في صيف عام 1770، دخل أسطول روسي – مقبل من بحر البلطيق – في حملة بقيادة الكونت أورلوف إلى البحر الأبيض المتوسط لأول مرة في التاريخ. جاء من بحر البلطيق وكان الهدف منه إخراج القوات البحرية العثمانية من البحر الأسود. في اليونان، أشعل وصول أورلوف ثورة ضد العثمانيين. وفي عام 1771، أدّت تطورات الحرب إلى أن تصبح الجزر اليونانية عقبة أمام التوسّع الروسي على البحر الأسود، فتخلى الروس عنها وبادلوها، مبدئياً بشبه جزيرة القرم. ويجادل الباحثون في أن الروس لم يكن ليدور في خلدهم أن تكون لهم» مستعمرات» في المتوسّط؛ وأن جلّ ما خططت له القيصرية هو إيجاد قاعدة عسكرية صغيرة محاطة بمناطق يونانية محررة من الأتراك ويحكمها أهلها.
كان حلم قياصرة روسيا الأثير هو المياه الدافئة على المتوسّط، وحلم الشيوعيين أيضا.. واستطاع هؤلاء تحقيق بعض ذلك الحلم عن طريق غواصاتهم النووية على الأقل، ولكن من دون وجود راسخ. لكن ما لم يحققه لينين وستالين وخروتشوف وبريجنيف، يقوم بوتين بالانقضاض عليه بنجاح مشهود. والآن أصبحت سوريا، وساحلها على وجه الخصوص، درّة تاج هذا الرئيس – القيصر، الذي جمع بين طموح أسلافه ورجاله على البرّ السوري، بالحلم أيضاً بدوام حكمه «إلى الأبد». تهدف الحملة المعاصرة إلى منع تكرار النموذج الليبي وإسقاط الأسد على طريقة القذافي، وذلك بشكل من الأشكال دفاع السلطة الروسية عن ذاتها، من الاستسلام أمام الغرب، والتخلّي عن الطموح إلى استعادة المكانة السوفييتية في عصر الحرب الباردة. ولعلّ تلك الحملة ونجاحها يسهمان في الانتقال من فضاء العقوبات، إلى آخر أكثر استرخاءً، مع كسر العزلة والحصار الدولي، ما قد يساعد من الناحية الاقتصادية، ويفتح أبواباً لطالما كانت مجرّد نوافذ صغيرة مع دول المنطقة وجيرانها. كذلك تقطع الطريق على عودة الجهاديين الذين تقاطروا من شرق روسيا وجنوبها إلى سوريا، فلا يشكلون خطراً عليها، أكبر مما كان عليه قبل قمعه وهزيمته، وقبل أيّ شيء آخر، يطمح بوتين إلى أن تساعده قواعده المستحكمة شرق المتوسّط على استعادة وضعية متساوية مع واشنطن في السياسة الدولية. بذلك يحقق بوتين ما لم تكن كاترين تخطط له، حين حصرت حلمها بقاعدة في جزيرة يونانية – أرثوذكسية. هنا قواعد على الساحل، ضمن بيئة حاضنة مختلفة أكثر حرجاً، تنفتح على ساحل واعد نفطياً واستراتيجياً، وبادية – صحراء من الجهة الداخلية ذات مواصفات استراتيجية ونفطية أيضاً.
بمناسبة القرم المعاصر والعقوبات المرتبطة به وبالنزاع الأوكراني عموماً، فإن للتدخّل هذا فاعلية مهمة في جذب الأنظار بعيداً عنه، ريثما تحين ساعة «البازار» من مركز القوة لا الضعف. حالة الضعف والاستكانة لا تلائم شخصية بوتين، وهو لها إن اشتدّت عواملها من حوله. نظرياً، تقوم الاستراتيجية الروسية في سوريا على مسألة وحدة الأرض تحت أي حاكم يؤمّن استمرار المصالح الروسية. وتقتضي تلك الاستراتيجية أن يكون ذلك الحاكم موالياً مضموناً للكرملين، مع سحق أولئك الذين لا يتعاونون، كما حدث في الشيشان. وبعد النجاحات العسكرية في سوريا، انفتحت فرصة لتحقيق ذلك الهدف من خلال الدبلوماسية، فاشتغل الكرملين وفروعه، على إيجاد صورة مزدوجة ومخادعة لمعارِضة مبتكرة: حيث يمكن للجماعات المسلحة أن تلتزم بوقف إطلاق النار، وتندرج في الوقت ذاته في عملية سياسية ذات لون باهت، في إطار مراكز المصالحة الروسية، أو على نسق أستانة لاحقاً؛ أو تحمّل وصمة الإرهاب وتبعاتها التي لا ترحم. وقد تحققت إيجابيات عديدة لموسكو حتى الآن، من خلال هذه الاستراتيجية، لا تقلّ عنها أهميّة تلك المكاسب الجانبية في تجارة السلاح واختباراته على سبيل المثال، وتجريب أشكال جديدة من الحرب، بما فيها استخدام الشركات المقاولة الخاصة (المرتزقة).
وعلى الرغم من القلق الروسي من تجاهل الأمريكيين لهم، وامتناعهم عن الاعتراف بانتصاراتهم، إلّا أنهم يشغلون وقت الانتظار هذا، بمستوى محدد من الأعمال العدائية، يقدّم إمكانية التدريب المنخفضة الكلفة، واختبار أنظمة جديدة للتسليح ومفاهيمه، وفرصة لإعطاء إشارات استراتيجية من منصّة عالية نسبياً. هنا يمكن للروس أيضاً اختبار الاحتكاك مع الأمريكيين أو حلفائهم، لأن مخاطر الانزلاق بعيداً ستكون أقل. كذلك يستطيع الكرملين أن يستخدم وجوده المظفّر بتطوير علاقاته الإقليمية، لتصبح له مكانة محفوظة لدى الإسرائيليين، ويفتح أبواباً اقتصادية مجزية مع الخليج، ويستثمر الرهبة التي تثيرها إيران لدى الجميع. وليس صعباً على الإطلاق تلمّس تلك الآثار في تمكّن موسكو من الجمع بين المتناقضات، بل استثمار تلك المتناقضات من خلال وضعية استراتيجية تبدو مثالية حتى الآن. ويمكن مراجعة علاقاتها مع تركيا وإيران، ومع إسرائيل، ومع دول الخليج بأشكال متنوعة، لرؤية ذلك بوضوح. وما زالت تلك الاستراتيجية تتمتع بمرونة كبيرة، فقد حصلت على قواعد ثابتة مسلّم – تقريباً- بشرعيتها مع حليف فعال يعتمد عليه (الأسد) تعمل على تصنيع بدائل متعددة له عند تغيّر الظروف؛ وعلى شريك اقتصادي رفيع في تركيا، التي يتدحرج حاكمها باتّجاهات أكثر تلاقياً مع ميول الكرملين؛ وعلى فزّاعة في مواجهة الغرب (إيران) وعلى احتمالات قوية لصفقات السلاح في سوريا ومصر وإيران والجزائر، وربّما أيضاً في الخليج… وفوق كلّ ذلك، تصرّ موسكو على أن تنجو بنفسها برفعها راية مكافحة الإرهاب الدولي. بذلك، يرى بوتين أنه قد اقترب أكثر من كسب حربه الاستراتيجية، وأصبح على وشك استعادة مقعده الخاص الذي يحسبه قد انتُزع منه، منذ تفكيك الاتحاد السوفييتي، في مقابل الولايات المتحدة على الطاولة الثنائية.. ولكنّ في ذلك ثغرات كثيرة، رغم أنه لا يرى احتمالاً فعلياً لتحوّل مساره في سوريا إلى مستنقع يجذبه إلى الأعماق، إلّا أن هنالك نقاط ضعف بنيوية مهمة، قد تؤدي إلى تغييرات في اتجاهات غير محسوبة تماماً. فالسياسة الخارجية الروسية ليست بتلك الصلابة، ولطالما اعتمدت دائماً على ردود الأفعال، كما حدث وما زال يحدث منذ ثورة الأوكرانيين. كما أنها قد تنجرف مع أحداث غير متوقعة تماماً، أو لا ترى عوامل جديدة أكبر منها من بعض الجوانب، كذلك الصعود المستمرّ للصين ودورها. وهذا بغضّ النظر عن مصاعب بوتين المحلية وانشغاله بتحصين شرعيته، التي تتعرّض لصدمات بين حين وآخر، وهو لا يلتزم بمتطلبات وشروط الشرعية الحديثة، ويلجأ إلى عقد اجتماعي، يحمل أصداء لطروحات هوبس العتيقة، بمقايضة الأمن والأمان والمستلزمات المادية للإنسان، مقابل الخضوع والانصياع، ذلك دأب كلّ الطغاة، وأبرزهم الأسد، في عقوده وعقود أبيه قبل أن تذروها العواصف.
استطاع بوتين تحقيق أحلام أسلافه من القياصرة الكبار، وأسّس لقاعدة ثابتة تقريباً شرق المتوسّط، يعمل على دعمها بوجود استراتيجي في مواقع أخرى، وتحوّل إلى قوة أكبر مما كان عليه منذ عقدين على سبيل المثال. أصبحت الصين ترى فيه حليفاً ثابتاً لا يُستغنى عنه، والغرب يرى فيه تهديداً وجودياً ينبغي درؤه وتجنبه،
ولكنه لا يرى جيداً ضعف موارده الاقتصادية، ولا ضعفه الاستراتيجي والعسكري أيضاً على المدى الأبعد والأشمل في التاريخ والجغرافيا.. لا يرى أيضاً احتمالات تحرّكات اجتماعية وشعبية، يراها غيره حتمية مهما ابتعد وقتها.
(ملاحظة: كلمة» عديم» في المثل الشعبي الوارد في عنوان المقالة، لا تقصد معنى» الأحمق» كما في المعجم، بل» المحروم» في العامية السورية).
المصدر: القدس العربي