تبين نظرة عاجلة للواقع السوري أن المعارضة بتكويناتها المختلفة تحولت إلى كتلة هشة وضعيفة بشكل غير مسبوق. والوصف ينطبق على كل التكوينات الرئيسية من هيئة المفاوضات، التي تجمع أكثرية تشكيلات المعارضة، والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة الذي اعترف به المجتمع الدولي قبل سنوات بأنه «ممثل الشعب السوري» وصولاً إلى هيئة التنسيق الوطني، التي طالما وصفت نفسها بـ«معارضة الداخل» للدلالة على ثقل تمثيلها وتأكيد شرعيتها. ويمتد واقع تردي جماعات المعارضة خارج الكيانات الرئيسية، فيشمل القوى والكيانات التحالفية الأصغر مثل إعلان دمشق، مما يسبغ على كل القوى واقع التردي من دون استثناء، حتى لو قال بعضهم «إحنا غير» على نحو ما يقوله العرب دولاً وتنظيمات وأشخاصاً في تمييز أنفسهم عن الآخرين هرباً من استحقاقات يواجهونها.
هيئة المفاوضات تعاني من صراعات داخلية بين الأطراف المكونة، حيث يشكو قسم منها من تسلط الائتلاف الذي يتهم الآخرين ضمناً بالتبعية والارتباط مع عواصم دولية وإقليمية، وهي تهمة يوجهها الغير للائتلاف والقوى الواقعة تحت سيطرته، الأمر الذي لم يعطل اجتماعات الهيئة فقط، بل ترك أثراً سلبياً على علاقاتها مع أطراف إقليمية ودولية ذات علاقة وثيقة بها، وأدى من جهة أخرى إلى ترديات داخل المكونات المشاركة في الهيئة.
والوضع في الائتلاف له تفاصيل أخرى.. وإضافة إلى الخلافات والصراعات الجارية فيه وبين مكوناته، فإنه يحاول إعادة تدوير نفسه مع الحفاظ على التركيبة نفسها التي قادت إلى خرابه من التنظيمات والأشخاص، وبعضهم كان سبباً في خراب المجلس الوطني أساساً، وقد قاوم هؤلاء كل محاولات إصلاح الائتلاف من الناحيتين السياسية والتنظيمية، التي بذلت على مدار سنوات مضت، وأفشلوها، قبل أن يذهبوا في اتجاه إعادة التدوير، سواء في توزيع المسؤوليات أو في تبادلها، وأضافوا إلى ما سبق تعزيز حالة الأسلمة وتصعيد التطييف، وارتكابات أخرى.
إن الأهم في ارتكابات الائتلاف، يبدو في انفصاله عن الواقع، إذ يتجنب معالجة أي قضية سورية ساخنة أو ذات أهمية، ويتهرب منها، وإن قرر معالجة قضية ما، فإن العلاج لا يتجاوز تصرفاً شكلياً مثل إصدار تصريح من جانب أحد قياداته أو بيان تصدره الدائرة الإعلامية. إن أحد الأمثلة البائسة لسلوك الائتلاف، يمكن رؤيته في إقامة ندوة إلكترونية مؤخراً حول الدراما السورية، في وقت تتراكم عشرات القضايا الحيوية من وقائع فقر وجوع السوريين إلى تدهور أوضاع اللاجئين في لبنان، وتوجهات الدنمارك لترحيل اللاجئين فيها بدعوى الوضع الآمن في مناطق سيطرة نظام الأسد، وقضية المعتقلين، التي تبدو على رأس الموضوعات التي نسيها الائتلاف.
وثمة جانب آخر في سياسات وممارسات الائتلاف، يستحق التوقف عنده، يتمثل في التباس وجوده وعلاقاته مع الوضع القائم في الشمال السوري، حيث تتقاسم السيطرة في المنطقة القوات التركية من جهة و«هيئة تحرير الشام» («النصرة» سابقاً) من جهة ثانية، فيما يحاول الائتلاف بوجود هش وإمكانات هزيلة أخذ دور له وحكومته المسماة الحكومة السورية المؤقتة، عبر السكوت عن تطرف «هيئة تحرير الشام» و«حكومة الإنقاذ» التابعة لها، كما يساير السيطرة التركية والتشكيلات السورية المسلحة التابعة لها.
وتبدو هيئة التنسيق الوطنية في وضع لا تحسد عليه في ظل بيئة سياسية وأمنية ومعيشية، تناقض فكرة العمل السياسي أو تحد منها على الأقل، إضافة إلى ما تعانيه الهيئة وجماعاتها المكونة من وجود وسيطرة نخبة هرمة، عجزت عن تطوير أدائها في المستويين السياسي والتنظيمي، كما عجزت عن الخروج من أسر أكبر تنظيماتها الاتحاد الاشتراكي الذي يقارب فيها ما يقوم به حزب الشعب الديمقراطي فيما تبقى من إعلان دمشق، وما يقوم به «الإخوان المسلمون» في الائتلاف الوطني، وكل منهم يسخّر الكيان التحالفي الذي يقوده لصالحه، ويخضعه لرؤيته عبر السيطرة على مواقع القرار والنفوذ فيه مباشرة أو بصورة غير مباشرة.
ورغم أهمية العوامل السابقة في تردي أوضاع الهيئة، فإن قمع النظام وأجهزته، يمثل سبباً رئيسياً في الترديات، إذ يقيد نشاطات الهيئة ومبادراتها.. وثمة مثال أخير في هذا السياق، حيث منعت الأجهزة مؤخراً إقامة توسعة جبهوية تتشارك فيها الهيئة مع مجموعة تنظيمات وشخصيات سورية لإطلاق تحالف «الجبهة الوطنية الديمقراطية» (جود)، الأمر الذي أدى إلى فشل المحاولة وانفراط عقد التحالف الجديد الذي كان يمكن أن يضخ بعض القوة في شرايين هيئة التنسيق، ويساعد في تحسن ولو كان طفيفاً للحراك السياسي في مناطق سيطرة النظام.
خلاصة القول، إن السوريين يعانون من مرض معارضتهم وتردي أوضاعها، التي يبدو أنها تحولت مرضاً قاتلاً، يصعب الشفاء منه، مما يتطلب تحركاً سورياً جدياً وفاعلاً لإيجاد حل في احتمالاته تشكيل كيان جديد للمعارضة، التي وإن بدا أن لا دور لها في خريطة الصراع السوري بسبب كثافة التدخلات الإقليمية والدولية، فإن الأمر لن يظل كذلك، وسيحتاج السوريون إلى طرف يمثلهم في أي حل مقبل؛ طرف لا يكون في مواجهة نظام الأسد فقط، بل طرف يشارك المجتمع الدولي في حل القضية السورية وإعادة بناء سوريا ومعالجة قضايا ما بعد وقف الصراع المسلح.
المصدر: الشرق الأوسط