حول الطغيان.. دروس من القرن العشرين

محمد برو

إن كان ثمة ظاهرة هي الأبرز شيوعاً في القرن العشرين والتي امتد ظلامها إلى القرن الحالي، فإنما هي ظاهرة الطغيان، والتي يمكن أن تتبدى بأشكال وأسماء متعددة، كالديكتاتورية والقمع، وحكم العسكر والحاكم الفرد، وما إلى ذلك من تبديات متنوعة لجوهرٍ واحدٍ هو الطغيان.

لقد أراد “تيموثي سنايدر” في كتابه “حول الطغيان” أن يبعث برسالة للمجتمع الأميركي بالدرجة الأولى، عقب وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وما لذلك من دلالة على قدرة رأس المال في الوصول إلى هرم السلطة وممارسة الطغيان، الذي يكاد يشكل متلازمة لتزاوج رأس المال بالسلطة السياسية، حتى لو تمَّ هذا الوصول عبر صناديق الانتخابات، تلك الرسالة التي يبعث بها تيموثي في كتابه، تهدف لإزاحة ذلك الوهم السائد، بتفرد التجربة الديمقراطية الأميركية واستثنائيتها، والتي تلتقي مع المزاعم الخاطئة التي جنح إليها “فوكو ياما” في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”.

هذه ليست ظاهرة جديدة، فقد كان أفلاطون يعتقد أن بعض زعماء الغوغاء يستغلون حرية التعبير، لينصبوا أنفسهم مستبدين وطغاة، وهذا ما حصل في عهد دونالد ترامب، وكان بادي الوضوح في تلك الفوضى العارمة التي وصلت إليها الأمور، حين اقتحمت جموعٌ من أنصاره مبنى الكونغرس، وشكلت نموذجاً صارخاً لتهديد الديمقراطية والاستقرار.

وبالرغم من جميع المنجزات التي قدمتها أنظمة الحكم الديمقراطية الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، إلا أن المتتبع للوقائع اليوم لن ينجو من عدوى القلق التي تخامر المفكرين والساسة الأميركيين، من تهديد تجربتهم بالطغيان، تلك التجربة التي يعدونها الأهم والأنجح عالمياً.

وكما يرى المفكر الجزائري “مالك بن نبي” في كتابه شروط النهضة: “أنَّ الخلية الحية وهي في أوج سيرها الحثيث وصعودها نحو الكمال، إنما تتجه بذات سيرورتها نحو الفناء”، وكذلك الأنظمة والدول، فقد ينتج نظام يعلي من حرية الفرد ويشدد على تأليهه بذات الآلية، أنماطاً عبثية من ممارسة الحرية يسهل التلاعب بها، وربما تفضي إلى الانهيار.

وقد سبق لمظاهر انعدام المساواة الحقيقية التي أنتجتها مفاعيل طغيان رأس المال، وأنماط صراع رأس المال المتوحش التي نتجت عنه، أن أدت إلى ظهور الفاشية والشيوعية، اللتين كانتا تمثلان أحد أشكال الاستجابة لهذا الخلل العولمي، وعجز الأنظمة الديمقراطية يومها عن معالجة تداعياته.

النقطة الأهم التي يريد “تيموثي سنايدر” الإشارة إليها هي أنَّ الإرث الديمقراطي الغربي غير محصن ذاتيا من تلك التهديدات، كما هو الوهم السائد.

وكتب سنايدر كتابه عبر عشرين فقرة بطريقة هي الأقرب إلى الوصايا، وكأنها الوصايا العشرون لحماية الإرث الديمقراطي من تغول الطغيان. على غرار: ((لا تعط الطاعة مقدماً، دافع عن المؤسسات، احذر من دولة الحزب الواحد، كن على حذر من القوى شبه العسكرية، كن متحوطاً إن اضطررت إلى حمل السلاح، كن متميزاً وعارض، مارس السياسة بجسدك، ساهم بدعم القضايا النبيلة، تعلم من نظرائك في الدول الأخرى، كن مناضلاً وطنياً، كن شجاعاً بكل ما تستطيع))

هكذا يقدم تيموثي لوصاياه كما لو أنها وصايا من العهد القديم، جميع تلك الوصايا مهمة، لكن من البديهي أن يلحظ القارئ لتلك الوصايا أنها محض أحلام في عالمنا العربي، حيث الدولة القمعية البوليسية تقتل أدنى فرصة لوصول الضوء أو قطرة الماء إلى بذور الحرية وصحوة الفكر، إنها تعني المجتمعات الغربية التي تعاني من انزلاق خيوط اللعبة الديمقراطية من بين أصابعها، وتوشك على الانحدار نحو تطرف يميني، بدأت تلوح مظاهره التي تتشكل عبر انحيازات المزاج العام، باتجاه المزيد من التشدد وفوبيا الآخر، الذي أخذ بالتدفق إثر تباشير انهيار المنظومات القمعية في العالم العربي.

وربما يميل “تيموثي سنايدر” إلى اختزال الآلية التي ينهج بها الطغاة الجدد، الذين يتسيَّدون المشهد إثر فوزهم بصناديق الانتخابات، في فكرة تمييع الحقائق وجعلها أمراً ضبابياً مزيفاً، غير قابل للقياس أو التحديد، الأمر الذي يخلق لبساً بين الحق والباطل، وبين الخطأ والصواب، وأن دور المواطن بصفته فرداً أو عضواً في جماعة، أن يعيد كشف الحقيقة ويجعلها قوةً جماهيريةً مسلطةً على الفساد والانحراف.

يختم تيموثي وصاياه في نقد الحتمية السياسية، التي تزعم أن التاريخ لا يملك غير التقدم للأمام، نحو الديمقراطية الليبرالية، وهذا برأيه يمثل غيبوبةً فكريةً يفر إليها أصحابها عامدين، وليس أشد خطراً منها إلا فكرة الخلود السياسي، التي تتلبس أدمغة الساسة الأميركان.

هذه الحتمية أفرزت منطقاً مستسلماً للوضع الراهن، الذي لا يؤمل تغييره، فحين نتقبل الحتمية كأمرٍ مسلمٍ به فإننا نؤكد صاغرين عدم قدرتنا على التغيير، وهذا ما يعارضه منطق الحياة ووقائع الحاضر والتاريخ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كتاب حول الطغيان من إصدار دار جسور 2021

تيموثي سنايدر. مؤرخ أميركي وأستاذ التاريخ بجامعة ييل من مساهماته المهمة “كيف يؤثر فاشٍ روسي عاش قبل 60 سنة في الانتخابات الأميركية”

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى