يمثل اتفاق الدوحة الذي وقع عام 2008 بين الفرقاء اللبنانيين، آخر وساطة عربية ناجحة من أجل حل مشكلة سياسية في دولة عربية، ورغم أن حزب الله المحكوم بتبعيته الكاملة لإيران عاد وانقض على هذا الاتفاق مع أنه كان مرضياً له، إلا أن هذه اللحظة التاريخية لم تتكرر منذ 13 سنة.
كان آخر تدخل عربي ناجح سبق اتفاق الدوحة قد حدث قبل ذلك بنحو ثلاثين عاماً، وكان بين أطراف لبنانية أيضاً، حيث أنهت وساطة سعودية الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت عام 1975 مع توقيع اتفاق الطائف، الذي انقض عليه حزب الله نفسه، ما استدعى اتفاق الدوحة!
من اللافت أن يكون لبنان هو قضية المصالحتين، لكن اللافت أكثر أن بين عام 1989 و 2008 وقعت الكثير من الأزمات العربية، سواء بين بعض الدول أو داخل دول معينة، لكن جميع هذه الأزمات، التي تحولت بعضها إلى حروب دامية ومدمرة، استعصت على مبادرات الصلح والوساطة، أو لم تجد بالأصل وسيطاً عربياً يتمكن من جمع المتنازعين على اتفاق.
لعل أشهر الأزمات العربية المزمنة التي ما زالت مستمرة إلى اليوم رغم كل محاولات الحل، هي أزمة الانقسام الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس، هذا الصراع الذي تفجر عام 2007 لكنه بعد 14 عاماً، وبعد عدد كبير من اتفاقات الصلح الهشة التي كانت توقع برعاية مصرية أو قطرية، كانت سرعان ما تتهاوى، وما زال الانقسام عميقاً، وليس هناك في الأفق أي أمل بحل يضع حداً له، على الرغم من تعرض الشعب الفلسطيني لعدوان إسرائيلي متكرر خلال هذه الفترة، وآخرها ما نعيشه اليوم، لكن من دون أن يدفع ذلك الطرفين لتقديم تنازلات، أو يجعل العرب يتحركون بقوة لإجبارهما على تقديم هذه التنازلات.
في عام 1994 وقّع طرفا الحرب الأهلية في اليمن اتفاقاً في العاصمة الأردنية من أجل إنهاء الخلاف بينهما والعودة لدولة الوحدة، لكن بعد ساعات فقط على توقيع هذا الاتفاق، تفجرت الحرب بين الجانبين بعد أن كانت مناوشات، وكأن ما جرى في عمان كان اتفاقاً على إعلان الحرب وليس إنهاءها.
لكن اتفاق الأردن كان محكوماً بالفشل المسبق بسبب معرفة الجميع أن قادة شمال اليمن لن يعملوا على إنجاح الوساطة الأردنية، بنتيجة دعم المملكة الهاشمية لصدام حسين في قراره غزو الكويت، بينما كانت الأخيرة تدعم اليمن الشمالي رداً أيضاً على تأييد حكومة صنعاء لصدام خلال الغزو، الذي كان بمنزلة الضربة القاضية التي أتت على آخر ما تبقى من علاقات التضامن العربي، بعد الضربة الأولى التي تعرض لها مع توقيع الرئيس المصري الراحل أنور السادات اتفاق السلام مع إسرائيل عام 1978.
لم تنجح كل المبادرات العربية بعقد صلح بين العراق والكويت يمنع وقوع حرب الخليج الثانية عام 1990، كما فشلت جميع المحاولات في ثني صدام عن قرار الغزو، ومنيت بالمصير نفسه مساعي إقناعه بالخروج من الكويت بشكل سلمي قبل تدخل حلف شمال الأطلسي وإجباره على الانسحاب، ولكن بثمن باهظ ما زال العرب يدفعون ثمنه إلى اليوم.
اندلعت في الفترة نفسها التي نشبت فيها حرب الخليج أعمال عنف دامية في الجزائر، وامتدت من عام 1991 حتى عام 1997 على الأقل، وطيلة هذا الوقت لم تتدخل الدول العربية من أجل وضع حد لها، وهو ما ينطبق أيضاً على الحرب الأهلية في الصومال، وأيضاً مشكلة الصحراء الغربية وتداعياتها على العلاقات بين الجزائر والمغرب المقطوعة بسبب هذه الأزمة، وأيضاً من دون أن تجد مبادرة عربية تضع حداً لها.
عندما اندلعت ثورات الربيع العربي عام 2010، كان من المؤلم غياب أي دور أو فاعلية عربية رسمية في الوقوف بشكل حاسم إلى جانب إرادة الجماهير، وكذلك في منع تحول الصراع بين الشعوب الثائرة على أنظمتها إلى حروب مزمنة، فغابت المبادرات إلا السلبي منها، ما جعل كلاً من سوريا واليمن وليبيا تغرق في حروب مدمرة.
عشر سنوات مرت على تفجر الانتفاضات في هذه الدول الثلاث، ولا تزال اثنتان منها على الأقل تنزف من دون أن تجد وساطة عربية توقف شلالات الدم فيها، وإذا كان مفهوماً سبب أو أسباب الفشل العربي الرسمي على هذا الصعيد، فإن اللافت هو عدم وجود فعاليات وقوى وتجمعات عربية غير حكومية تكون قادرة على لعب مثل هذا الدور.
يعاني العرب من غياب كامل لدور النخب السياسية والقامات العلمية والشخصيات العامة من نجوم الأدب والفن والثقافة عن الفاعلية، وهؤلاء كان يمكن في الحالات الطبيعية أن ينتظموا في جمعية أو كيان بمنزلة مجلس حكماء أو ما شابه، يكون مستقلاً بشكل كامل عن الحكومات والأنظمة، ويعمل على التدخل في أي منطقة أو بلد عربي يشهد صراعاً أو يعيش أزمة.
وإذا كان محقاً القول إن الأنظمة العربية تتحمل المسؤولية الرئيسية عن إضعاف دور هذه الفئات من المجتمع، من خلال إقصائها ومحاربتها وتهميشها خوفاً من دور فاعل لها، فإن الحق يقتضي أيضاً القول إن الكثير من هذه النخب أسهمت في إخراج نفسها من دائرة الفعل عندما قبلت بأن ترتهن وتبيع تاريخها ومكانتها لأنظمة مستبدة أو إشكالية، وتصبح جزءاً من تنافساتها وصراعاتها وانقساماتها، الأمر الذي أضعف من الثقة بأكثرها، وأبقى القلة المحترمة منها ضعيفة، بينما كان على الشعوب العربية أن تدفع ثمن هذا الترهل والوهن العربي حروباً وصراعات وأزمات دائماً ما تنتظر أن يأتي حلها من بعيد.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا