كتب الراحل ميشيل كيلو، قبل وفاته بأيام، وهو في المشفى، وصيته الأخيرة إلى السوريين، وضمّنها معايير سياسية تصلح لأن تكون وثيقة وطنية للسوريين كافة، تحدد لهم بوصلة العمل السياسي في المستقبل.
جاءت “وصية” الراحل كيلو، تحمل خبرته الفكرية والسياسية الناتجة عن خمسة عقود من النضال الثقافي والسياسي ضد الاستبداد الأسدي، حيث عايش العمل السياسي السوري اليومي، وخاصة في مرحلة الثورة، من خلال انخراطه السياسي كمثقف عضوي (بحسب مفهوم الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي) يمثل حالة متقدمة في الوعي ضمن المجتمع الذي يعيش فيه، ويعبّر عن الضمير الجمعي عن السوريين، بتعبير عالم الاجتماع الفرنسي أميل دوركايم.
هذا الوعي حمّله مسؤولية تاريخية في الإسهام الثقافي والسياسي الذي يخدم مشروع الثورة الديمقراطية في سورية، معبّرًا عن تطلعات السوريين وآمالهم في الحرية والخلاص من الاستبداد، بعيدًا عن أبراج النخب الثقافية والأدبية التقليدية، وينأى بنفسه عن ملذات العيش في كنف السلاطين والمُستبدين، فالثقافة -لدى الراحل كيلو- هي وظيفة اجتماعية تعمل على التغيير الذي يعكس تطلعات الشعب السوري في الحرية والعدالة الاجتماعية، بعيدًا عن ثقافة الترف الفكري المحض.
انخرط الراحل كيلو في شؤون الثورة السورية 2011، منذ يومها الأول، باذلًا كلّ جهوده في توحيد السوريين في عمل سياسي موحد، يستند إلى معايير وطنية ديمقراطية، بعد كل انقسام سياسي يحصل في الأجسام السياسية السورية المعارضة للنظام الأسدي. واستنادًا إلى خبرته السياسية المعيشة في الواقع السوري لهواجس السوريين السياسية، في السنوات العشر الأخيرة من الثورة والحرب، جاءت وصيته الأخيرة قبل وفاته بأيام، وهي تصلح لأن تكون ميثاقًا وطنيًا للسوريين كافة، في الآتي:
1-دعوته إلى وحدة العمل السياسي السوري، من خلال خبرته المعيشة اليومية في تشظي المعارضة السياسية السورية في مرحلة الثورة والحرب، حيث عشرات الكيانات السياسية والمنصات المتنافرة التي يصدر أغلبها خطابات التشكيك وتخوين الآخر، لذلك جاءت دعوة الراحل كيلو إلى العمل الوطني السوري الموحد بعيدًا عن المصالح السياسية الحزبية والنخبوية، إذ خاطب السوريين: “لا تنظروا إلى مصالحكم الخاصة كمتعارضة مع المصلحة العامة، هي جزء أو يجب أن تكون جزءًا منها”. أي إن هناك ضرورة سياسية في الوقت الراهن، لإيجاد قواسم وطنية سورية مشتركة للخطابات السياسية السورية المعارضة كافة، مهما تنوعت وتعددت، تكون بوصلتها الوطنية تحرير سورية من النظام الاستبدادي وحلفائه.
2-دعوته إلى التمسك بقيم الحرية والديمقراطية ورفض الإقصاء، أي تبني مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان، نظرية وممارسة، حيث ما زالت العديد من التيارات السياسية تشكو من تقلص أطر الممارسة الديمقراطية والرأي الآخر والحوار، في داخلها ومع الآخرين، وما اللغة التخوينية الشتائمية التي يمارسها بعض السوريين تجاه بعضهم البعض، ولم يسلم الراحل كيلو نفسه منها حتى بعد وفاته، إلا دليلٌ ملموسٌ على ذلك. لذلك جاءت دعوته بالتمسك بقيم الحرية في قوله: “لن يحرركم أي هدف آخر غير الحرية؛ فتمسكوا به في كل كبيرة وصغيرة، ولا تتخلوا عنه أبدًا، لأنه قاتل الاستبداد”.
التمسك بقيم الحرية والديمقراطية، بالنسبة إلى الراحل كيلو، يحصل في تشجيع الاتصال الديمقراطي داخل الأجسام السياسية السورية، وفي الوقت نفسه، في علاقاتها السياسية مع بعضها البعض، أي في الأشكال التحالفية التي يمكن تحقيقها بعيدًا عن الاختلافات الأيديولوجية، الدينية، القومية والسياسية باتجاه بناء مساحة وطنية مشتركة بين الجميع، من دون مغادرة أي طرف موقعه الأيديولوجي، القومي، الديني أو السياسي، أي ممارسة وإدارة الاختلاف، من خلال الإقرار بالتشابه والاختلاف على حد سواء، في العمل السياسي المشترك.
نعم، التمسك بقيم الحرية في أنساق المعارضة السورية، كما أوصى الراحل كيلو، هو ضرورة سورية وحاجة سياسية لجميع التيارات السياسية السورية، لفهم نفسها، وتوسيع المساحات المشتركة وبلورة أطر التفاهم المتبادل، وخلق أعراف وتقاليد حوارية بين أطراف المعارضة السورية، تبيّن في الممارسة السياسية أنها تفتقدها في الوقت الراهن.
3- دعوته إلى التمسك ببناء الدولة السورية الموحدة، والانتماء إليها فقط كهوية جامعة، بغض النظر عن الأيديولوجيات، الأديان، المذاهب، القوميات. إنها دولة المواطنة التي تقوم على مبادئ الديمقراطية والقانون بعيدًا عن الفئوية الطائفية والمذهبية، والتشديد على وحدة الأراضي السورية، كهدف سياسي استراتيجي، له الأولوية في نضالاتها السياسية وغيرها، فقد جاء في وصيته: “لا تنظروا إلى وطنكم من خلال أهوائكم وأيديولوجياتكم. انظروا إليهما من خلال وطنكم، فالتقوا بمن هو مختلف معكم، بعد أن كانت انحيازاتكم تجعله عدوًا لكم.. لن تقهروا الاستبداد منفردين. وإذا لم تتحدوا في إطار وطني وعلى كلمة سوا ء فسيذلكم إلى زمن طويل جدًا”.
4- دعوته إلى بلورة هوية سورية جامعة للسوريين كافة، بالاستناد إلى معايير سورية موحدة، من خلال ما جاء في وصيته: “كي تصبحوا شعبًا واحدًا، يا بنات شعبنا وأبناءه، اعتمدوا معايير وطنية، وانبذوا العقليات الضدّية، والثأرية، في النظر إلى بعضكم وإلى أنفسكم، فالمجتمعات لا تصبح مجتمعات وفقًا لذلك، وإنما هي تغدو مجتمعاتٍ حقًا بواسطة عقد اجتماعي، واضح، ومحدّد، وشفاف يساوي بين كل المواطنين إزاء الدولة وأمام القانون، ويكفل حقوقهم وحرّياتهم وكراماتهم. هذا ما حاول النظام الحؤول دونه طوال العقود الماضية، وهذا ما يجب أن نسعى إليه، أي التحوّل إلى دولة مواطنين، والتحوّل إلى مجتمع، أي إلى شعب حقًا، وبكل معنى الكلمة..».
هذا الانتماء إلى سورية يوجب العمل على بلورة مفهوم المواطنة، نظريًا وممارسة، في الأنساق الاجتماعية والسياسية السورية كافة؛ فالمواطنة عملية بنائية مستمرة، تتضمن مسؤوليات، حقوقًا، وواجبات، وهي جسر الوصول إلى مستوى متقدم من حالة الشعور والالتزام بكل مقتضيات الانتماء الوطني، وصولًا إلى المجتمع السوري الشامل الموحد بتنوعه القومي، الديني، المذهبي، الطائفي والسياسي. حيث جاء في وصيته: “اعتمدوا أسسًا صلبة وواضحة ومرنة للدولة، تستوعب الجميع، عربًا وكردًا وشركسًا وتركمانًا وأرمنًا، وكل الإثنيات والمكوّنات، تسيرون عليها، ولا تكون محلّ خلاف بينكم، وإن تباينت قراءاتها بالنسبة لكم، لأن استقرارها يضمن استقرار الدولة الذي سيتوقف عليه نجاح الثورة، أسسًا تقوم على الحرية والمواطنة المتساوية والديمقراطية، فهذا ما يكفل حقوق الجميع، والعدالة للجميع، لبناء سورية المستقبل”، أي ضرورة تبني القوى السياسية السوريةاستراتيجية بناء دولة القانون السورية المستقبلية (دولة المؤسسات القانونية والدستورية) صاحبة السيادة والقرارات المستقلة داخليًا وخارجيًا.
4- دعوته إلى عدم ارتهان العمل السياسي السوري للخارج، كما هو حاصل الآن، وعبّر عن ذلك بقوله: “لم تتمكّن ثورتنا من تحقيق أهدافها، بسبب مشكلات داخلية، وارتهانات خارجية. وقد دفع شعبنا أثمانًا باهظة طوال السنوات العشر الماضية. مع ذلك، فإن النظام، مع حليفيه الإيراني والروسي، لم ينتصر. فلنبق على تصميمنا، وعلى توقنا لاستعادة سوريتنا، بالخلاص من هذا النظام الذي صادر أكثر من نصف قرن من تاريخ بلدنا. شعبنا يستحق السلام والحرية والعدالة… سورية الأفضل والأجمل بانتظاركم”.
التصدي لكل محاولات الهيمنة الخارجية التي تستهدف وجود سورية كدولة، من خلال تعبئة طاقات السوريين بكل فئاتهم الشعبية في نضال طويل ومتعدد الأساليب والأدوات، على الصعد كافة، للدعوات التقسيمية العرقية والمذهبية الطائفية، من خلال الاعتماد على إيجاد المؤسسات السورية الديمقراطية التي تجمع السوريين كافة، للدفاع عن وحدة سورية الجغرافية، وفي الوقت نفسه الانفتاح على القوى العالمية (دول ومنظمات وأحزاب..) التي تساند الشعب السوري، في نضالاته بالخلاص من الاستبداد والاحتلالات، والاستفادة من تعددها واختلافاتها وتناقضاتها السياسية لصالح القضية السورية.
5- دعوته إلى التمسك بإسقاط نظام الاستبداد، كهدف استراتيجي، حيث قال: “يجب الخلاص من هذا النظام الذي صادر أكثر من نصف قرن من تاريخ بلدنا”، وقد ربَط إسقاط هذا النظام الاستبدادي ببقاء السوريين على الجغرافيا السورية، إذ قال: “لن تصبحوا شعبًا واحدًا، ما دام نظام الأسد باقيًا، وما دام يستطيع التلاعب بكم، بل إنكم ستبقون تدفعون أثمانًا إقليمية ودولية كبيرة في سبيل حريتكم، فلا تتردّدوا في حثّ الخطى من أجل الخلاص منه نهائيًا، ويأتي في مقدمة ذلك الوحدة، لعزل هذا النظام والتخلص منه نهائيًا”.
6- دعوته إلى الاهتمام بالمرأة السورية والشباب، وإلى عدم إقصائهم من العمل السياسي السوري، حيث المشاركة الفعالة والشجاعة للمرأة والشباب في الثورة السورية 2011، إذ كتبالراحل: “تستحق المرأة السورية الرائعة والشجاعة والصابرة كل التقدير والعرفان، فهي التي أعطت للثورة السورية طابعها الخاص والمتميز، منذ بداياتها، وقدّمت كل ما يمكنها، من تضحياتٍ وبطولاتٍ. لذا لا يمكن أن نبني سورية الجديدة دون مكانة طبيعية للمرأة السورية، تضمن حقوقها ومكانتها السامية في المجتمع، هذا أقل تقدير لأمهاتنا وأخواتنا وزوجاتنا وبناتنا، فهم عنوان للحياة والكرامة. تحية لشباب سورية الشجعان الذين كسروا هيبة النظام بمظاهراتهم الجريئة التي واجهت هراوات الشبّيحة ورصاص أجهزة الأمن في مظاهراتهم السلمية، في امتداد مدن سورية وبلداتها وقراها، وكل المحبة للأطفال أبنائنا الذين حُرموا من طفولتهم، ومن طمأنينتهم، فهذا ما حاولناه من أجل مستقبل أفضل لهم”.
7- دعوته إلى فكرة أنّ النضال من أجل الحرية والخلاص من الاستبداد لا ينفصل عن النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والجولان، فالحرية واحدة للشعوب كافة، لذا أوصى كيلو السوريين في نضالهم ضد الاستبداد السوري بألا يسهوا عن دعمهم للشعب الفلسطيني، في نضاله التحرري ضد الاحتلال الإسرائيلي، وكذلك الجولان المحتل: “لا تنسوا يومًا أن قضية فلسطين هي جزء من قضايانا الأساسية، ففلسطين قضية حرية وكرامة وعدالة، وقضية شعبنا، أيضًا، كذلك، وتلك القيم السامية لا تتجزأ. كفاحنا مع شعب فلسطين جزءٌ من كفاحنا ضد الاستبداد، وبالعكس. ولتبق قضية استعادة الجولان في مقدّمة أجندتنا الوطنية”.
8- دعوته إلى الإنصات للمثقفين السياسيين الملتصقين بالقضايا الوطنية السورية، فمن المعروف أن انطلاقة الثورة السورية كانت من كل الفئات الاجتماعية والمهنية، ولكن هناك ضرورة لقيادتها وتوجيهها نحو الوجهة الوطنية الصحيحة، من قبل السياسيين والمثقفين العضويين المشهود لهم بخبرتهم ونضالهم التاريخي ضد هذا النظام، لذلك تضمنت وصيته الاعتماد على أصحاب المعرفة والفكر: «لا تتخلوا عن أهل المعرفة والفكر والموقف. ولديكم منهم كنز، اسمعوا إليهم وخذوا بما يقترحونه ولا تستخفوا بفكر مجرب فهو جزء من زادكم، وثروتكم الرمزية، وجزء من تاريخكم”.
أخيرًا، تحضر أهمية “وصية” الراحل كيلو، المثقف العضوي وضمير السوريين بامتياز، وهي تتضمن المعايير الوطنية الرئيسة التي تصل إلى إمكانية تسميتها بالميثاق الوطني الموحد للسوريين، في مرحلةٍ من التشظي والانقسامات السورية المركبة (العرقية، المذهبية والسياسية في صفوف السوريين كافة، بالإضافة إلى التدمير المادي، الاجتماعي، الثقافي والسياسي، بيد هذا النظام الاستبدادي الذي يحكم بالحديد والنار منذ خمسة عقود، وخاصة في السنوات العشر الأخيرة من الثورة والحرب المركبة؛ فهل ينصت السوريون إلى وصية الراحل كيلو، وهو الناطق والمعبّر الحقيقي عن معاناتهم وصبرهم الثقيل، طوال عمره النضالي حتى قبل لحظات من وفاته؟
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة