مانفتقر إليه هو الحوار المعمق حول التجربة التاريخية للسنوات العشرة بين 2011- 2021 , ومثل ذلك الحوار هو الطريق لتحويل الانتقادات العابرة إلى وعي سياسي يتقدم خطوة نحو الأمام .
يصلح كتاب الدكتور برهان غليون ليكون إحدى أدوات ذلك الحوار . ليس مطلوبا الوقوف معه أو ضده في هذه المسألة أو تلك , بل المطلوب استعراض أفكاره الرئيسية ووضعها على الطاولة وإعمال الفكر فيما تعنيه بادىء ذي بدء , بعد ذلك يأتي وقت النقد وتقليب الأفكار حتى يتميز منها مايصلح خميرة لوعي أرقى وما هو غير ذلك .
وكما كتب الدكتور برهان في مقدمة كتابه فبعد انهيار الخيارات العسكرية ووصولها للطريق المسدود أصبح من الممكن والضروري للمثقف السوري إعمال الفكر في مراجعة التجربة التاريخية للثورة السورية التي أجهضها عنف النظام وأجهز عليها الخيار العسكري .
لن أقف عند كثير مما جاء في الكتاب خاصة بما يخص التفاصيل . هذه أتركها لمن يهتم بالتاريخ , سأقف فقط عند بعض الأفكار الرئيسية والأحداث الفاصلة ذات المغزى .
أولا : المثقف والسياسي
يناقش الدكتور برهان العلاقة بين المثقف والسياسة بصورة عامة ثم عن تلك العلاقة في الحالة السورية , وأخيرا عن الظروف الاستثنائية للثورة السورية التي لم تترك للمثقف الحقيقي خيار الابتعاد عن السياسة .
مالم يجد الدكتور برهان متسعا للغوص فيه هنا على نحو كاف هو أن أزمة العلاقة بين المثقف والسياسة كانت في صلب أزمات الثورة السورية .
فالكوادر المثقفة التي برزت في المعارضة وشكلت لاحقا الناطق باسم الثورة أظهرت عجزا في القيادة السياسية , وهكذا ظهرت الثورة وكأنها بدون قيادة , لقد كانت القيادة تسير وراء الجمهور وليس أمامه .
بين الجمود الموروث عن الأحزاب العقائدية وما تركته سنوات السجن الطويلة والقمع وتصحير الحياة السياسية وبين التفاعل الحي مع نبض الواقع المتبدل وما يتطلبه من حركة سياسية فقدت الثورة إحدى أهم أدواتها وهي القيادة .
في تاريخ كل الثورات التي قدر لها النجاح والانتصار – وهي بلاشك الأقل فغالبية الثورات تنتهي في العادة بالهزيمة في لحظتها التاريخية – هناك قيادات متمرسة تضع الخطط والتكتيكات وتكون ممسكة بالمبادرة إلى حد كبير .
في تجربة الثورة البلشفية ولحل مسألة القيادة أدخل لينين مفهوم الحزب الثوري الذي يتمتع بانضباط حديدي وتعمل قيادته كما تعمل رئاسة الأركان في الجيش , وعن طريق الحزب استطاع قيادة الحركة الشعبية نحو السلطة عبر سلسلة طويلة من التكتيكات السياسية الماهرة .
أما في حالة الثورة الكوبية فقيادتها السياسية كانت منخرطة في العمل المسلح الذي لجأ إلى سلسلة جبال سيرا مايسترا وحرب العصابات لغاية تفكك السلطة ثم المبادرة بهجوم شامل .
اختلف العصر اليوم , كما أن ظروف سورية بعيدة جدا عن ظروف تلك الثورات , لكن العبرة هنا في أهمية وجود القيادة المتمرسة والتي تتفق مع طبيعة الثورة .
يمكن القول إن النظام عاجل الحركة الشعبية بالاجهاض عن طريق العنف الوحشي وتصفية كل الكوادر الشابة التي بدأت بالظهور كالبراعم بعد عصر الجليد السياسي وهذا صحيح تماما .
من أجل ذلك يبقى الحديث عن الكوادر التي جربت شيئا يشبه التحدث باسم الثورة أكثر من قيادتها لكنها لم تنجح حتى في ذلك .
أزمة القيادة واستقالة المثقفين الشيوخ عن الاضطلاع بها واستبدال ذلك بالارتماء خلف الحركة الشعبية كانت بداية التحولات التي أسفرت أخيرا عن تصفية كل المعاني الوطنية الديمقراطية والسلمية للثورة السورية .
لايمكن قيادة ثورة شعبية في هذا العصر بدون كوادر على مستوى العصر وعيا وثقافة , بغير ذلك ستتحول لحريق يدمر الدولة والمجتمع .
في لحظة التحول نحو الخيار العسكري برز عجز المثقفين الذين شكلوا الطبقة السياسية المعارضة , وكذلك فإن قصور وعيهم السياسي , واستسلامهم لهذا الخيار , وتبرير معظمهم له , لعب دورا في كل المراحل اللاحقة . ذلك مالم يتم التعرض له على نحو كاف ولابد من مناقشته بالتفصيل لاحقا , لكن ماينبغي تسجيله هنا هو عجز المثقف السوري المتخم بالقوالب النظرية الماركسية سابقا والمتحولة لاحقا إلى ليبرالية عقائدية عن الاضطلاع بدور السياسي .
وكان من نتائج ترسخ الخيار العسكري أن القيادة الفعلية خرجت من يد الطبقة السياسية على نحو متصاعد , فكما يقول مكيافلي في كتابه ” الأمير” : ” شتان بين رجل مسلح ورجل أعزل , ومهما كان الأمر فلن نرى رجلا مسلحا يطيع رجلا أعزل وهو بكامل إرادته , ولن نرى أعزل سالما بين أتباعه المسلحين , فمن المستحيل أن يعمل الاثنان معا في سلام “
ثمة علاقة داخلية بين سلمية الثورة واستنادها للحركة الشعبية وبين دور المثقفين السياسي , وحين يتم إجهاض الحركة الشعبية وظهور الخيار العسكري وتسيده للموقف يتقلص دور المثقف السياسي ويحل مكانه العسكري أو زعيم الحي أو الرجل الذي يأخذ صفة التدين بغض النظر عن ثقافته وفهمه للعصر بل ولأبسط قواعد الحرب والسياسة .
حين استسلم المثقف السوري المعارض للخيار العسكري سواء عن قناعة منه أو باعتبار ذلك الخيار قدرا مقدورا كما يحاول أكثر المثقفين عقلانية تبرير موقفهم الخاطىء في تلك اللحظة التاريخية فقد كان يسلم بوعي منه أو دون وعي مفاتيح الثورة السورية للآخرين , ويستقيل من عمله السياسي ليحجز مكانا له في إطار هامشي كسفير للنوايا الحسنة يتنقل بين الدول والمؤتمرات بدون رصيد مما جعله في موقف لايحسد عليه من الضعف استثمره النظام بنجاح تام .
وبينما نجح المثقف السوري في إيقاد شعلة الحياة السياسية وإخراج جذوتها من تحت الرماد خاصة في الأعوام بين 2000-2011
فقد فشل لاحقا في دوره الريادي السياسي , وكان فشله سببا مهما في انتكاسة الثورة السورية إذا أردنا التركيز على الجانب الذاتي ووضع الظروف الموضوعية جانبا في السعي لاستخراج الدروس للمستقبل .