومة الإقليمية، فإن طهران لن تكون مطمئنة للتداعيات السياسية لها، خصوصاً أنها تواجه معضلة تبدو حقيقية ومعقدة في إعادة إحياء الاتفاق النووي، والبدء في تطبيع علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية، إذ يبدو أن المفاوضات النووية في فيينا قد وصلت إلى مرحلة تهدد كل النتائج التي تحققت حتى الآن، وفي حال اصطدمت هذه المفاوضات بحائط مسدود فإن طهران قد تلجأ إلى إعادة حساباتها الإقليمية، وأن تذهب إلى مرحلة أو موجة جديدة من التصعيد مع واشنطن، تتخلى فيها عن كل التفاهمات غير المعلنة وغير المكتوبة لإدارة الصراع بينهما، في ما بعد اغتيال قاسم سليماني ووصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض، خصوصاً على الساحة العراقية.
إلا أن السؤال الأساس الذي تطرحه قيادات سياسية عراقية أساسية حول إمكان أن يكون العراق صانعاً أو فاعلاً في صياغة القرارات الإقليمية، وهل سيكون قادراً في ظل الأوضاع التي يعشيها على الصعيد السياسي الداخلي، ووقوعه في صلب المعادلات والصراعات الإقليمية والدولية، بأن يكون لديه دور يتجاوز موقع الوسيط أو صندوق بريد بين هذه القوى؟
تؤكد هذه القيادات أن الطموح مشروع ولا بد للعراق من أن يعود يوماً إلى لعب هذا الدور أو استعادته، مستفيداً من موقعه الجيوسياسي المتقدم والمؤثر في منطقة غرب آسيا، إلا أن الظروف الحالية لا تساعد في ذلك، وبانتظار أن تتوافر الأرضية لتحقيق هذا الطموح، فعلى العراق أن يستثمر كل الفرص المتاحة أمامه لاستعادة مكانته العربية والدولية والإقليمية بانتظار اللحظة المناسبة داخلياً ودولياً لتطويرها، بحيث يصبح مؤثراً لا متأثراً.
المصدر: اندبندنت عربية