في هذا التحقيق تبحث حكاية ما انحكت في أوضاع السوريين (من أصول سوريّة ومن أصول فلسطينيّة) المقيمين في قطاع غزّة المحاصر بعد أن هربوا من حرب النظام السوري، فعايشوا حروبًا اسرائيليّة عديدة.
“كنّا نتمنى النجاة بأنفسنا من الجيش الإسرائيلي والحروب في غزّة بعد أن نجونا مرات عدّة من قصف النظام السوري”. هذا ما يقوله لحكاية ما انحكت، بيان حمودة (43 عام/ فلسطيني سوري يعيش في غزّة الآن)، في حين يقول وريف قاسم (41 سنة/ سوري مقيم أيضًا في غزة): “عندما تسألني طفلتي إيلياء (أربع سنوات) عن مصدر صوت القصف الاسرائيلي، أخبرها بأنّها مفرقعات ناريّة، حتى أنّني اضطررت لإحضار حبوب منومة حتى لا تشعر بالقصف الإسرائيلي والانفجارات التي كانت تحضر في منتصف الليل”، عاكسين بذلك واقع العائلات السورية والعائلات السوريّة الفلسطينيّة التي هربت من طائرات تقصف البراميل لتتشارك مع أهل غزة الحروب الإسرائيليّة المتكرّرة.
تعود أصول قاسم الذي يقيم في غزّة منذ ثماني سنوات ويعمل طباخًا في واحد من أكبر مطاعم غزّة، إلى قرية منَغ في ريف حلب الشمالي، أقام في حي الخالديّة في مدينة حلب لمدة خمسة عشر عامًا واستثمر مطعمًا في حيّ العزيزيّة ثم تركه بعد أن وصل قصف النظام السوري لمنطقته في تشرين الثاني من العام 2012. انتقل بعدها إلى ريف حلب الشمالي ومنها إلى تركيا ليبقى فيها شهرًا، ومن هناك وعبر باخرة من ميناء إسكندرون وصل ميناء بورسعيد في مصر.
تلقى عرضًا للعمل في مدينة غزة حين كان يعمل في أحد المطاعم المصريّة، وبعد تردد طويل وزيارة للقطاع المحاصر وصله عن طريق الأنفاق التي تربطه بالأراضي المصريّة، قرّر الاستقرار في غزّة، بعد خمسة شهور من العيش في مصر.
بعد عام من وصوله تزوّج وريف قاسم من الصحافيّة مها أبو الكاس، لكن فرحته لم تدم طويلًا، حيث بدأت الحرب الاسرائيليّة على القطاع في حزيران 2014، وبعد انتهاء الحرب في شهر آب من العام نفسه، عانى مثل باقي اللاجئين السوريين، ومثل باقي السكّان، في غزّة من ظروف اقتصاديّة صعبة.
“لكن الحرب الأخيرة كانت مختلفة” يقول قاسم لحكاية ما انحكت، “فالجيش الإسرائيلي ركّز على استهداف المناطق ذات الكثافة السكانيّة، ومواقع مركز المدينة، لكن الذي يفرق بين القصف الإسرائيلي وقصف النظام السوري، كانت براميل المتفجرات التي كان يقصف بها النظام السوري، لكن وبكل الأحوال فإنّ إجرامهم واحد”.
خلال الحرب تذكّر وريف قاسم أيامه الأخيرة في حلب، حينها عاش قرابة شهر في غرفة الحمّام التي تتوسط المنزل، هربًا من قصف النظام السوري، يقول لحكاية ما انحكت، “في غزّة فعلت الأمر نفسه، مبتعدًا عن الأبواب والنوافذ في أطراف البيت لعدم معرفتنا إن كان الجيش الإسرائيلي سيقصف هدفًا قريبًا منّا أم لا”.
عائلات سوريّة وعائلات فلسطينيّة سوريّة لجأت إلى غزّة
لجأتْ إلى غزّة 29 عائلة سوريّة الأصل بين عامي 2011 و2013، مسجلين لدى المفوضيّة الساميّة للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR. بعد الحرب الاسرائيليّة على القطاع سنة 2014 غادرت 20 عائلة الأراضي الفلسطينيّة إلى دول أوروبيّة مختلفة عن طريق المفوضيّة، فيما بقيت سبع عائلات وشخصين آخرين، بلغ عددهم ثمانية وعشرين فردًا، لغاية اللحظة في غزة، يجمعهم الظرف الاقتصادي الصعب
المصدر: حكاية ما انحكت/ملتقى فلسطين.
فيما بلغ تعداد السوريين من أصل فلسطيني، الذي لجؤوا إلى غزّة 1443 شخصًا، و360 عائلة، وذلك حسب وزارة التنميّة الاجتماعيّة في غزّة، بقي منهم في الوقت الحالي 83 عائلة و414 فردًا، ومعظمهم مُسجل في البرامج الغذائيّة التي يتم تقديمها للعائلات الأشد فقرًا.
بالإضافة إلى اللاجئين المُسجلين، يوجد حوالي 250 امرأة سوريّة تحمل الوثيقة الفلسطينيّة بحكم زواجهن من فلسطينيين.
راوية خطّاب، 57 عامًا سوريّة الأصل من العاصمة دمشق، تقيم في غزّة منذ عام 1995، جاءت رفقة زوجها أمين السبع الذي عمل في أحد الاجهزة الامنيّة التابعة للسلطة الفلسطينيّة عقب توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، وكانت قد تزوجته في سوريا عام 1990، وعاشت حياتها في غزة، وكانت آخر زيارة لها إلى سوريا عام 2006، تقول لحكاية ما انحكت إن غالبيّة أفراد عائلتها لجأت إلى دول أورروبيّة في السنوات القليلة الماضيّة.
“عشت مثل الفلسطينيات” تضيف خطّاب لحكاية ما انحكت، “عانيت مثل الجميع من الحصار الإسرائيلي منذ العام 2007 ولغاية اللحظة، وحضرت أربعة حروب إسرائيليّة، ونعيش مثل الفلسطينيين تمامًا، أنا والكثير من السوريات في غزّة اللواتي جئن مع أزواجهن الفلسطينيين الذين كانوا يقيمون في سوريا وعادوا لغزة عقب تأسيس السلطة وتوظيفهم فيها والعمل في وطنهم. لكن، أصعب ما نعيشه اليوم هو مشاهدتنا لوطنين مُدمرين، الوطن االأم السوري دُمر ولم تبقَ لنا عائلات فيها، وفي غزّة وطن جريح نموت فيه كلّ يوم”.
كيف وصل السوريون والسوريّات إلى غزّة؟
فرّ سوريون من حرب النظام السوريّ ومن قصفه المدن وحصاره البلدات واعتقاله للسوريين والسوريات وتعذيبهم، بعضهم وصل إلى أوروبا وآخرون إلى دول مجاورة، وحسب تقرير للمفوضيّة الساميّة لشؤون اللاجئين فإنّ أعداد اللاجئين السوريين وصلت في نهاية العام 2019 إلى ما يقارب 6.6 مليون لاجئ موزعين في أنحاء العالم.
وصل السوريون (من أصول سوريّة ومن أصول فلسطينيّة) قطاع غزّة في الفترة ما بين عام 2011 ومنتصف عام 2013، أي خلال فترة الثورة المصريّة وفترة حكم الإخوان المسلمين لمصر. بعد استيلاء عبد الفتاح السيسي على السلطة وسقوط حكم الإخوان المسلمين، تمّت إعادة النظر في إدارة حركة الدخول والخروج وازداد التدقيق الأمني في معبر رفح البريّ، نقطة الحدود المصريّة الفلسطينيّة.
دخل عمر عودة عودة القطاع (65 عامًا) مجبرًا في منتصف العام 2012، بعد أن ألقت الشرطة المصريّة القبض عليه لمخالفته شروط الإقامة المصريّة. يقول عودة إنّ الشرطة المصريّة “علمتْ بأنّني أحمل وثيقة اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، فقرروا ترحيلي إلى غزّة”. لاحقًا التحقت أسرته به في القطاع.
لم يبالِ بالخوف من النفق، رغم أنّه سمع كثيرًا عن انهيارات تحصل فيها وعن موت عاملين وعابرين، وذلك لأنّه نجا من قصف النظام السوري في مخيم اليرموك.
لكن بعض السوريين وصل إلى غزّة عن طريق الأنفاق التجاريّة التي كانت تصل القطاع المُحاصر بالأراضي المصريّة، وكان منهم عبد الله الرشيد (اسم مستعار، 40 سنة). عندما دخل نفقًا في مدينة رفح المصريّة متجهًا لرفح الفلسطينيّة تذكر مخيم اليرموك حين كان يتنقل بين بناء لآخر وصلًا للشوارع الخلفية البعيدة عن القصف، وهو منحني الظهر.
يقول الرشيد لحكاية ما انحكت، إنّه لم يبالِ بالخوف من النفق، رغم أنّه سمع كثيرًا عن انهيارات تحصل فيها وعن موت عاملين وعابرين، وذلك لأنّه نجا من قصف النظام السوري في مخيم اليرموك.
يعيش الرشيد لاجئًا في السويد منذ العام 2016 بعد أن استطاع السفر خارج قطاع غزة هو وأسرته المكونة من أربعة أفراد.
الحرب تلاحقني أينما ارتحلت…
هُجرّت عائلة بيان حمودة (43 عامًا)، من مدينة حيفا عقب النكبة الفلسطينيّة سنة 1948، إلى أن استقرت العائلة في مدينة درعا، جنوب سوريا، حيث وُلد بيان. عمل حمودة أستاذًا لمادة الرياضيات في إحدى المدارس الخاصة في مدينة درعا، إلى أن تركها هربًا في منتصف العام 2011 بعد اشتداد حرب النظام السوري ضدّ السوريين. وصل إلى دمشق ومنها إلى القاهرة فغزّة، ليكون من السوريين القلّة الذين عايشوا ثلاثة حروب اسرائيليّة.
وصل حمودة قطاع غزّة في شهر آب 2012، وكان شاهدًا على الحرب الاسرائيليّة في ذلك العام، التي أتت على منزله في حيّ النصر، غرب مدينة غزّة، فانتقل بعدها إلى حيّ الشجاعيّة، لكنّه نزح إلى مدارس الأونروا مع سكّان الحيّ خلال الحرب الاسرائيليّة الثانيّة التي كان شاهدًا عليها في العام 2014؛ الحرب التي أتت على منزله المُستأجر في الشجاعيّة. يقول بيان حمودة لحكاية ما انحكت “في الحرب الاسرائيليّة الأخيرة (2021) شعرتُ بأنّني سأموت مع أبنائي”.
لحمودة خمسة أبناء، اثنان يعيشان معه في غزّة وثلاثة في مدينة درعا. يحمل حمودة وثيقة سفر سوريّة للاجئين الفلسطينيين وهي منتهية الصلاحيّة، ولم يستطع الحصول على هويّة فلسطينيّة. “حصلت على عقد عمل لمدة عام واحد في وزارة التربية والتعليم في غزّة، لكنّني الآن عاطل عن العمل” يقول لحكاية ما انحكت.
يعتمد حمودة في حياته اليوميّة على المساعدات التي تقدمها منظمات وجمعيات مختلفة، إضافة إلى عمله في بعض الأيام كعامل مياومة في سوق الخضراوات.
الحرب الأخيرة والتفكير بالهجرة.. الهرب مجددًا؟
يقول حمودة لحكاية ما انحكت: “في الحرب الأخيرة واجهنا الموت وقمنا بإخلاء الشقة والمبنى الذي نعيش فيه عندما تمّ تهديد منزل مجاور لنا بالقصف. تضرّر البيت وتكسّرت النوافذ وخُلعت ثلاثة أبواب”.
يبحث الآن حمودة عن أيّ وسيلة للهجرة خارج غزّة، يقول إنّه “شعورٌ صعب عندما تعيش أنت وأبنائك غرباء في وطنكم الأم. الناس في غزّة طيبون، لكنهم فقراء وأنا فقير”. ويضيف بأنّه أحسّ بالعجز والضعف عندما فشل في حماية طفليه سمير (سبعة أعوام) ونادين (خمسة أعوام) أثناء القصف الاسرائيلي”
يقول عمر عودة في نفس السياق لحكاية ما انحكت إنّ “هناك عائلات سوريّة من أصل فلسطيني عايشت النزوح في غزّة عام 2014 وفي هذا العام، لأنّ القصف الإسرائيلي وصل المنازل التي يعيشون فيها بشكل مؤقت شمال قطاع غزة، فهم يبتعدون عن مراكز المدينة نظرًا لغلاء الإيجارات فيها”.
“السوريون والفلسطينيون السوريين لا يحصلون على فرص عمل لأنّ الغزيين أنفسهم لا يجدون عمل، لا يوجد أمامنا سوى السفر خارج قطاع غزة”.
كذلك فعل عودة نفسه في الحرب الإسرائيليّة الأخيرة، حيث ترك منزله ولجأ إلى بيت أحد الأصدقاء بعد أن وصل القصف الاسرائيلي البلدة التي يعيش فيها، فهم إما هاربون من القصف أو هاربون من الوضع الاقتصادي الصعب، الذي يشكل الفك الثاني للكماشة التي تطبق على أعناقهم، بعد القصف الإسرائيلي خلال الحروب المتكرّرة، وذلك بعد تمخّض الوعود المقدّمة لهم عن لا شيء.
حاول السوريون والسوريات (من أصول سوريّة ومن أصول فلسطينيّة) إيصال أصواتهم إلى السلطات الفلسطينيّة (كحكومة حماس التي تحولت لاحقًا إلى لجنة إدارة تحكم شؤون قطاع غزة، أو السلطة الفلسطينيّة في رام الله، والتي منحت عددًا منهم عقود عمل مؤقتة لا تتجاوز معظمها الشهور الستة في أحسن الأحوال) دون أن يلقوا آذان صاغية في غالب الأوقات.
يقول وريف قاسم إنّ “السوريين والفلسطينيين السوريين لا يحصلون على فرص عمل لأنّ الغزيين أنفسهم لا يجدون عمل، لا يوجد أمامنا سوى السفر خارج قطاع غزة وهذا لا يتم إلّا عن طريق المفوضيّة العليا لشؤون اللاجئين”.
يشير عودة إلى أنّ حركة حماس وعدت السوريين من أصل فلسطيني بشقق سكنيّة ووظائف مؤقتة وتحسين معيشتهم، لكن لم يحصل أيّ شيء من هذا، فمعظم العائلات السوريّة، سواء أكانت سوريّة الأصل أو فلسطينيّة الأصل، تعيش تحت خط الفقر.
يقيم عودة اليوم في بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، وقد أسس هو ومتطوعون آخرون، سوريون من أصول فلسطينيّة، في غزّة “لجنة متابعة شؤون اللاجئين من سوريا إلى غزّة“. يقول عمر عودة أنّ المدير السابق للجنة حصل على حق اللجوء في هولندا وهو الآن يدير اللجنة بمساعدة باقي المتطوعين.
“لم تلبِ السلطة الفلسطينيّة ومنظمة التحرير الفلسطينيّة وحركة حماس في غزّة وعودها للاجئين السوريين والفلسطينيين القادمين من سوريا. فكانت حركة حماس قد قدّمت وعدًا للعائلات السوريّة خلال لقاء جمع ممثلين اللجنة مع رئيس وزراء حكومة غزّة في ذلك الوقت، اسماعيل هنيّة، لكنها لم تَفِ بها”. يقول عودة لحكاية ما انحكت.
هذا الواقع دفع عمر للتفكير بكيفية إيصال أبناءه الخمسة إلى أوروبا، وقد نجح خلال العام 2020 في مساعدة أبنائه بصعوبة للسفر خارج قطاع غزة، وصولًا إلى أوروبا، لأنّه “سئم العيش في غزة دون وظائف أو تغييرٍ على الصعيد المعيشي الى جانب الظروف السياسيّة وتهديد الحروب الاسرائيليّة واندلاعها في أيّ وقت” يقول عودة لحكاية ما انحكت.
يشبّه وريف قاسم ما حدث للشعب السوري بالشعب الفلسطيني. يقول إنّه غادر بيته على أمل عودة سريعة إلى سوريا، مثلما فعل الفلسطينيون سنة 1948 الذي خرجوا مع مفاتيح بيوتهم على أمل العودة.
المصدر: حكاية ما انحكت/ملتقى فلسطين