قرأت باهتمام البيان التأسيسي لجود، ولست هنا بصدد الوقوف على ما جاء في البيان لكني أقف على نقطة واحدة مما ورد فيه، أعتبرها من أهم ما يجب الوقوف عنده لأثرها في تحديد التوجه الاجتماعي ـ السياسي للمؤسسين لهذا التجمع.
والحق أني لم أستطع أن أفهم ما تضمنه البيان بشأن حيادية الدولة تجاه الأديان والمذاهب ” حيادية الدولة اتجاه الأديان والمذاهب”.
وإن كان من أحد يستطيع أن يبسط المراد من هذا النص أكن له شاكرا:
1- ما المقصود بالدولة هنا، هل هي مباني المؤسسات، وهياكل السلطات المختلفة، أم أنها النظم والقوانين والإجراءات وقواعد العمل التي تحكم كل تلك الأبنية التي تشكل في مجموعها بنية الدولة؟.
أم أنها ما سبق كله مضافا إليه “الناس، المواطنون”، واحتياجاتهم البنيوية. أم أنه يضاف إلى كل ما سبق الجغرافيا البشرية والسياسية، والثروات الوطنية، وما تفرضه من محددات لوجود وممارسة تلك الأجهزة لأدوارها ووظائفها، فتصبح الدولة بذلك ” الشعب، والأرض، والمؤسسات الناظمة، والدستور”.
مهم تحديد معنى الدولة، لأنه على أساس هذا التحديد تتحدد الكثير من المسائل داخل الدولة.
2- ثم ماذا يعني حياد الدولة هنا؟. هل يعني أنها لا تتدخل في خيارات الناس واتجاهاتهم إزاء هذه الأديان والمذاهب، فيصبح كل فرد حرا في اختيار دينه ومذهبه، باعتباره هو السيد في موقفه.
أم يعني أن الدولة تقف على بعد واحد من جميع الأديان والمذاهب، فتعامل الدين اليهودي كما تعامل الدين الاسلامي، وتعامل الإلحاد كتيار ووجود، كما تعامل الايمان كتيار أو وجود.
أم يعني أن الدولة تنفض يدها من التعامل مع مسألة الأديان والمذاهب نهائيا، فلا تعتبر أن الأمر يعنيها بشيء.
3- في بنية “الدول الوطنية الراهنة”، وزارت أوقاف، وكليات شريعة، ومواد تعليم ديني، وقوانين تختص بالزواج والوفاة والإرث… الخ، كيف يتحقق حياد الدولة إزاء كل هذا؟.
هل يترك لكل أهل دين أو مذهب أن يصوغوا علاقاتهم بين بعضهم وفقا لمذاهبهم وأديانهم ومعتقداتهم التي يلتزمونها، فلا تتدخل الدولة في شؤونهم هذه، أم أنها تتدخل فقط حينما تؤدي مثل هذه العلاقات إلى تصادم وخلل اجتماعي، وعلى أي قاعدة يكون هذا التدخل.
هل النص يعني أن مؤسسة الزواج الإنسانية المعروفة دينا وعرفا، هي خيار شخصي، يتساوى مع الأشكال المستحدثة على هذه المؤسسة، فيصبح هذا الزواج، مثله كمثل “زواج” الشواذ على اختلاف تنوعه، له نفس الحقوق والاجتماعية، ونفس التقدير القانوني. وبالتالي تقف الدولة التي يتطلع إليها “جود” على مسافة واحدة من هذه وتلك.
4- ثم لا أدري هل “حيادية الدولة تجاه الأديان والمذاهب”، كان هدفا من ضمن الأهداف التي حركت الشارع السوري ضد النظام القائم، هل كان الحراك الثوري ومن ثم الثورة تستهدف تحقيق ذلك، حتى توضع هذه المسألة في ميثاق تعاون بين هذه القوى، أم أن الأمر هنا إدخال هدف ورؤية لهذه القوى لم يكن واردا في حراك الشعب السوري؟!.
5- وإذا كان هدف إقامة هذا التجمع الوطني العام “جود”، بناءُ أداة ضغط وحشد لتحقيق هدف الحراك الثوري للسوريين الذي انطلق قبل أكثر من عشر سنوات، فهل تناولُ هذه المسألة الجوهرية في حياة الناس يحقق “الحشد المطلوب”، أم أنه يفعل عكس ذلك، فيبعد “الناس” بدل أن يقربهم، ويفرق “الناس” بدل أن يجمعهم، ويدفع الناس وعلى الفور للحذر من هذا التشكيل، إن لم نقل لعدائه.
6ـ التدقيق في النص المشار إليه، يشي بأنه وضع مكان شعار “علمانية الدولة”، وإذا كان هذا الإحساس صحيحا، فلقد كان وضع عبارة العلمانية أفضل لأنه ييسر عملية المناقشة، ويعقلنها، ويتيح على الفور النظر إلى أمثلة واقعية لها.
هل يريد الموقعون موقفا للدولة من مسألة الدين كموقف الدولة الفرنسية أو الألمانية، وهل يعتبر الموقعون أن “مدونة السلوك” أو ما دعي ب ” ميثاق الجمهورية” الذي فرضته السلطة الفرنسية على المسلمين في فرنسا يعد من قبيل تدخل الدولة في “مسألة الأديان” أم أنها إجراء خاص بالمسلمين، وتمييز اعتمدته الدولة الفرنسية باعتبار أن الإسلام دين طارئ على المجتمع الفرنسي وليس دينا أصيلا فيه.
7ـ وفي هذا الصدد مهم للموقعين على هذا البيان الإجابة على سؤال محدد يقول: إذا كان للمواطنين المسيحيين كنيسة توفر لهم كافة احتياجاتهم الدينية، ترعاهم، وترعى تدينهم، وتقدم لهم كافة الخدمات التي تتطلبها حياتهم الدينية ذات الصلة بحياتهم الأخروية، فما هي الجهة التي ستقدم للمسلمين وتشبع لهم مثل هذه الاحتياجات؟.
السؤال يطرح في هذه الحدود، بغض النظر عن اختلاف عمق تدخل المسيحية والإسلام في الحياة الاجتماعية لمعتنقيها.
هل في مثل هذه الدولة التي يتطلع إليها ” جود” سيتم انشاء ” كنيسة” إسلامية لتوفير احتياجات المسلم، بدءا من إقامة المساجد، إلى تحديد مواعيد أداء العبادات، إلى تحديد العطل والاجازات المرتبطة بالمناسبات الدينية، إلى قوانين الأسرة والإرث وخلافهما، إلى….. الخ.
في علمانية الدول الغربية، يسجل الزواج مدنيا، ويخضع للقوانين المدنية، ثم إذا أراد الزوجان تسجيل زواجهما كنسيا فهذا خيارهم، وهذا أمر يسير، لأن للكنيسة وجودها ودورها المستقل، فكيف يكون الأمر إسلاميا؟!.
8- كان مهما لو أن هذا النص أسقط من البيان التأسيسي، واستعيض عنه بنص يتضمن أن ” الدولة ترعى مختلف الأديان والمذاهب الفقهية التي يأخذ بها مواطنوها، وتوفير لهم ما يحتاجونه لممارسة دورهم في هذا الإطار.
9- خمسة عشر حزبا وتجمعا وهيئة، إضافة إلى عدد من الشخصيات وقعت على بيان التأسيس ل “جود”، لكني أظن أنها بمجموعها -وفي ظل مثل هذه الرؤية – لن يشكل فرقا حقيقيا في الحياة العامة للسوريين.
أخيرا ومن وجهة نظر “التغيير السياسي والاجتماعي” التي يحرص كل حزب على التدقيق فيها فإني أرى بأن من شان مثل هذا النص أن يفتح المجال واسعا لقوى السياسية التي ترفع شعارات الإسلام، لتكون هي المعبرة على الروح العامة والمتجذرة في مجتمعنا، سواء كانت هذه القوى إصلاحية أو تكفيرية. وأن جود فيما نصت عليه في بيانها التأسيسي قد تكسب البعض لكنها بالتأكيد تخسر الكل.
تعليقا على الدكتور مخلص في مسألة حيادية الدولة كان ردي عليه :
تحياتي د. مخلص
الثورة السورية في المرحلة الاولى من انطلاقها رفعت شعارات جامعة وعلى رأسها شعار : واحد .. واحد .. الشعب السوري واحد .. ولكنها بعد ذلك تحولت الى حرب و احتراب ، ثم تدخلت السلطة واطراف اخرى متعددة الى دفعها باتجاه صراعات اثنية وطائفية ومذهبية … مما ادى الى هتك النسيج الاجتماعي السوري .. عبر تدخل السلطة في تأوير الصراعات البينية ، واستخدام التراكم التاريخي بين تلك التكوينات المتعددة من أجل زيادة الصراع بينها ، وفق مقولة فرق تسد …
هذه الوضعية الجديدة تفرض اعادة اللحمة المجتمعية للوطن السوري منعا لتقسيمه ، وشد كل مكونات الوطن لبعضها ، خاصة وأن سلطة الاستبداد عير تاريخها لعبت على الأوتار الطائفية والمذهبية والاثنية من مرحلة لأخرى في توزيع المحسوبيات واللعب على خيوطها شدا وجذبا خلال عقود عديدة …..
في ظل هذا المناخ كان لابد من أجل نظام ديمقراطي جامع أن يتم التوافق على صيغة أو صيغ جامعة للجميع ، لا تكون فيها هذه السلطة طرفا بين هذا الطرف او ذاك ، من أطراف الطيف الوطني ..
وكما اشرت انت في ان الدولة تعني ارض وشعب وسلطة تديرها مؤسسات ناظمة ودستور …
واعتقد انه من سياق النص يتضح أن حيادية الدولة تجاه الأديان والمذاهب …تعني الحيادية السياسية … وتقف على مسافة واحده بين الاديان والمذاهب … ، بما يمنع التصادم بينها ..
ويبقى للاديان والمذاهب نصوصها ، أو لكل منها قانونها الخاص الذي يحكم علاقات كل منها …
واعتقد أن الحكم على أي مفردة او جملة يتم من خلال ربطه بسياقه ، وربط ذلك بمجمل النص ،اذ لا يجوز فقط أخذ نص الآية الكريمة : لا تقربوا الصلاة .. ونزعها عن ما بعدها او السياق الذي جاءت منه …
نص البيان الختامي يقول :
( الإسهام في تحقيق مشروع التغيير الوطني الديمقراطي الجذري والشامل لنظام الاستبداد القائم ، بكل رموزه ومرتكزاته ، والمساهمة بإنجاز الانتقال السياسي وبناء الدولة الديمقراطية الحديثة ، دولة الحق والقانون والمؤسسات المنتخبة ، الدولة الحيادية تجاه المذاهب والأديان التي تكرس مبدأ المواطنة الحرة المتساوية في الحقوق والواجبات لكل أفراد الشعب السوري ، دون تمييز او إقصاء على اساس القومية او الدين او المذهب أو الجنس أو الاتجاه السياسي …….. وصولا الى الدولة المدنية الديمقراطية التي تحقق الحرية والعدالة والمساواة …… )
إذا ، مشروع الدولة السياسي تحقيق التغيير الوطني الديمقراطي الجذري … وبناء الدولة الديمقراطية الحديثة
دولة حق وقانون ومؤسسات منتخبة
دولة حيادية تجاه الأديان والمذاهب .. ( ولكن من أجل ماذا ؟؟ ) فالغاية من حيادية الدولة من أجل تكريس مبدأ المواطنة الحرة المتساوية لكل الأفراد دون تمييز ، تلك هي غاية حيادية الدولة
وكل ذلك للوصول الى الدولة المدنية الديمقراطية المحققة للحرية والعدالة والمساواة
فالبيان لم يتطرق الى حيادية الدولة إلا في هذا الإطار الذي حدده ووصفه ووضحه .
ومن هنا ومن باب عدم جواز تحميل النص بأكثر مما يحتمل ، وعدم الاستغراق بما يجاوز السياق الذي ورد فيه النص .
ولان تدخل السلطة التي تحكمت بالأرض التي يقيم عليها الشعب وامسكت بعنصري الدولة : الجغرافيا ، والشعب في توزعه على الجغرافيا ، لتمارس سلطتها ( بوصفها العنصر الثالث للدولة ) في التحكم بهما سواء بالقانون أو خارجه ، من أجل استدامة حكمها بمختلف أشكال التمييز والإقصاء الذي اودى بمختلف التشكيلات الاجتماعية والسياسية الى الصراع والتصادم والوصول الى ما وصلنا اليه اليوم بعد عشر سنوات مرعبة ، أحدثت تغييرا في بنية الجغرافيا وفي انحيازات البشر وأحدثت شروخا نفسية ومعنوية واختلالا في مفهوم الانتماء الوطني ، ومفهوم السلطة ودورها وحدودها ..
ومن هنا أصبح العقل الباطن والخوف الظاهر يخشى بشكل حدي في حال التغيير أو أي تغيير جديد من عودة السلطة ، أي سلطة ، الى العودة لعملية الإقصاء السياسي والاجتماعي ، والخشية في أي برنامج للتجمع أو التوحيد من الوقوع مرة أخرى في مطب هذا الاقصاء . ولذلك جاءت الرغبة في حياد الدولة بمعنى وقوفها على مسافة واحدة من الجميع
فالدولة التي تتكون من ثلاثة عناصر : ارض وشعب وسلطة .
العنصر الرئيس والديناميكي فيهما هو السلطة ، التي تمتلك القدرة الفائقة بقوة اسلحتها المتعددة المادية والمعنوية والقانونية . ان تفرض وتتحكم بالعنصرين السابقين للدولة ، وتحريك السلطة للدولة وتغولها ، لتصل في كثير من النظم لتطبيق مقولة : انا الدولة والدولة انا ، والامثلة كثيرة في ذلك ..
هذا من جهة .. واضيف ان حيادية الدولة تجاه الاديان تعني فيما تعنيه رفض قيام الدولة الدينية ، بلون طائفي واحد في بلد – وبعد كل ما حصل – من الواجب لاستمرار لحمته الوطنية ان يكون الجميع امام الدولة او سلطة الدولة افرادا ومكونات على مسافة واحدة .. وعبد الناصر رفض الدولة الدينية .. ورفض المذهبية .. وعمل على ان يكون فكرا وسلوكا على مسافة واحدة بين الجميع افرادا وجماعات وقدم دستورا مؤقتا زمن الوحدة لم يذكر فيه دين الدولة ولا دين رئيسها .
تحياتي علي صايغ