عصمت سيف الدولة في ذكرى الغياب الحزين: “تنظيم قومي”

حبيب عيسى

لن نحول ذكرى الغياب الحزين إلى مأتم، وإنما نقطة انطلاق:  فنحن مازلنا نتنسّم أريج الجمهورية العربية المتحدة ، والذكرى العطرة للحلم العربي الذي نالت منه المحن ، لكن إلى حين ، وهذا “الحين” برسم الجيل العربي الشاب ، فهو وحده القادر على وضع حد للمحن ، وهو وحده القادر على تحديد ميعاد ولادة الجمهورية العربية المتحدة لزمن عربي قادم ، وإذا كانت تلك المناسبة تترافق بذكرى رحيل رجل أعطى عمره لتصميم ، وبناء جمهورية عربية متحدة ، لا ينال منها المجرمون ، لذا سيكون  الحديث منه ، وليس عنه ، حديث منه إلى الجيل العربي الشاب ،مضى عليه قرابة الأربعين عاماً ، لكنه مازال طازجاً ، حاراً يحّث الشباب العربي لامتلاك الأداة المناسبة القادرة وحدها على بناء صرح الجمهورية العربية المتحدة القادمة .

   أيها الشباب العربي منذ خمسين عاماً ، وبعد أشهر قليلة من غياب قائد معارك التحرر العربي جمال عبد الناصر، وبالتحديد في يوم : 8 يناير – كانون الثاني – 1971 توجه عصمت سيف الدولة إلى المكان المعني باستلام الدفة لمواجهة المخاطر ، والعواصف العاتية التي تحيق بالأمة ، توجه إلى جامعة القاهرة ليخاطب الشباب العربي محرّضاً على الفعل ، واستلام الراية قبل أن يدنسّها المرتدوّن ، هذا الحديث ، أيها الشباب العربي ، في جامعة القاهرة ، وفي جامعات العرب قاطبة ، وفي المعاهد ، والمدارس ، في المصانع ، والحقول ، والمؤسسات ، الآن ، بالضبط الآن ، أنتم وحدكم المعنيين فيه ، لهذا سأترك  الحديث له، فكم نحن بحاجة لهذا الحديث من عصمت سيف الدولة الآن، بالضبط الآن:

( 1 )

أيها الشباب العربي :

1 ــ في الوطن العربي دعـــوة مستمرة إلى إقامة تنظيم قومي تقدمي يقود الجماهير العربية إلى غاياتها “دولة الوحدة الاشتراكية والديمقراطية” . وقد كسبت الدعوة قوة دافعة من نداء وجهه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر سنة ١٩٦٣ عندما أعلن أن ..الحركة العربية الواحدة … قد أصبحت ضرورة تاريخية . وكان نــداء كالنذير عبر به القائد عن حصيلة خبرته في النضال العربي حتى ذلك الحين . كان مــّد الحركـة القومية العربية الذي بلـغ ذروته بمولد الجمهورية العربية المتحدة قد بدأ في الانحسار . نجحت طغمـة من الانفصاليين في اغتصاب الإقليم الشمالي سنة ١٩٦١ .. ووصل الصراع بين القوى العربية التقدمية ، وبين الرجعية العربية حـــد القتال المسلح في اليمن ، ودخلت الامبريالية المعركة سافرة بقوى من المرتزقة . وفشلت محاولات الوحــدة الثلاثيــــة بين الجمهورية العربية المتحدة ، والعراق ، وسوريا . وشنت القوى المعادية حربــاً نفسيـة ، واقتصادية شعواء ضـــد الحركـــة العربيـــة ، وقيادتهـــا . في ذلك الوقت كانت القوى العربية التقدمية تحــــاول أن تجمع قواها لتصمد . كانت تناضل من مواقع المقاومـة لتوقف المسيرة المتقهقرة منذ الانفصال ..وكان واضحاً أن كل أدوات المقاومة ، والصمود المتاحـة غير كافية للحفاظ على المكاسب التي تحققت ، وإيقاف الهزائم التي بدأت . وكان واضحا أن ما تفتقده الحركة القومية حتى تصمــد ، ثـــم تبدأ هجومها المضاد ليس عدالة القضية ، وليس صلابة القيادة ، وليس الجماهير المناضلـــة ، بل كانــــت تفـــتـــقد الأداة التي تجمـــع كـــل قواهـــا في قـــوة ضاربـــة واحـــــدة تواجه بها أعداءها في كل موقع . حينئذ أنـــــــذر جمال عبد الناصر بـــأن … الحـــركـــة العربية الواحــــدة … قــــد أصبحــــت ضـــــرورة تاريخـــــية …..

( 2 )

2 ــ ومنذ ذلك الحـــــين ، والدعوة إلى إقامــــــــــة تنـــــظيم قــــومـــي تقدمـــي قائمـــة قويـة لم تقطع استمرارها ، ولم تضعف من قوتها الأحداث العربية الإيجابية ، أو السلبية . فكلما تحّقق نصر في أية ساحة عربية اندفع دعــــــاة التنظيـــم القومي يقيمّون ما تحـــقق ويكشفون ما يواجهــه من مخاطر لينتهــــــوا إلى أن وجود التنظيم القومي التقدمي هو وحده القادر علي الحفاظ على النصر ، والانطلاق منه إلى نصر جديد . وكلما وقعت هزيمة ، ولو في حجم هزيمة ١٩٦٧ انطلقــــوا يحللوّنها ، ليردوها إلى أسبابها الموضوعية لينبهّوا إلى أن غــيبـــة التنظيم القومي التقدمي كانت السبب الرئيسي في وقوع الهزيمة . حتى عندما أثبت الشباب العربي مقدرته الثورية في ساحـة المقاومة ، وفي غمرة الانبهـــــــــار الجماهيري بضـــــوء المقاومــــــة المتألـــــــق وســــــط ظــــــلام ما بعد الهزيمة ، ذهـــب دعــــاة التنظيم القومي إلى أن مصدر الضوء في المقاومــة أنها ظرف تاريخي ملائم لمولد التنظيم القومي ، ووجهوا إلى الشباب العربي نــــذراً صارمـــة بأن فصـــائل المقاومـــة أمام اختيار دقيق فإما أن تتحـــــــول إلى قـــوة ضاربة لتنظيم قومي ، وإمـــا أن تواجـــه مخاطر الهزيــــمـــة . الهزيــــــــمة تأتيـــــــــها ، لا مــــــن أعـــدائهـا الصهاينة ، ولكن من الإقليمية فيهـــا ، والإقليميـــــــة من حولهـــــــــا . ( ……….) . حتي الآن ، ونحن نـــرى ، ونلمس عبـــث ، الدول ، والمؤسسات ، والمنظمـات الإقليمية ، بمصير الأمـة العربية ، وهي تستهلك القوى العربية في صراعاتها الطفولية حول مطامعها الحقيــرة تاركـة الجبهـــة الشرقية مفتـــوحـــة للقوى المعادية …نقول ، لو أن ثـــمـــة تنظيمــاً قومياً تقدمياً حقـــاً ، لإلزام العابثين في المشرق العربي أماكنهم في جبهة القتال أو لصــّفاهــــم ليــؤمّن ظهر المقاتلين على الجبهة . حتى الآن ونحن ندخل مرحلة حاسمة في معركـــة التحرير نقول أن النصر لن يكــــون لمن يملك أقــــــوى الأسلحــة بل لمــــن يستطيــــع أن يتحمـــّـل مشـــاق القتـــال إلى أن يعجز خصمــــه عـــن الاستمرار … في هذه الحــرب التي سلاحها الأول الصبر الطويـــل على أهوالها ، حيث لا يمـــد المقاتلين بالطاقات المتجددة على القتال حتى النصر إلا التحــام الجماهير وراءهـــا في تنظيم قومي عربي تقدمي واحد …

( 3 )

3 ــ ولقد قوبلت تلك الدعوة المستمرة ، الصامــدة ، العنـــيدة ، المــصّرة ، على بلوغ غايتها بكل أشكـــال المقاومـــة من أعداء المصيـــر العربي التقدمي . ولم يكن ذلك غريبـــــــاً . إذ لا يتوقع إلا الأغبــياء أن يهـــــادن أعـــداء الأمـــة العربية ، دعــــوة إلى حفــــر قبــورهم . ولكنها قوبلت أيضا من قوى لا تنكـــــر الهـدف ، بل تشكــك في سلامـة الأداة . فقــد قــيل أن التنظيم القومي غيـــر لازم ، وتغني عنـــــه جبهـــة تجمع بين القوى التقدميــــة المنظمــــة في الوطن العربي . وأرادوا أن يمتصـّــوا الدعـــوة إلى التنظيم القومي ، فأضافوا أن الجبهــة هي المدخل الصحيـــح ، والواقعــي إلى وحـــــدة التنظيم . وقلنـــا أن الجبهة قد تكون لازمـــة للنصر في معركــــة تخوضها قوى منظمـــة مختلفة المنطلقات ، متباينــة الغايات ، تلتقــي مؤقتـــاً ، ومرحليــاً ضـــد عـــدو مشترك ، ولكنها لا تغنــي عن التنظيم القومي موحــــد المنطلـــق ، والقـــوى ، والغايــــة . إذ مآل الجبهة إلى الانفراط ، ولو بعــد تحقيق النصــر المشترك ليستأنف كل فريق مسيرته إلى غايته ، ولـــو عن طريــق الصراع ضـــد الرفاق القدامى في الجبهة المؤقتـــــة . أمـــا التنظيــم القـومي فيجب أن يحتــفظ بوحدتــــه إلى أن يحقــق غايتــه الاستراتيجية … دولــــة الوحــدة الاشتراكية الديمقراطية …. وقلنـــــا أنـه مهمـا تكــن الأهداف المرحليـــة التي تجمــع القوى في ساحـة نضال واحدة ، فإن تجاهل الخلافات المبدئيــــة التي أنشأتها متفرقـــة منذ البدايـة ، مثالية فاشلة . ففي قلب الجبـهة ، ولو كانت موحدة القيادة يبقــى تعــــدد القوى قائمــــاً . وفي قلب وحــــدة العمــل التي تجمعها يبقـــى الصـــــراع بيـــنهـــا مستمـــراً . ومن هنا ، فليس صحيحـاً ، وليس واقعيا أن تكـــون الجبهــة مــدخلاً إلى التنظيـــم القومي التقدمــــي الواحــد . وطـــال الحـــوار حتــى دخلنا جميعا محنـــــة الممارسة . فإذا بالأحداث تثبـــت أن ما كان محسوبــاً من القوى القومية التقدمية ، لا هـــي قــــــوة ، ولا هـــي قـــومية ، ولا هــي تقدمـيـــة . وإذا بالقـــوى التي كانت تقــّـدم “الجبهــة” فيما بينها بديـــــلاً عن التنظيــم القومي ، متفــرقة ، متعاديـــة ، متصــارعة يواجـــه بعضها بعضـاً بقــوة الســلاح ، أو بقـــوة التآمـــــر . أكثـــر من هذا ما أصــاب بعض تلك القـــوى من تمـــزق داخلــي ، فلــم تستطع أن تحافظ على وحدتها الذاتيـة ، وهي التي كانت تبشرّ بطول عمر الجبهة بينها ، وبين غيرها إلى أن تصبح قــــوة موحــدة . إن الحــزب الشيوعي السوداني ، أكثـــر الأحزاب الشيوعية في الوطن العربي تعاطفــا مع الحركـــة القوميــة ، وأكثر المنظمـــات جديـــة ، وإخلاصــا في الدعـــوة إلى الجبهة كبديــــــل ، أو مــدخـــل ، إلى التنظيــم القومي التقدمي ، قد انشق إلى حزبين حــول قضيـــة أبسط بكثير من قضية تحقيق الوحدة الاشتراكية . قضيـــــة مــــا إذا كان انقلاب السودان يستحــق التأييــــــد ، أم لا ؟… والواقع أن الجبهة قد تكون مفيدة ، ولكنها ليست بديلا عن التنظيم القومي التقدمي …

( 4 )

4 ــ غير أن أقـــوى التحديات للدعـــوة إلى التنظيم القومي التقدمي جــاءت من داخـــل الجماهير المؤمنـة به ، المتطلعـــة إليه .. وكان تحــدياً في صيغـة سؤال متكرر …. كــــيف يقوم التنظيــــم القومـــــي التقدمـي ؟

إن طرح السؤال ذاتـــه كان يعنــي أن الأسلوب التقليدي لإنشاء المنظمات الجماهيرية لا يـــوفي بمتطلبات إقامـــة تنظيـــم قومي تقدمي في الوطن العربي …والأسلوب التقليدي هو أن تجتمــع قلـــة من الطلائــع ، أو الصــفوة كما يقال لتصوغ أهداف الجماهير التي تنتمــي إليها في وثيقـــة فكريـــة تحـــدد منطلقات مسيرتها ، وأهدافها ، وأسلوبها ثـــم تدعــوا الجماهير إليها فتقيـــم منها مؤسسة جماهيرية ملتزمــة بمبادئها وتدخل بها ساحـة الصراع حتى تحقق أهدافها ، أو تـنهــــزم .. ولا شـــك أن كثيراً من القوميين التقدميين الذين يرون في أنفسهم طلائع مسؤولـة عن إنشـــاء التنظيم القومي التقدمي ، قـد فكروا بأن يتصدوا لإنشائه بهذا الأسلوب . ولعلهم أن يكونوا قــد تبـــيــّنوا أن الواقع العربي الذي يريدون إنشاء التنظيم القومي التقدمي فيه أكثر تعقيداً من أن يستجيب لــه الأسلوب التقليدي في إقامـــة المنظمات الجماهيرية . وأن مشكلة إنشاء تنظيم قومي في الوطن العربي الممزق أكثر صعوبة من أن تناسبها الحلول السهلـــة . يكفي دليلاً على هذا أن أصحاب هذا الحل السهل الذي لا يتطلب إلا قلـــة من … الصفوة .. ووثيقة فكرية لم يستطيعوا أن يحققوه . فإما أنهم غير جادين ، وأما أن الحل السهل فاشـــل . ونحـــن ندافـــع عنهم فنقول أنهم جادون ، ولكـــن إنشاء تنظيم قومي تقدمي في الواقع العربي المعاصر لا يتحقق بقلـــة من الصفـــوة ، ولــو مجتمعــة في التنظيــم . إنها عندئذ لا تزيد عن أن تكون منظمـــة أخرى مضافة إلى المنظمات العديدة في الوطن العربي التي تسهتدف ــ فيما تعلن ــ دولة الوحدة الاشتراكية .

( 5 )

5 ــ ويمكننا أن نقدمّ سبباً على قدر كبيـــر من الجــدية ، أكثر الأسباب جدية في الواقــع ، حــال دون أن يقوم التنظيم القومي بالأسلوب التقليدي . ذلك هو أن الجماهير العربية العريضــة التي هي قــوة التنظيم القومــي ، وقواعــده لم تكـــن منظمــة تمــاماً ، ولم تكـــن منفرطـــة تمامـــاً . فعاشت فترة طويلة تنتظر ، وتتوقـــع أن تكتمل تنظيــــماً ، وبالتالي صـّــدت نفسها عن دعــــوة إنشائه بالأسلوب السهل . فمنذ سنة ١٩٥٥ ، والجماهير العربية ، أعرض الجماهير العربية ، التي لا شك في ولائهـــا لهدف الوحدة الاشتراكية تخوض معارك التحرر العربي تحـــت قيادة جمال عبد الناصر . طوال هذه الفترة كانت الجماهير العربية تـــعتبـــــر جمـــال عبد الناصر قائدها ، وتضـــع نفســــها تحــت قيــادته .

وطوال هــــذه الفتـــرة كان جمال عبد الناصر يقودها فــــعلاً في معارك التحـــرر في كل مكان من الوطن العربي من مركـــز قيادته في القاهــــرة . هذا واقــــع لا شــك فيه .

ومنــــه نشأت تلـــك العلاقـــة شبه المنظمـــة بين الجماهير العربيـــة في أنحاء الوطن العربي ، وبين قائــــد معركـــة التحـــرر العربي في القاهرة . وقد كانت تلك العلاقـــة من الـــقـوة بحيث نستطيع أن نقـــول ـ بــدون خطأ ـ أن كثيراً من القيادات في الوطن العربي كانت تستمـــد مواقعهـــا الجماهيرية من صلتها بالرئيس عبد الناصر ، أو في بعض الأوقات ادعائها أن ثمـــة صلة بينها ، وبين عبد الناصر . ولكن هذه العلاقـة القويـــة لم تصل أبــداً إلى مرحلـــة الالتحـــام بين القائد ، وجماهيره في تنظيـــم واحد …

لماذا ، مع أن جمال عبد الناصر كان أقوى صــــــوت دعــــــا إلى التنظيــــم القومي سنة ١٩٦٣ ؟…

هـــذا سؤال أصبح تاريخيا بدخـــــول جمال عبد الناصر في ذمــة التاريخ . ما يمكن أن نقوله الآن أن قطاعــاً من أنقـــى العناصر القوميـــة التقدمية ، وأكثرها وعـــــياً كانت تتردد في أن تتصـــدى لمسؤولية إنشــاء التنظيم القومي ، بدون أن يكون عبد الناصر في قيادتـــــــه . وكانت تنتــــظر ، وتتوقـــع أن تسمح الظروف المحلية ، والقومية ، والدولية الصعبة التي كان عبد الناصر يقود فيها معركــة التحرر العربي بأن يكمل الرئيس عملية الالتحـــام التنظيمي بين القيادة ، والجماهير .

( 6 )

6 ــ وبعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر أصبحت الحاجــــة إلى التنظــــيم القومي أكثر حـــّدة ، وذلك من نواح عـــــّـدة .. فمن ناحية أولـــــــى تجــد الجماهير العربية العريضــة التي خاضت معارك التحــــرير تحــت قــيـــادة عبــد الناصر أنها ، وقـد فــــقدت قــائدها ، مــــهـــددة ـ جــــــديـــــاً ، بالانفـــراط ، بكـــل مـــا تــعنـــــيـــه الكلمـــة إذا لــم تلــتحــم في تنظيم قومـي يحفظ وحـــدتها . وهي تـدرك تماماً ـ لا شك تدرك تماماً ـ أن وفـاة جمال عبد الناصر قـد وضعتهـــــا وجهــاً لوجــــه أمـام مسؤولياتــــها القوميــــة . وأنها تمـــر بمرحلــة اختبـــار حاسمـة لتثبـــــت فيها ما إذا كـان ترددها في إنشاء تنظيم قومي تقدمي كان حــقـاً انتظاراً لمبادرة جمال عبد الناصر ، أم كــان استغناء بالنضـال شبه المنظـم ، وشبه المسؤول ، عن النضال المنظمّ المسؤول . وأكبر خطأ تقـع فيه هذه الجماهير أن تحــاول خلق قائد آخـــر من طراز عبد الناصر .إنها إذ تخلقـــــه ، تختلــقه . وعبد الناصر لم يخلقــه أحـــد ، ولم يختـــلقه . فقد كان إفرازاً فـــذاً لمرحلــــة تاريخية لا تتكـــــرر . يكفــي أننا لا نعـــرف ، في كل ما عرفنا في التاريخ ، قائداً واحــــدا استطاع أن يقـــود جماهير عـــريضة لا سلطــــة لـــه عليهـــا ، وبــــــدون تنــــظـــيم ، ولفتــــــرة طويلة في معـــارك ضــــارية ضـــــد قــــوى شـــرســـة ، كما فــــــعـــل عبد الناصر . إن غياب القائد فجــأة قـــد أحــال غــيـبـتـه مأساة يفــتـقـد فيـــها رأيــه في كيف تكـــون القيادة بعـــده . (………………….) . وبقــي على جماهيره ـ كقائد حركــة قومية ـ أن يجدوا الإجابـــة على ذات السؤال في مســــتواه القـــومـــي .

وهــــم واجدوها بسهولـــة لأن الرئيس جمال عبد الناصر كان قد أجاب عليــــه .

ففـــي ٧ يناير “كانون الثاني” ١٩٥٨ سألـــه الوزير ، والأديب الفرنسي “بنوا ميشان” عما إذا كان يتوقـــع انهيار الحــــركـــة القوميـــة العــربية ، فيما لو توفـــي فجأة فقال رحمه الله ….

(… لا . إن القوميــة العربية هي التي خلقتني . لست أنـا الذي حركتهّــا بـــــل …..هي التي حملتنـــي . إنها قــوة هائلــة ، ولست أنـــا إلا أداتهـــا المنــفذة …..ولو لم أكـــن موجـــوداً لأوجــدت غيري ، واحداً ، عشــــــــرة ، آلافـــاً آخرين ليحّلوا …….محلـــي . إن القومية العربية لا يجســـّـدها رجـــل واحـــد ، أو مجمـــوعـــة من الرجــال ….إنها لا تتوقف على جمال عبد الناصر ، ولا على الذين يعملون معـــــه ……إنها كامنة في ملايين العرب الذين يحمل كـــل منهم قبـــساً من شعـــلة القوميـــة … إنها تيــــــار لا يقـــاوم ، ولا تستطيع أيـــة قـــــوة في العالم تحطيمـــّها ….طالمــــــا بقــــيت محتفظــــــــة بـثـقـتـها في ذاتــــــــهــا ….)

هذا هو رأي عبد الناصر ، وتلك هــــي إجـــــابتــــــــه ………

إن البديــل عنـــــه كأداة منــّـفذة للحركـــة القومية العربية مـــتاح في ملايين العرب القوميين ، وعليهم ـ إن غــاب ــ أن يحتفظوا بـــــثقـتهم في أنفسهم ، وأن يقيمـــوا أداتـــــــهــــم من بيـــنهـــم . ولا شك في أن الجماهير العربية واعــــية هذه الإجـــابة . هذا أنهـا ـــ منــذ وفاة الرئيس عبد الناصر ــ ونشاطها الفكري ، والحــركي متجهـــة بقــــوة إلى إنشاء التنظيـــــم القومي التقدمـــــي .

( 7 )

7 ــ ومـن ناحيــة ثانـية ، فإن كل الــقوى العربيـة ، من كان منهـا في مواقــع القيادة ، ومن كان خارجــها ، تواجـــه الآن ، وتلمـس ذلك الـفرق النوعــي في ثقــل الـقوة وفعالـيـتها بين الحركــة العربية الواحدة ، والحركات العربيـــة المتعــددة . ويدركـــون بسهــولـة أن القـوي العربية …موحــدة … تستطيع أن تقدّم أكثـــر ، بكثــير من …مجمــوع … ما تقــدمـه ذات القوى … مجـتمـعـه … ففي مــيزان الصراع ، على المستوى الدولي مثلاً ، كانت كـل دولـة عربيـة تمـّـثل ثقــلاً واقعـــيا مـعروفـاً ، حتى لـو بالغت هي فيـه ، أو أخــفت حقــيقته . ولم تكــن أيـة دولـة عربية قادرة على أن تكسب إلا بمقـدار وزنــها الحقيقي في موازين الصراع الدولي . إلى درجـــة أن استطاع الجنوب اليمني أن يهزم بريطانيا في معركــة التحرر بقوة السلاح . إلى درجـة آن استطاعت منظــمات المـقاومـة أن تبقى في وسط محـــيط عـدائي . إلى درجــة أن تفـقد الجمهورية العربية المتحدة قواتهـــا المسلحة وتصبـح حدودها مفتوحـة للقوى المعاديــة فتندفع دول تضــم أكثر من نصـف البشر تحميها حتى تنهـــض من كبوتها . إلى درجـة أن تنهــزم الدول العربية في معركــة صريحة ثـــم ترفـض مـذلة مفاوضة الــعدو فتعفيـــها أغلبيـة المجتمع الدولي من مــذلـة المفاوضة والاستسلام . وطوال خمسة عشر سنـة كانت الدول العربية ، كــل دولـة عربية ، تعيش لا تحــت حماية قواتــها الذاتيــة ، بــل تحـــت حماية قوة أخـرى قادرة على أن تضــرب في أي وقــت في كــل مكــان من الوطن العربــي . وان تـدخل المعارك حمـــاية لأيــة دولــة عربيـــة . تلك هـي قـــوة الجماهير العربيـة شـــبه المنظـمـــة تحـــت قيــادتها في القاهــرة . هذه القـوة كانت هي الإضافـة الهائلـة إلى وزن أيـــة دولــة . ومن هذه القــوة استمــدت كل الدول العربيـة الــثــقل الذي جعلها أهــلاً للصــداقة ، يمنحهــا الأصدقاء أكثر مما تستحق بـذاتها . وأهلاً للعداوة يخشاها الأعــداء أكثر مما تقــدر بقوتهـــا . هذه القـوة هي التي فرضـــت على أعتـــى القوى في العالم ألا تمــس شعــرة أي عــربي أو تحفـــر بئـــرا ولــو في الربـع الخــراب إلا بعـد أن تدخل في حساباتها رد فـعل الجماهير العربية ، أو أن تستأذن قيــادتها في القاهـــرة . ولولا هذه القــوة وثقلهـــا لما استطاعــت أية دولــة عربية أن تكـسـب ربـــع ما كسبتــه ، ولخـفتّ موازينـــها في الصــراع الدولي إلى الحد الذي يتــفق مع وزنـــها الخــفــيف .

نقول أيــة دولـة عربية ، لإنــه لا توجــد دولـة عربية واحــدة ، حتي الدول التي يسخرّها حكامها في مناهضــة الحركـة القوميـة التقدمــية ، لـم تتــمـتع فعلياً بحماية الجماهير العربية تحـــت قيادة عـبد الناصر . ولا يوجد حاكم ، أو قــائد عربي واحد ، حتى الذين عاشوا يناهضون عـبد الناصر ، يستطيع أن يزعـم أنــه لـم يكـن يعتــبر عبد الناصر ، والجماهير العربية تحت قيادته قـــوة ستــتدخل حتـما لحمـاية الشعب العربي في دولتـه ، أو تحت قيـادته ضـــد أي عـــدوان أجنــبي ، بصــرف النظر عن موقفـه المناهض .

كل هذا يحملنا على الاعتقاد ، بإن الدول العربية ، كل الدول العربية ، تــدرك الآن أنها مهددة بأن تفقـد الثــقل القومي من موازينـــها لــو أدت غيبـة قائد الجماهير العربية إلى غيــبة ثقــل تلـك الجماهــير . مهدّدة بأن تكون على قـدر حقـيقـتها الإقلــيمـية ..

وبينما سينتهز كثيــر من العملاء هذه الفرصــة ليكملــوا تســـــليـــم دولــهـــم إلى القــوى المعـــــادية ، فإن كــل الواعيــن على حقيقة الصراع الدائر في الوطن العربي ، ومـــوازين قــواه ، سيقـفون موقـفاً إيجابياً من إنشــــاء تنـــظيم قـومي تقدمي يحفـــــظ وحــدة الجماهير العربية ، ويحتفظ بالثــقـل الــقومي في موازين الصــراع . ولعــل من أهـــم دلالات هـــذا الاتجـــاه تلــك الخــطوة الحـــذرة إلى الأمـــــام التي تمــت في القاهرة يوم ٨ نوفمبر”تشرين الثاني” ١٩٧٠ بالاتفــاق على العمـل من أجـــل إقامــــة اتحاد بين الجمهوريـــة العربية المتحدة ، والجمهوريــة العربية الليبية ، وجمهورية السودان الديمقراطية . وهي خطــوة تتفــق طبيعتهـــا مـــع طبيعة الدول التــي اتخذتها ، ولكنها تعبــر عن اتجـــاه واضــح الدلالـة على وعــي القــادة فيها على مخاطر مـــواجهة المستقــبل من مــواقع التجـــزئة . وهي ذات المخــاطر التي أصبحت فيهــا الحـاجـة إلى تنـــظـيم قـومي مــلـــحـــة حتــى مـع الاعتراف بأن تلـــك الخــطوة التــي تمـت بين الـدول ليست الطريق إليـه .

( 8 )

8 ــ ليس من الغريب في ظــل كل هذه الظروف أن يصـــبح السؤال ….كــــيف يقــوم التـنــظيـم الـقومــي ؟ ملحـّـاً ، إلحاحـاً عـصبّـياً ، وأن يكون محــل حـــوار حـــّي دائــــر على أوسـع نطاق في صــفوف الشباب العربي . وقد كنا من قبــل نطـــرح السؤال في آخـر كل حديث عـن الفكر القومي ، أو عــن التنظيم القومي ، ثـــم نجـــيب ….غـير أن هذا حديث آخر . ولـــم يكــن ذلك هــــروبـــــاً من الإجابة ، أو جهــلاً لها . بــل كان تعبيراً عن اقتناع خــاص ، بأن الحــديث عن كـــيفــيـة قيام التنظيم القومي ، لــيــس قضيـة فكــرية مجــردة أو معــزولة عن المتحدثين ، والمتحــدث إليهم عن الخطــوات العملية لإنشـــــاء تنظيم قومي تقدمي في الوطن العربي ، بل يجـــب أن يرتفـــع بجــدّيتـــه ، وبمسؤليته عن أن يكون استعراضاً للمــقدرة على الحـــوار . يرضي غرور المتحدثيّن ، أو يشــبع فضــول الآخرين . وأنــه على هـذا الوجــه حديث خاص بيــــن قــوى مفـــرزة يــنـتـقـل بـه أصحابـه مــــن مرحلـة الاجتهــــاد الفكــري ، إلى مرحلـــة الالتـــــزام الثـــوري . وكنـا ، ومـــا نزال مقــتـنعيــن ، بإن كل ثــوري مثــقف ، ولكن لــــيــس كل مثقــف ثورياً ، وبالتالي فإنــه من الخطــأ الفادح أن يتوهـــم المثــقــفون الذين حملوا مسؤوليـة الدعــوة إلى التنظيم القومي أنهـــم ــ بهذا وحــده ــ مسؤولين عن إنشائــه ، أو قـادرون عليـــه . أو أن نتوقع من كـل قــادر على معرفـة المشكـلة أن يكون قادراً على حلــها . ولما كنا ننشــط في مستوى الاجتهاد الفكـــري ، فقـد كنا نقــف في الحـــديث عنــد حــدود الدعـــــوة .

غيــــر أن الظروف العربيـة التي أشـــرنا إلى بعضها قد طـــرحــــت على دعـــاة التنظيم القومي التقدمي مسؤولية مواجهة الإلحـــاح المشــــــروع الذي أصبح طابــع السؤال …. كيف يقـــوم التنظيم القومي ؟ وكان لا بـــد من التـــوفــيق بين ضرورة الإجـــابة ، ومسؤولية إبقــــاء الحـــوار في مستواه الفكـري معاً . فقدمّنا شطراً من الإجابة في تعليق … حول إعــلان العمـل من أجل “اتحاد عربي ثلاثي” … نشر في مجلــــة الكاتب العدد ١١٧ ديسمبر ١٩٧٠ …قلنـــا فيه …

(إن ما يخص الرؤساء الثلاثـة منــه ، هو على وجـــه التحديــد :

أولاً ــ ألا يحاولوا إنشــاء ( التنظيم القومي ) وهـــم في مواقع السلطـــة من دولهم حتى لا يأتي جهازاً من أجهزة الدولــة مشدوداً بقيودهـــا الدوليـة ، والدستورية ، فلا يقــدر على ما لا تستطيـــع هي أن تقدر عليـــه .

ثانياً ــ أن يكفوّا الدول التي يحكمونها عن تعـــويق إنشــائه ، ثـــم يتركــوا للقوى القومية التقدمية في الوطن العربي أن تواجــــه مسؤولياتها بعد أن واجهوا هــم مسؤولياتهم . )

إجــــابـــة سلـــبــية .نعــــم . ولكنها في رأينا إجابـــة على سؤال شائك كان مطروحــاً دائمــاً في الحـــــوار حــول الإجــابة الإيجــابية . بقــي أن تعرف القوي القومية التقدمية كيــف توفــي بمسؤولياتها . فإذا لــم تستطع ، فإنهــا ــ برغــم كل ادعـــاء ــ تكــون غــير ناضجــــة بالقــدر الكافي لتحمـّـل تلـــك المسؤوليـة . ويكون من خير الأمـــــة العربية ، ألا تستطيع قوى غــــير ناضجــــة ، إقامـــــة تنظـــيـــم تجـــــهـــض بـــه مـــولــد التنظيـــم القومـــي المنـتظـــر. .

وإلــى أن تــعرف ، فتســـطــيع …لا نستطيع من جانبنا إلا أن نتقـــدم إليها ، ببعض الاجتهادات الفكريـــة التي نــأمـــل أن تساعدها على معرفة الـــطريق إلى غايتها العظيمـــــة .

( 9 )

9 ــ تنظيم قومي من أجـل الوحــدة الاشتــراكية . هذه هي الغايـــة العظيمــة . كيف يــقـــوم ؟ ….. هذا هـو الســــؤال الذي لم نجــد صعوبـة في الإجــــابة عليه . وقـــد نستطيع أن نلتقـــي بالإجابــة الصحيحــة ، بتقديم عـــديد من الإجــابات اتكــــالاً على أن تصـــــح واحــــدة منها مصادفـــة . وهو أسلوب تجــريبــي أضعنــا فيه وقـــتاً طويلاً ، وهو كفـــيل بأن يستنفــذ بقيـــة أعمارنا في انتظار المصادفـــة السعيدة . فلماذا لا نحاول أسلوبا آخـــر ، فنــؤجــل الإجابة إلى أن نستولـــدها من مضـــمــون السؤال ذاتـــه ؟

فنحــاول أولا أن نعــرف خصائص التنظيــم القومــي فلعلنا ، عندما نعــرف خصائصـــه ، أن نعرف الإجابــة الصحيحــــة عن السؤال …كيف يقوم ؟ …

( 10 )

١٠ ــ يتــكون التنظيم القومي من ذات العناصــر اللازمـــة لقيام تنظيـــم جماهيــري . نظرية فكـــرية تحـــدد لــه المنطلقات ، والغايات ، والأسلوب . وجمــاهير تــؤمــن وتلتــزم هــذه النظريــة ، تجمـــــعــها… مؤســســـة …. وتمثلهـــا قيادة يتـــم العمـــل فيها طبقـــاً لنظــام داخــلي يحــدد حقـــوق ومسؤوليــات القـــواعد والكوادر والقيــادة . وما دمنا نستهدف الوحدة الاشتراكية ، فليس ثمــة أيــة صعوبــة جدية في توفيــر كل هذه العناصر . فصياغـــة وثيقــة فكريـــة تربط بيــن الوجــود القومــي كمنطلــق ، والوحــدة الاشتراكية كغـــايـــة ، والثـــورة الجمــاهيرية كأسلوب ، أمـــر لا يحتاج إلا إلــى الجهـــد الـــلازم ، لبلورة الفــــكر القومـــي التقدمي المتاح في وثيقــــة واحـــدة . والجماهير العربية المؤمنـــة الملتـــزمة بهـــذا الفكر القومي التقدمي تشكـــّـــل أعــرض قطـــاع في الشـــعب العربي . أمـــــا عن القـــيادة فالقيادة الجماعيـــة كفــيلــة بتوفيرهـــا . نــريد أن نقول أن المشغولين جــّـدياً ــ على الأقــل ــ بإنشاء التنظيم القومي لا يعتقدون أن أياً من هذه العناصر غير متاح ، أو من الصعــب توفيره .

ولكــــن مصــدر الصعوبـــة ، ليس هنا ….إن مثل هذا التنــظيم ، أن قــام ، فسيكون تنظيماً جماهيرياً من أجل الوحدة الاشتراكية . وفي الوطن العربي عشــــــرات من الأحـــزاب ، والجماعات المنظمــــة تتوافــــر لها كل هــذه العناصر بما فيهــا التزامهـــا الوحدة الاشتراكية غــــايــة . ونعرفها من شعارها المثلث … الحرية والوحدة والاشتراكية ، أو أيــّـاً مــا كان تــــرتـيب الكلمـات ما دامت تعنـــي التعبيـــر عن الهدف النهائــي … الوحــدة الاشتراكية . ومـع هذا فإن ضرورة إقامــة تنظيم قومي قائمـــة مع وجـود تلك المنظمات . بــل ، منها مــا يــــزيد ، ويعلــــــــــــن أن مـن غايـــــات نضاله إقامـــة التنظيم القومي ، والإسهام فــي إقامته ، أو الدعـــوة إليـــه . وهـــو ما يعـــني أن ثــــمـــة تسليمـاً بأن التنظيم … القومـــي … من أجـل الوحدة الاشتراكية يتضمـــن شيئـــاً أكثـر من مجـــرد التنــظيــم …..الجماهيري ….من أجــل الــوحدة الاشتراكية . يتضـــــمـــن أنـــه مؤسـســـة قـــوميــة ، وليس مؤسســة إقليـــمية . نقــــول … مؤســســـة .. وننبــــّـه إلى هذا القول ، لأن التميـــيز القومي هنا ليــس منصـّـبـاً على الغايـــة بــل منصــب على طبيعــة المؤسـســة الجماهيريــة . فــفي الوطن العربي المجـــزأ قــد تكــون المؤسسـة الجماهيرية قوميــة الغايــة ولا تكــون ــ بالضرورة ــ قوميــــة التكويـــن . وعندما نستطيع أن نــعرف كيــف يكون هــذا ، وعلاقــته بالواقـع العربي ، نكــون قـد انتـبهـنا إلى أهـم خصائص التنظيم القومي الذي ندعو إلى إقامته . فنستطيــع ــ من ناحيـــــة ــ أن نعـرف لماذا لا تغني عن التنظيم القومي ، أيـــة منظمـــة قائمـــة في الوطن العربي تحت شعار الحرية والاشتراكية والوحدة . وقــد نعرف من ناحية أخــرى أن المقدرة على إنشاء التنظيم القومي متوقفـة إلى حــد كبير على المقدرة على التميــيز بين التنظيـم القومي اللازم لتحــقـيق الوحـدة الاشتراكية ، وبين المنظمات الإقليمية التي تعلــن التزامها بذات الهدف .

( 11 )

11 ـــ فلنسترجع أولا تلك الحقائق التي نعرفها ولا ننتــبه كثيـــراً إلى دلالـــتهــا ..

الشعب العربي ، الجماهير العربية ، هــي ، هــي ذاتهــا شعوب ، وجماهير الدول الإقليمية . الوطن العربي ، الوطــن القـــومي ، هـو ذاتـه المجـــزأ بين الدول الإقليمية .الإمكانيات القومية هــي ذاتها المقسمـّــة إلى إمكـــانيــات إقليمية . كل معركـة تحـرر في إقليم هــي جـزء من معركــة التحرر القومي . كــل خطوة تقدمية في إقليم هي خطوة إلى الاشتراكية العربية . كـل مــــنــا قومـي الانتـــماء إقليمي الهــويــة . في هذا الـــواقع ، لا يوجد شعب قـــومـــي مفرز . ولا أرض قوميــة خالصـة . ولا يوجــد شخص قــومي متحرر تمــاماً من هويته الإقليمية ، بمـا تتــضمنــه تلك الهــويــة من قيــود ، وحـــدود لا تتفـق مع انـــتمائه القومــي . في هذا الواقع العربي الذي نعيشه تختلــط القومية ، بالإقليمية اختـــلاطــاً يفرض على الإقليميين أن يخوضوا معارك قومـية ويسمح للمؤسسات الإقليمية بان تمــد نشاطها إلى خارج إقليمهــا ، ويسمح للفكر الإقليمي بأن يندس في الفكـر القومي ، أو أن يرفـع شعاراتـــه .

في هذا الواقع نريد أن نقيم تنظيمــاً قوميــاً . قومــياً من حيث هــو مؤسســة . نريد أن نجسّد الأمــة العربية في … مجـــتــمــع … مفـرز ، ومطــّـهر تمامـاً من الإقليمية ، فــــكراً ، وبشـــراً ، وقيـــادة ، وحـــركـــة . تكـــون مهمــتـه تجســيد مصيـر أمــتــه في دولة الوحدة الاشتراكية . إن هذا يعنـــي أننــا في حاجـــة إلى مقــاييس دقيــقة للتحـــقق ، ما إذا كانت … مؤسسة جماهيريــــة … ، هي مؤسسة قومـيــة ، أم لا …؟ .

إن القياس أسهل عندما تكـــون تلك… المؤسسة …إقليمية الغاية ، إقليمية القوى ، إقليمية القيادة ، فلا تثير أيـــة صعوبــة في التعرف على هويتهـــا . ولكن هذه ..المؤسسة .. الجماهيرية تصبح مضللــة إلى أقصـــى درجــة عندمـا تطــرح نفسهــا على الجماهير العربية على أنها مؤسسة قوميـة . لأنها ـــ خلافا للدولــة الإقليمية ــ غير مقــيدة بأرض ، أو حــدود ، أو قوانين دوليــة ، أو دستوريــة . فهي قادرة على أن تختار ما تشاء من أفكار ، وترفــع ما تريــد من شعارات ، وتنشط حيـث تستطيـع أن تنشط ، وتضـم إليها ما تنـــتقــي من أشخاص .

فكيف نعرف ، مـا إذا كانت مؤسســـة قومية ، أو إقليمية ؟؟.

لنستبعد أولاً ، المقاييس الذاتيـة . إن رفض ، أو قبول منظمـة جماهيرية ، كتنظيم قومــي على أساس الخبرة الذاتيـة ، بإحـــد قادتها ، أو ببعض العاملين في أجهزتها ، أو المنـتميــن إليها ، موقف غير موضوعي . لا يكشـف من طبيعـة المؤسسة ، بقدر ما يكشف من طبيعـة صاحبـــه . فكما أن وجـود القوميين في أجهزة الدولة الإقليمية ، وحتــى في قيادتها ، لا يغير من طبيعتها شيئاً ، كذلك لا يغيّر من طبيعة المؤسـســة الجماهيرية ، أن يتسلل إليها بعض الإقليميين . نحــن نقــيــّم .. مؤسسة .. ولا نحاكم أفراداً . والمؤسسة ، أيـة مؤسسة ، ستلفظ ، أو تهضـــم في النهاية ، الذين أخطأوا الاختيار ، فانتموا إلى غير مؤسستهـــم .

ولنستـبعد ثانياً ، المقاييس الدعائيــة . إن مجرد صياغـــة وثائــق مليئـــة بالحــديث عن القومية ، والوحدة ، والاشتراكية ، وإعلانهـــا ، أو حتى الالتقــاء عليها ، والتزامـــها لا يعنـي أن الذين كتبوهـــا ، وأعلنوهــا ، أو التقــوا عليها ، والتزموهــــا ، قـد أصبحوا ، بهــذا وحده ، مؤسســـة جماهيرية قوميــة . إنهم ــ على أحسن الفروض ــ جماعـة منظمة من القوميين التقدميين يريدون أن يتحولوا إلي تنظيم قومي . فهـــم … مشروع … مؤسسـة قومية لن يصبحوا تلك المؤسســة ، إلا عندمــا يستكملـــون خصائص التنظيــم القومي .

هذا مع التسليم بان الالتــزام العقــائدي بتحقيـق الوحدة الاشتراكية ، هو أول خصائص التنظيـم القومي ، فيه يجســـد التنــظيـم مصيــر أمتـــه .

ولنستبعد ثالثاً ، المقاييس الحركيــة . إن مجـرد مــــد التنظيــم إلي خارج حــدود الإقليم ، لا يعنـــي أن التنظيم ، بهذا وحده ، قد أصبــح مؤسسة قوميـــة . فقد عرفنــا أن الواقع القومي يفرض على الإقليميين أن يخوضوا معارك قوميــة ، ويسمـــح لمؤسساتهـم بإن تمّــد نشاطها إلي خارج أقاليمها . وليس من المستبعــد أن تأخذ القوى الإقليمية شكـــــل التنـــظيــم الجماهيري ، وأن تمـتـد إلى أكثر من إقليم ، وتدعـيّ بهذا أنهـا قـوى قومية . بـل أن هذا غطــاء جـــيد للنشاط الإقليمي في ظــل الالتـــزام المتبادل باحترام استقلال الدول الإقليمية . إذن فمجــرد الامتداد التنظيمي خارج الإقليم لا يكفي ليكوّن المنظمين مؤسسة قومــية . إنهم ــ على أحسن الفروض ــ جماعـة منظمـة من القوميين التقدمييـن يريدون أن يتحولوا إلى منظمـة قومية عن طريـق استقطاب الجماهير العربية خارج الحدود الإقليمية فهـم … مشروع ..مؤسسة قومية لن يصبحوا تلك المؤسسة ، إلا عندمــا يستكملون خصائص التنظيـم القومــي .

هذا مع التسليم بأن رفض تجزئة الشعب العربي ، وقبول الانتمــاء من أي مكان في الوطن العربي ، من أهــم خصائص التنظيـم القومي . فيه يجسّــد التنظيــم وحدة الشعب العربي ، بــدون حاجـة إلى أن يكـــون قــد امتد فعلاً فشمـــل الأقاليـــم .

إذن ، فتجسيــد المصير القومي في التــزام عقائدي بتحقيــق دولـة الوحدة الاشتراكية ، لازم لتكـــون المؤسسة الجماهيرية تنظيمــاً قومياً ، ولكنــه لا يكفي للتمييــز بينها ، وبين المؤسسة الإقليمية التي قد تلتـزمــه . وتجسيــد وحــدة الشعب العربي بقبــول الانتمـــاء إلى المؤسســة الجماهيريــة بــدون قــيد من التجزئـــة الإقليمية لازم لتكون المؤسسة الجماهيرية تنظيماً قوميــاً ، ولكنه لا يكفــي للتمييــز بينها ، وبين المؤسسة الإقليمية التي قد تحاولـــه .

مـــاذا بقـــــى ؟

بقــي تجسيد الوجـــود القومــي ذاتــــه . تجسيد الأمـة العربية في الحقيقة الداخلية للمؤسسة الجماهيرية ذاتها . عندما تكون المؤسسة الجماهيرية هي الأمـة العربية مبلورة فهي مؤسســـة قوميــة ، وإن لــم تمـــتد قواعدها إلى أكثر من إقليــم . وإن كانت هي الإقليمية …مصغــّرة .. فهي مؤسسة إقليمية ، وإن امتدت قواعــدها إلى كل الأقاليم . ونعــرف هذا عــادة من التركيب الداخلــي للمؤسسة . فحيث تمـــتــد الفروع ، وتشكـل القيادات متبــعة في هذا التمثــيل الإقليمي على طريقـة .. الجامعـة العربية .. تقوم شبهـــة قويــة على أننا في مواجهـة منظمــات إقليمية مجتمعـــة في مؤسسة مشتركـــة ذات شكـل قومـــي . نقول شبهــة قويــة ، ولا نجـــزم بالإقليمية . لأنــه من الممكن أن يحـــتج بان ذلك مبرر بضرورات … عمليــة … ونكون في حاجـــة ــ حتى نجــزم ــ إلى معرفـة العلاقــات التي تحكــم هذا التركيب الداخلي . علاقـة المؤسســـات القوميــة ( الأمـــة مبلــورة ) ممثلــة في قيادتها المركزيـــة بأحــد فروعهــــا ( الإقليميــة مصغــرة ) ممثــلاً في قيادته الإقليمية . فإذا كانت المؤسسة هي التي تقــود الفروع ، وتحدّد لــها مهماتها ، طبقاً لاستراتيجيتها القوميــة ، فهــذه مؤسســة قوميــة تنشط في الأقاليم من خلال فروعـــها . وإن كان الفرع هـــو القائـــد طبقــاً لمصالحـــه الإقليمية ، فتلــك المؤسسـة الإقليمية تنشط خارج الإقليم تحت غطــاء قـــومي .

هذا هو المقيـــاس الإضافي الذي تكتـــمل به معرفـة خصائص المؤسسة القوميــة . مفترضين ـ طبعاً ـ أن تكون ثمــة …مؤسسة … لها قواعـد تمثلهّا قيادات ، وتحكمهــا علاقات تنظيمية ، وتحتـــكم فيما بينها ، إلى منطلقات ، وغايات ، وأساليب واضحــة . أمـا عندما نكون في مواجهـة تجمــع جماهيري ، لا تمــثل قيادتـه ، قواعــده ، ولا تحكمـه علاقات تنظيمية تكون بها القيادة ، قائدة فعــلاً ، وتكــون بهــا القواعـد ملتـــزمـة فعـــلاً ، ولا يملــك الناس فيـه ما يحتكــمون إليه ، فإننا لا نكون أمـــام … مؤسسة .. لا قومية ، ولا إقليمية . وقد يكــون من المفــيد حينــئذ أن نفتـشّ عن القـوة الحقيقية التي تختفي وراء شكل المؤسسة ، لتحـرك الجماهير إلى غايتهـــا ، هي ، وليس إلى غاية الجماهير.

وهو مقياس موضوعي ، لحقيقة المؤسسة الجماهيرية ، فهو غير قابل للتأثر بالمواقف الفردية . فلا ينال من صحتــه أن تتهــم القيادات بالضعــف ، أو تتهـــم الفروع بالانـحراف ، فستبقى المؤسسة ذاتها مسؤولة عن قياداتها الضعيفة ، أو فروعهــا المنحرفة . كما لا ينال من صحــته ، اتهام … قوى … خارجية بتخريب المؤسسة داخلياً ، فستبقى المؤسسة ذاتها مسؤولـة عن قابليتها للتخريب الذي مكـــّن منهــا من خـربوها . وأخيراً لا ينال من صحتــه اتهـــام الظروف التاريخية لنشأة المؤسسة التي أدت إلى أن تكون فروعها ، أو أحــد فروعها ، أقوى من قياداتها ، فستبقى المؤسسة حاملــة في ذاتها خطأ تاريخياً .

( 12 )

12 ــ هــل قدّم هــذا المقياس الإضافي إجــابة على السؤال …كيـف يقوم التنظيـــم القومـــي ؟

قــدّم شطراً آخر من الإجــابة هـو …أن التنظيم القومي من أجــل الوحــدة ، لا يمكــــــن أن يكون قومياً ، إلا إذا نشــــــــأ ديمقراطيا . إلا إذا تولتّ قــواعــده الملتزمـــة ، غــــايته ، مهمـــة إنشائـــه من القــاعدة إلى القمــة . وعندمـا ينشأ التنظيم القومي ديمقراطيـاً ، لا يبقــى قوميــاً ، إلا بقدر ما يبقــى ديمقراطيا . تختـــار قواعـده قياداتـــه ، وتحاسبهـا ، وتغيرّهـا ، وتتولى عن طريقهــا قيادة فروعــه الإقليمية ، وردعهـــا .

( 13 )

13 ــ لدينــا الآن ، إذن ، عــدة خصــائص لا بــد من أن تتـــوافـــر في التنظيم القومي من أجـل الوحـدة الاشتراكية ..

أولا … أن يكون مؤسســـة جماهيريـة مستقلــة عن كافــة المؤسسات الرسميــة ، والجماهيريــة الإقليمية .

ثانيا … أن يقــــوم ملتزمـــاً ، بنظريـة تحدد لــه المنطــلـق ، والغايـة ، والأسلوب في مستــواه الاستراتيجي .

ثالثا … أن يكون الانــتمــاء إليــه غيــر مقـــيد بالانتمـــاء السياسي لأيـــة دولــة عربيـــة .

رابعا … أن ينشأ ديمقراطيــا من القاعدة إلى القمــة ، ثــم يــــــــبقـــى ديمقراطياً .

إن كل واحدة من هذه الخصــائص تعتــبر حـــداً غير قابــــل للتجاوز في إنشاء التنظيم القومي . وكل منها سيعطينا عــدة إجابات واقعية عن الخطوات الفعلية اللازمــة لقــيام التنظيم القومي . الأولى أعطتنا الإجابة السلبية التي وجهّناها إلى رؤساء الدول الثلاث . والثانية تعطينا الإجابــة التي تفرز بــــها القـوى التي تســـهم في إنشائه ، أو تنتــــمـــي إليه . والثالثــة تعطينا الإجـــابة كيف يتجســد تحـــرره من الانـتمـــاء الإقليمي . والرابعــة تحدد لنا المسؤولين عن إقامـــة التنظيــم القومي .

إنهـــــم الشبــاب العربــي الذين يرشـــحون أنفســـهم ليكـــــونوا قــــواعـــده وكــــوادره .

( 14 )

14 ــ أمـــا عن المنظمـــات ، والجماعات المنظمــة القائــمـة في الوطن العربي ، والتي تعلــن أن غايتها الوحدة الاشتراكية ، ولا تتـــوافر لها واحــدة أو أكـــثر من تلك الخصائص فعليــها قبــــل كــل شيء أن تتحـــرر من عــقـدة الــذنب ، وهي تجـــد نفسهـــا غيـر قادرة على الــوفــاء بمتطلــبات غايتهـــا . إنها إذ تتحرر من هذا الشعـور المــدمّـر تكـــف ــ كما نأمــــل ـ عن المحاولات العقيـــمة في الدفاع عن وجــودها في مواجهــــة محاولات إنشاء التنظيم القومي التقدمي ، أو الدفاع عـن المحاولات الساذجــة لفرض وجودها على هذا التنظيم ، للتدلـــيل على براءتهـــا من تهــمـة الإقليميـــة . إنها إن كانت صادقــة في غايتها المعلنــة فيكـفيــها أنها قد حاولت ، ونجــــحت ، في أن يبقـــى شعــار المستقــبل العربي مرفوعـــاً ، ولـــو بدون تحــــقــــق ، وأن تبقـــى القــوي القومية التقدميـة متجمعـــــة ، ولـــو بــــدون وحـــدة . وإن كانت قــد فشلــت في تحقيــق غايتهــا المعلنـــة فليــس من اللازم أن يكـون مـــرجع هــذا إلى تقصــير في استخــدام قــواهــا المــتاحـــة بــل لعـــــل مرجعـــه أن يكـــون إلى أن قواهــا المتاحـــة قـاصـــرة ، بطبيعـــتها عن أن تـــوفــي بمتطلــبات الغاية العظيـــمة . وأهـــم أوجـه قصــورهـــا ، قياساً علـى خصـــائــص التنظيم القومي ، أنهـــا نشــــأت إقليـــميـــة ، ولــو كان الــــذين أنشأوهــــا قـــــوميين ، ومـا تـــزال تحمـــل ـ برغــم غــايتهــا القومية المعلنــة ــ ميـــراث نشــأتها الـــذي حـــال ، ويحـــول دون أن تتحــول إلـــى مؤســـســة قــومية . وكـــل مؤسسة منهــــــا حــاولــت هــــــذا لـــــــم تلــــبث أن مـــزقــــــهــا التــــناقـــض القائــــــم مـــــنذ مـــولدهــــــا بـــين طبـــيـعتـــها كمؤسسة إقليــمــيـة ، وبــــين غايتهـــا القـــــــوميـــة .

فلا حقــــقت غــايتهــا ، ولا احتفـــظت بوحــــــدتها . وكـــان الشــباب القومي التقدمي ، القـــــواعـــد البريـــئـــة ، هــــم الضحــــايا في كــل مـــــرة . فلا يحــــاولـن أحـــد أن يكــــــرر أخـــطاء مــن سبقـــه فيـــــزعــــم أنـــــه أكـــثــر مـقــدرة مـــن غيــــره علـــى أن يتحــــــدى الحــــقائــق الموضوعيـــة . ولـــيـّــكـــــف ، الذيـــن لــــم يخطـــــئـــوا بعـــــــــد ، عــــــــن محــــــاولـــة الخــــــطـــأ .

فإن كفــّــوا عــــن المحـــاولـــة ، والخـــطأ ، واعتـــرفــوا ، بأن مؤسســـاتهــم إقلـــيميـــة فــــــلا بـأس فـي أن يعـــترف لــــهم ، بأنـــهم قومــــيون تقــدميون مــن حــيث الغايـــة التي يستهدفونهـــا ، يعـــانون من مـــأزق انتمائهـــم إلي مؤسسات إقلــيميـــة . وتكون مشكلتهـــــم هـــــي كــيــفية الخـــروج مــــن هـــذا المأزق 0 عندئـــــذ يتـــبـيّنـــون بوضـــوح أنــــنــا إذ ندعـــو إلى إنشاء تنظيــم قومي تقدمي إنمــــا ندعـــو إلــــى إنقــــاذهـــــم .

لســـــتــم مــذنبـــين إذن إن كنـــتم صادقيـــن . بــــــل تلــــك مسؤوليـــــة تـــــاريخـــــية .

وللــــــــصدق محـــّـكات لا تخـــطئ .

أولهـــا اعـــتراف تلـــك المؤسسـات ، والجماعات المنظمـة القائمـــة في الوطـــن العربي ، أنـــــها ، بـــرغــم كل ما تقــدمــــه مـــن جهــــد ، ليـــــــست أدوات تحقيـــق الــــوحدة الاشتراكيــــة ، إنمــــا أداتهــــا التنـــظيـــم القومي التقدمي ، بكـــل خصائصـــــه . ذلك لأن تلــــك الخصـــائص ليــــــست ابتكــــاراً مثـــاليــــاً ، بـــــل هــــي متطلبــــات موضوعــــية يفرضهــــا الواقـــع العـــربــي ــ كمــــا هــــو ــ حتـــى تكـــون الأداة مناســـبة لتحقيـــق الغايـــة . وإن كـــان لا بـــد مـــن دلـيــل تعرفــــه تلك المؤسسات معـــرفــة اليـــقـين فـــهو نجاحـــــها ذاتـــــه .

إن أي مؤسسة منهــــا تنــــجح فـــي استــقــطاب الجمــاهير في إقليمـــها ستـــجــد نفســها فــي مواقــع السلطــة من دولـــتها الإقليمـــية . ويتــــبّيــن لهــا بوضوح قاطــــع أنهـــا عندمـــا تبلـــغ أقصـــى قوتهـــا تنـــتهي إلى نهايــــة الطريـــق المســــدود ، دون الوحدة الاشتراكية ، لأنــــها تنـــتــهــي إلـى أن تكـــون حاكــــــمة لدولـــة إقليميــــة ، أو شريكــــة في حكـــــمها . فتصبـــح ــ بهذا وحــده ــ أكثر عجـــزاً من ذي قبـــل ، لا عـــن تحقيق الوحدة الاشتراكية ، فحســـب ، بـــل حتــى عــــن الامتـــداد التنظيمي خارج الدولـــة التي تحكمهـــا ، والذي سيعتـــبر حـــينئـذ تــدخــــــلاً في شئــــــون الدول الأخــــرى الداخليـــة ، إن لــم تردعـــه السلطـــة فيها ، يردعــــه مجلس الأمـــن الدولي .

ثــــم يأتــي المـــحــك النهائـــي ، لصدقهـــا فيمـــا تعلـــن ، من أنهـــــا تستـــــهدف الوحدة الاشتراكيـة . بإعلان موقفها الأيجابي من التنظيــم القومي التقدمـــي ، ومحاولات بنائـــــه .

إنها إن تكـــن صادقـــة ، فـــلا بـــــد من أن تكون مــدركـة وجودها ، إن كان يتــفــق مـــع ضرورات مـــا قبـــل التنـــظيـــم القومــي ، فإنــه ليس بديلاً عنـــه ، ولا طريقـــاً إليـــه . وعليهــــا إن صـــدقت أن تعلــن ، ثـــم تبدأ مـــن الآن في تحضـــير أعضائها لمرحلـــة الانتقــال من منظمـــات الضــــرورة ، إلى التنظيم القومي . ولعـــل أفضـــل ما تعبـــر بــه عن هذا الصـــدق هــــو أن تسمــــح لـــدعــــوة التنظيم القومــي ، بــــأن تــــطـــرح على قواعـــدهــا ، وكوادرهـــا ، وأن تبـــــيح لمـــن يشـــاء من تلــك الكوادر أن يســـهم في الدعــوة إليــــه ، أو الإسهــام فــي بنـــائه . لأنهــــــا حينــــئذ ، ستكـــــون مــدركـــة الحقيقـــة ، حقيــقتها ، وحقيقـــة التنظيم القومــي . إنــــــها ليســـت منظمــــات موازيـــة لـــــه ، لا فــي المنطلقات ، ولا في الغايات ، ولا فــي القــوى ، ولا في التركيب ، فهــــــو لا يناقــــض وجــــــودهــــا ، ولكــــن يتجاوزه .

فهـــــي منظـــــمـــات الماضـــي ، وهـــــو أداة المستقبـــــــل .

( 15 )

15ـــ ثــــم يبــــقــــى أن نعـــرف كيــــف ينشــأ التنظيـم القومي ، مــــنـــبثـــقا مـــن قواعـــده ، محتــــفظــا ــ مــــنذ المـــولــــد ـــ بكافــــة خصائصــــه …؟؟ .

لكل سؤال جــــواب …. غير أن هـــذا حديــــث آخـــــر .

عصمت سيف الدولةجامعة القاهرةفي ٨ / ١ / ١٩٧١

(16)

أما بعد، أيها الشباب العربي …هكذا ترون ، كم كانت الأسئلة صعبة منذ 50عاماً ، ولاشك أنكم تدركون الكمّ الهائل من الأسئلة الصعبة التي راكمتها سنوات المحن التي تلت ذلك ، وحتى هذه اللحظة ، لكن دعونا نبدأ من حيث انتهى شيخنا الراحل “لكل سؤال جواب ” ….غير أن “الحديث الآخر” قد دقتّ ساعته ، ولم يعد يحتمل التأجيل ، فليكن هذا حديثكم أنتم..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى