لم يكن وعد بلفور الذي أعلن في ٢ تشرين ثاني/نوفمبر ١٩١٧ ذو قيمة من الناحية القانونية،
فهو مجرد رسالة موجهة من وزير خارجية بريطانيا إلى اللورد يونيل روتشلد ويطلب منه إبلاغ مضمونها للاتحاد الصهيوني.
وقد كان بعبارات فضفاضة حمالة أوجه. حتى أنه لم يستخدم عبارة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين بل استخدم عبارة كيان قومي. ليمنح المرونة للسياسة الانجليزية حسب الواقع الذي تفرزه نتائج نهايات الحرب العالمية الأولى.
وكان من الممكن مواجهته أو تغير مساره لو أن العرب استطاعوا امتلاك إرادتهم. ولم يكن قدرًا محتومًا كما حاولت أن تصوره النخب الحاكمة في تلك الفترة وأعطته الأدبيات العربية أكثر من حجمه بكثير.
في حين يتم التغافل عما أعطاه الشرعية والقانونية. وهي اتفاقية الأمير فيصل بن الحسين ممثلاً عن الدولة العربية التي مركزها الحجاز مع حاييم وايزمان ممثلًا عن المنظمة الصهيونية العالمية وهذه الإتفاقية هي التي تتبنى وعد الحكومة البريطانية وقبول وتسهيل الهجرة اليهودية لإقامة مجتمع التعايش “حسب تعبير الاتفاقية” وحرية الممارسة الدينية.
و ذلك على هامش مؤتمر السلام في باريس ١٩١٩ وهي التي ستشكل منهجًا للأنظمة العربية الناتجة عن خطة سايكس بيكو.
والتي كانت بريطانيا أول من اخترقها بفرض أمر واقع على حلفائها الأوربيين بتحويل المنطقة “ج” التي تتطابق تقريبًا مع حدود فلسطين التاريخية لتكون تحت الإنتداب البريطاني الخالص بعد احتلتها عسكريًا وأبقت فيها عددًا كبيرًا من قواتها وقواعدها، في حين أن اتفاقية سايكس بيكو في نصها الأصلي تصنفها كمنطقة خاضعة لإشراف دولي بالأخص المناطق المقدسة للأديان الثلاث.
إن تمكن بريطانيا من فرض ذلك الواقع العسكري والسياسي وقبول الأنظمة العربية المستحدثة وخضوعها لرغباتها، والتوافق الإستراتيجي الأوربي على مشروع إقامة الدولة اليهودية كحل لمشاكلها الداخلية والخارجية كما وضحنا سابقًا.
و نشاط و تنسيق المنظمات الصهيونية وأهمها الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية والاتحاد الصهيوني والمنظمات الماسونية. هو ما ساهم في تطور المشروع بنجاح وسرعة أكبر من المتوقع.
في الحقيقة أنه لم يكن هناك وعي شعبي كاف في تلك المرحلة يمكنه من إدراك أبعاد المشروع الاستعماري والصهيوني في المنطقة العربية وإدراك خطورته على حاضر ومستقبل الأمة العربية بسبب الجهل والفقر والانقطاع الطويل عن مواكبة تطورات العالم العلمية والتكنولوجية والسياسية. وندرة الوسائل القادرة على التوعية والفعل السياسي والاجتماعي.
أما النخب المثقفة فكانت إما مرتبطة ارتباطًا عضويًا بالغرب ومشروعه عبر علاقات تم نسجها بإحكام وروية عبر عقود بين الدول الاستعمارية وعائلات او عشائر محلية أو منظمات وجمعيات أو طوائف صغيرة. وقد اختارتها تلك الدول بعناية وتم توطيد العلاقات لتصبح بمثابة وكلاء محليين للمشروع الاستعماري.
أما الجزء الآخر من النخب المثقفة فكان منبهرًا بالغرب وحضارته لدرجة الاستيلاب. فكانت مقتنعة أو مصدقة لما يتم إعلانه بأن الهجرة اليهودية لن تمس حرية وحقوق المواطنين العرب الأصليين “كما جاء في نص وعد بلفور واتفاقية فيصل وايز مان” و الأدبيات الغربية المعلنة للعامة آنذاك.
طبعًا لا يمكن الإنكار أن هناك بعض من تنبهوا لهذا الخطر مبكرًا وحاولوا التوعية والمقاومة وبذلوا جهودًا كبيرة مخلصة في سبيل ذلك. ولكنها كانت مفتقرة للتنظيم والتخطيط والتكامل والاستمرارية التراكمية. مما جعلها تبدو هزيلة وضعيفة في مواجهة عمل الطرف الآخر.
إن أبرز وأنجح هذه المحاولات هي محاولة الشيخ عز الدين القسام الذي باع كل أملاكه في مدينة جبلة ومضى إلى حيفا في مطلع العشرينيات ليبدأ حملة توعية من الخطر الصهيوني والهجرة. ثم ليشكل مجموعة العصبة القسامية التي كانت نواة ثورة مسلحة على الاستعمار البريطاني ومشروعه الخبيث.
ورغم أنها لم تشمل سوى المناطق الممتدة من حيفا إلى جنين وأن قوتها كانت محدودة إلا أن مقاومتها الباسلة، ثم هزيمتها واستشهاد القسام نفسه أواخر عام ١٩٣٥ كان له الأثر الأكبر في بث روح المقاومة والكفاح. وتعتبر السبب المباشر لإندلاع ثورة ٣٦ التي شملت كل مناطق فلسطين. والتي تبلورت في شكل حركة وطنية واضحة لها مطالب محددة وهي إنهاء الانتداب وإقامة دولة عربية مستقلة وإيقاف الهجرة. وأصبح لها قيادة موحدة تزعمها الحاج أمين الحسيني.
ولكن تلك الصحوة المتأخرة لم تكن لتجدي نفعًا بعد أن كانت الحركة الصهيونية العالمية بمساعدة ودعم القوى الاستعمارية قد خلقت واقعًا جديدًا على أرض فلسطين والمنطقة العربية بنقل عدد كبير البشر وتوطينهم على الارض وتنظيمهم بشكل مدروس. كما أنها نسجت علاقات متشعبة عميقة مع النخب السياسية والاقتصادية والثقافية أيضًا في المنطقة العربية عبر العلاقات المباشرة أو الوسيطة أو المحافل الماسونية.
لقد وجدت ثورة الشعب الفلسطيني نفسها يتيمة ما بين قوة الإستعمار ونشاط المنظمات الصهيونية وواقع إقليمي مخترق حتى العظم بل شبه منخرط في المشروع العام. إضافة إلى وضع سياسي عالمي متأزم حيث كانت نذر الحرب العالمية الثانية تلوح في الأفق وتفرض التشنج الإستراتيجي، وتستدعي الاستقطابات السياسية بشكل مباشر وجلي.
لقد فشلت ثورة ٣٦ رغم عظمتها وتضحياتها لكنها أنتجت مشروعها الوطني وقيادتها
وفي هذه الفترة اختار أمين الحسيني الذهاب باتجاه دول المحور وبالأخص ألمانيا النازية. ويحمله الكثيرون المسؤولية التاريخية لما آلت إليه القضية الفلسطينية بسبب هذا الموقف. ولكن إنصافًا للرجل ولتاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية -دون ادعاء الحكمة بأثر رجعي- هل كان أمام الرجل خيارات أخرى في ظل حرب عالمية لا يقبل فيها من أحد الحياد؟
وبينما كان يرى الرجل أمام عينيه الإدارة الانجليزية ماضية في إنجاز المشروع الصهيوني على أرضه وأنقاض شعبه دون تراجع أو مراجعة. فهل كان أمامه الكثير من الخيارات؟
إن الحكم على ذلك يحتاج دراسة أعمق وأشمل، لكن بكل الأحوال لا يجب أن نتورط في إلقاء المسؤولية على الرجل أو القيادة الفلسطينية في تلك المرحلة لتبرئة الآخرين من جريمة الانخراط والمساهمة في إنجاز وحماية المشروع الصهيوني على أرضنا العربية وعلى حساب شعبنا وأمتنا. ثم وضعت الحرب أوزارها فوق رؤوسنا جميعًا من وقف مع المحور ومن وقف مع الحلفاء فقد كانت نتائج الحرب والترتيبات السياسية لما بعدها كارثية على أمتنا العربية بإنشاء كيانات قطرية مستضعفة مخترقة لا تقوى على حماية نفسها لتحمي أو تحرر غيرها.
ومن ثم تم تنفيذ الخطوة قبل الأخيرة باستصدار قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم ١٨١ أواخر عام ١٩٤٧ القاضي بتقسيم أرض فلسطين.
المصدر: اشراق