مقدمة:
ارتبط مفهوم المجتمع المدني بموضوع الديمقراطية ارتباطاً وثيقاً خلال العقود الثلاثة الأخيرة ، حيث نجد أنهما أصبحا متلازمين بشكل يوحي بأنه لا يمكن أن توجد دولة ديمقراطية دون وجود مؤسسات للمجتمع المدني تعمل في إطارها ، بل أننا نلاحظ أن الدولة تسعى إلى إنشاء أو المساعدة في إنشاء تلك المؤسسات التي تعطيها الصبغة الشرعية وتُعزز موقفها القانوني أمام المنظمات الدولية المختلفة ، وللعولمة بآلياتها المتعددة وبخاصة ما يتعلق بالتقدم التكنولوجي الهائل في مجالات عديدة وأهمها وسائل الاتصال دور بارز ، مما سهل وصول المعلومة في أي مجال ومن أي مكان في العالم إلى أي مكان بكل يسر مما خلق ثقافة جديدة لدى الشعوب تسعى إلى نقل كل ما ترى أنه من الممكن بأن يعزز الحرية ويخلق المناخ الديمقراطي المطلوب ،
ومثله مثل مفهوم العولمة فقد أصبحت الإشارة إلى موضوع المجتمع المدني لازمة ضرورية في كل مناسبة تخص نقاش مشكلة الديمقراطية ، ونظراً لأن النقاش الدائر حول ” المجتمع المدني ” لم يظل أكاديمياً صرفاً ، بل اتخذ طبيعة السياسة العملية الملموسة كما يرى البعض ، فإنه يمكن القول إذن ، أن مصطلح ” المجتمع المدني ” يصبح شعارا تعبويا لمختلف القوى والفئات الاجتماعية الساعية إلى إجراء تحويلات عميقة في مختلف مستويات التشكيل الاجتماعي في العديد من البلدان ، وإذا كان المجتمع المدني هو مجموعة القيم والأعراف التي يقبلها المجتمع المنظم على نحو سلمي طوعياً ، وهذا القبول الطوعي هو بالضرورة نتاج للثقافة الأم من جانب ثم نتاج أيضا لثقافة قائمة بذاتها تتركز حول العمل الطوعي العام ، ووفق هذا القول فإن المجتمع المدني يشمل كل المنظمات والتجمعات المدنية غير الساعية إلى السلطة والتي تتوسط بين الأفراد والدولة ([1]) ، ورغم أن مفهوم الديمقراطية في حد ذاته يثير إشكاليات عديدة من حيث المعنى والآليات والأهداف ، إلا أن المتفق عليه هو أن الديمقراطية تعني سلطة الشعب ، وعليه فإننا أمام تساؤل مهم وهو ، إذا كان الشعب الذي يشكل الدولة الديمقراطية بكامله يمارس السلطة ، وهو نفسه من يشكل المجتمع السياسي في إطار الدولة ، فلماذا لا يتحول المجتمع كله إلى مجتمع مدني ؟ ، أي كيف نفرّق بين المجتمع المدني وغير المدني ؟ ، ونرى بأن الجمعيات بمختلف تخصصاتها واهتماماتها الأهلية والخيرية والحرفية وغيرها تؤدي تلك الأدوار بشكل جيد إذا ما أُحسن إعدادها وتوظيفها ، وبالتالي يتشكل المجتمع الديمقراطي الكامل .
وسيتم تناول هذا الموضوع في عدة محاور وهي كالتالي :
أولا : المجتمع المدني في الفكر الإنساني / النشأة والتطور :
رغم التأكيد على أن الاهتمام بالمجتمع المدني بمفهومه العام أو الواسع لم يظهر إلا حديثاً خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة ، إلا أننا نجد إشارات واضحة إلى هذا المفهوم منذ العصور القديمة وتحديداً بظهور أفكار أرسطو التي تلتها العديد من الأفكار التي تناولت بشكل أو بآخر الموضوع كجزء ذي قيمة في التفاعل الإنساني الذي انعكس إيجاباً على سلوك الأفراد المجتمعي وبالتالي على النظام الاجتماعي للمجتمعات الإنسانية المختلفة ، حيث تشير أدبيات الفكر السياسي الإنساني إلى الاهتمام بمفهوم المجتمع المدني دون أن نغفل الإشارة إلى الاختلافات التي كانت تطال التسمية من عصر إلى آخر ومن فكر إلى غيره . لقد استُخدم مفهوم المجتمع المدني منذ زمن بعيد في الفلسفة ، فتحدث عنه أرسطو من خلال ما أسماه olitikeo Koinonia أي ذلك الفضاء الاستشاري المتميز عن الأسرة والشعب ولكن المتشابه مع الدولة ، ولكن كانت فكرة المجتمع المدني في فلسفة أرسطو السياسية تختلف عن دلالاتها المتعددة منذ العصر الوسيط وحتى الفترة المعاصرة ، فإن مقارباته الفلسفية لمفاهيم “الجماعة السياسية” و”الحياة المدنية” وطبيعة الإنسان ، قد سمحت مع ذلك بإعطاء فكرة عامة عن الإرهاصات الفلسفية والسياسية الأولى لتشكل هذا المفهوم([2]) ، عندما كتب أرسطو عن الـ Politike Koinonia كان يعني به جماعة سياسية ، ولكن أصبح في التراجم اللاتينية Societies Civilis ، ومنه جاءت تسمية المجتمع الأهلي أو المدني ، والإنسان بالنسبة لأرسطو هو في أعلى مستويات نشاطاته المختلفة ، حيوان سياسي ، والمدينة (Polis) تمثل غرضه أو غايته بالمعنى القطعي ، بعبارة أخرى المدينة ليست هدفاً خارجياً يحاول المرء الوصول إليه وإنما هي الإنجاز الذي يحقق تماماً الإنسان كحيوان سياسي ، والـ Politike Koinonia هي جماعة ذات أسس أخلاقية وأبعاد سياسية معاً ، وتتألف من مواطنين أحرار متساوين ، وهي تعمل في ظل قوانين وقواعد تعتبر بمجموعها إفصاحاً عن جملة من القيم هي روح الجماعة ([3]) . إن المطروح فيما وصل إلينا من أفكار وتوجهات ذات بعد نظري يؤكد على أن مفهوم المجتمع المدني ، ليس كمصطلح ، بل كدلالات وأبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية ، وبالتالي كموروث ثقافي ، انتعش وازدهر في الفترة التي يطلق عليها عصر النهضة والتنوير في أوروبا ، تلك الفترة التي استغرقت حوالي ثلاثة قرون ، أي من بداية القرن السادس عشر إلى نهاية القرن الثامن عشر ، حيث انهار النظام الثيولوجي الذي كان قائماً على سلطة الكنيسة الكاثوليكية وتفرد رجال الدين بالسلطة باعتبارهم ظل الله في الأرض ، ومجيء الكنيسة البروتستانتية التي انفتحت بشكل جيد على أفراد المجتمع ، خاصة وأن العديد من العلماء والمفكرين يُرجع مفهوم كلمة المدني بأنه مقابل الديني أو مقابل العسكري أو مقابل السياسي ، ويُعد منظرو العقد الاجتماعي رواد كلاسيكيين لتناول المفهوم في بداياته الحقيقية ، عندما أكدوا على وجود الحالة الطبيعية التي عاشها الأفراد قبيل انتقالهم إلى المجتمع المنظم أو الدولة بمفهومها الحديث والتي تأسست نتيجة للتعاقد الذي تم بينهم . إذن فإن نظرية المجتمع المدني وإن تم تناولها في أفكار ونظريات العديد من الفلاسفة والمفكرين ومن أبرزهم الفيلسوف الاسكتلندي “آدم فرجسون ” في كتابه (مقال في تاريخ المجتمع المدني 1767) و ” توماس باين” في كتابه (حقوق الإنسان1791) ، فإن فكرة المجتمع المدني تبلورت لدى فلاسفة الثورة الانجليزية والفرنسية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ويشير” دينار شيخاني” (*) إلى أن النواة الأولى لنظرية العقد الاجتماعي ظهرت على يد الفيلسوف الانجليزي ” توماس هوبز 1588-1679″ وتطورت النظرية على يد مواطنه “جون لوك 1632-1704″ ، وقد تكاملت النظرية وبلغت صيغتها العلمية الكاملة على يد الفيلسوف الفرنسي ” جان جاك رسو1712-1778″ ، وينسب الكثير هذه النظرية إلى ” روسو” كونه عرض هذه النظرية بوضوح معبراً عن آرائه وآراء من سبقوه بأسلوب ثوري رائع في كتابه الشهير (العقد الاجتماعي) ، ولا يغيب عنا الدور العربي الإسلامي في نشأة وتبلور مفهوم المجتمع المدني سواء كان ذلك حسب تسميته الحديثة أم كان ممارسة من خلال أبعاد ودلائل تشير إليه بوضوح ، فإذا ما قارنّا بعض ما ذكره ” ابن خلدون ” في مقدمته الشهيرة عن الاكتساب مع الدور الذي يقوم به المجتمع المدني بشأن تطور الاقتصاد والنهوض بالتنمية ، نجد الكثير من الإشارات المتوافقة التي تدل على عبقرية وبُعد نظر العقل العربي، حيث يقول ابن خلدون (…. دوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في اكتسابها وتحصيلها، انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك ، وعلى قدر الاعتداء ونسبته ، يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب ، فإذا كان الاعتداء عاماً في جميع أبواب المعاش ، كان القعود عن الكسب كذلك….وإن كان الاعتداء يسيراً ، كان الانقباض عن الكسب على نسبته ، فإذا قعد الناس عن المعاش ، وانقبضت أيديهم عن المكاسب، كسدت أسواق العمران)([4]) ، وفي إطار اهتمام ” ابن خلدون” بالاجتماع الإنساني الذي يميز البشر عن غيرهم من الكائنات ، اهتم بالعلم كظاهرة اجتماعية وأفرد له قسماً من مقدمته يعُد أول كتاب في الاجتماع ، وكان أول فصوله “في أن العلم والتعليم طبيعي في العمران البشري” كان يهدف من ورائه أن يبين بأن العلم جزء من تكوين المجتمع وأنه نابع من خاصية التفكير التي تفرد بها الإنسان عن غيره من الكائنات ، وأن هذا العلم مرتبط ببيئة اجتماعية معينة وهي المجتمع المدني حيث تتوفر فيه وسائل نقل المعرفة وأدواتها وهو ما لا يتسنى توفره في المجتمعات التي تعيش حياة البداوة معتمدة على الرعي وما يتبعه من تنقل وترحال، فما لا يختلف عليه اثنان هو أن المجتمع المدني أولاً وقبل كل شيء (مجتمع المدن) وأن مؤسساته هي تلك التي ينشئها الناس بينهم في المدينة لتنظيم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، فهي إذاً مجتمعات إرادية يقيمها الناس وينخرطون فيها أو يحلّونها وينسحبون منها ، وذلك على النقيض تماماً من مؤسسات المجتمع البدوي القروي التي تتميز بكونها مؤسسات (طبيعية) يولد الفرد منتمياً إليها ، مندمجاً فيها ، ولا يستطيع الانسحاب منها([5]) . إن الدارس للتاريخ الإسلامي يلاحظ أن هناك حِرفاً ومهناً استقر لكل منها عُرفها وأصولها حتى أصبح ذلك مقبولاً لدى القاضي والمحتسب في فض المشاكل المهنية ، وكأنها نقابات ومنظمات مهنية لها قوانينها وضوابطها الملزمة للحكومة ، وبهذا يتضح لنا أن نسبة المجتمع المدني إلى المدينة ليس للقرابة اللغوية فقط، ولكن لأن المدينة ليست مكاناً اجتماعياً وإنما هي الميدان الذي تتبلور فيه الجماعة بأي نوع كان لأن الانتساب إلى الجماعة لا يعني انتماء إلى دولة، وبهذا يمكن أن نجد في (الأمة) و(الجماعة) أسس ما نسميه بلغتنا المعاصرة (المجتمع المدني) أو(مؤسسات الأمة) التي يجب أن تتمتع بالاستقلالية لتأسيس الحقوق على مقاصد الشريعة وبما يحقق ترسيخ مقدمات الواجب، إذ أنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، أو درجه ضمن فروض الكفاية التي تشير إلى قواعد التوجيه والالتزام بالجماعة لإقامة مؤسسات تسد حاجة الأمة بكل مكوناتها دولة ورعية ([6]) ، فالمجتمع الإسلامي يقدّر ويقدّس العمل الفردي (فرد – جماعة) الذي يعمل لأجل الصالح العام ويسد حاجات الأفراد الذين لا تصلهم جهود الدولة (فالمسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا) ، وبذلك فإن الشروط المحددة لفكرة المجتمع المدني قد جاء بها الإسلام ورسّخها المجتمع الإسلامي المنظم أي الدولة الإسلامية في شكل طوعية تكوين التشكيلات الاجتماعية وانتظامها من خلال بناء مؤسسي يكون العمل من خلالها تطوعياً، وقد ارتبط كل ذلك بالعدالة والحرية والمساواة وصون الحقوق وأداء الواجبات .
ثانياً : ماهية المجتمع المدني :
للتحولات الهائلة في الفكر السياسي الأوروبي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر بعد الإطاحة بالنظام الثيولوجي القديم والتخلص من فكر أزمنة العصور الوسطى ، دور بالغ الأهمية في ظهور نظام جديد أبرزت فيه على وجه الخصوص نظريات العقد الاجتماعي من خلال أفكار روادها هوبز و روسو ما أصبح يعرف بالمجتمع المدني والذي كان يُقصد به تلك المؤسسات الاجتماعية التي تقف على المسافة الفاصلة بين الفرد بصفته عضواً في الأسرة والدولة ، حتى وإن اختلفت المفاهيم التي تناولت ذلك بين ما كان سائداً وما عرفه مفهوم المجتمع المدني في القرنين التاسع عشر والعشرين من تطور جنح به أحياناً في اتجاه المغايرة والاختلاف ، ولا يعدو ذلك كونه نوعاً من التلخيص التجريدي لما عرفته كل من (الدولة) و (المجتمع) من تحول وتطور سواء من حيث البناء الداخلي أو الذاتي لكل منها ، أو من حيث العلاقة التي تقوم بينهما فتكون من (الدولة) إرادة في السيطرة أو في الاحتواء وتكون من (المجتمع) نزوعاً نحو المزيد من الاستقلال و التمايز عن الدولة ودعوة إلى التقليل من ثقل حضورها ([7]) . إن الاختلافات قائمة حول مفهوم المجتمع المدني كما هي غالباً بين العلماء والمفكرين عندما يتعلق الأمر بالمفاهيم والمصطلحات الإنسانية حيث تؤثر العديد من العوامل الذاتية والموضوعية في ذلك ، والاختلاف الذي يصل في بعض الأحيان إلى التناقض ما هو إلا إثراء للموضوع محل البحث والدراسة ، ويتضح ذلك مما أسلفنا في تعدد التسميات التي تشير إلى مفهوم المجتمع المدني حيث يذهب البعض إلى إطلاق المجتمع الأهلي عليه وهناك من يشير إلى ذلك باسم التنظيم غير الرسمي ، وقد توجد اختلافات حول مفهوم المجتمع المدني ولكن يمكن أن نعتمد على شكل مبسط من المفاهيم الذي يصبح فيه المجتمع المدني عبارة عن مجموعة من التنظيمات التطوعية المستقلة نسبياً والتي تملأ المجال العام بين الأسرة و الدولة لتحقيق مصالح الأفراد أو تحقيق منفعة جماعية للمجتمع ككل، وهي في ذلك ملتزمة بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والإرادة السلمية للتنوع والخلاف ([8]) .
وبذلك فإن المجتمع المدني ينطوي على جوانب أساسية وهي :
مبادرات أهلية مجتمعية تقوم على أساس حرية الفعل الإرادي . لابد للمجتمع المدني من إطار تنظيمي يقوم أساساً على التراضي بين مكوناته . أن يسود المجتمع نوع من الثقافة المدنية ، أي تقبّل الآخر واحترام وجهة نظره وأن يسود التسامح و التعاون والإدارة السلمية عند تناول الموضوعات الخلافية . لقد ركزت بعض التجارب التي قام بها السلوكيون على دراسة التنظيم غير الرسمي ذلك التنظيم الذي يتكون بين الأشخاص وبعضهم البعض ولا يصدر بقرار رسمي أو أن يكون للإدارة العليا دخل فيه ، إن منطق السلوكيون لا يركز على كيفية تصميم المنظمات ولكن على دينامكية المنظمات في الممارسة العملية ([9]) ، وقد أوضحت تجارب (هاوثورن) التي أجريت بين عامي 1927ـ1932م في مصانع شركة وسترن إلكتريك في مدينة شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية ، إضافة إلى تأثير بعض المتغيرات المادية على إنتاجية الأفراد المشاركين في التجارب ، وجود تغيير جديد وهو الروح المعنوية للعمال ومدى الانسجام والوئام القائم بين المجموعة العاملة ، ما يؤكد على أن مؤسسات الدولة التي يقيمها النظام الرسمي ، يتكون في إطارها نظام اجتماعي بالإضافة إلى أنها نظام متين وإن هذا النظام الاجتماعي يحدد أدوار أو معايير لسلوك الفرد تختلف عن أدوار ومعايير التنظيم الرسمي للمنظمة ، حيث تلعب الجماعة غير الرسمية دوراً في تحديد اتجاهات الأفراد العاملين وأدائهم . ورغم إننا نجد أثراً لمفهوم المجتمع المدني من خلال أفكار أفلاطون وأرسطو مروراً بهوبز ولوك وروسو وغيرهم من مفكري الفكر الغربي الحديث مثل كانط وهيجل وماركس ولينين وغرامشي إضافة إلى من تناول هذا الموضوع بشكل مباشر أو غير مباشر أمثال أوجست كونت وسان سيمون وتوكفيل وماكس فيبر ، إلا أنه دخل في سبات طويل لم ينتعش فيه المفهوم إلا حديثا حيث عاد هذا المصطلح بثوب فضفاض وآفاق واسعة نرى إن للعولمة دور بارز في ذلك نظراً لانتشار مفاهيم بارزة مثل الديمقراطية والحرية والعدالة وحقوق الإنسان للحد من تسلط الدولة ، مع استفادة الدولة من ذلك تنفيس الاحتقان والتوتر السائد بين قطاعات المجتمع مما يخلق ، إلى حد ما ، التوازن في علاقة الدولة بمواطنيها واستقرار نظام الحكم السائد .
ثالثا : قراءات في مفهوم المجتمع المدني :
أشرنا سابقاً إلى أنه من الصعوبة بمكان أن نجد تعريفاً دقيقاً ومتفقاً عليه للمجتمع المدني ، إلا أنه هناك مرتكزات أساسية يعتمد عليها أغلب المتعاملين مع هذا الموضوع وتشكل قاسماً مشتركاً بينهم ما يعطي مصداقية وقبول لدى المتلقي سواء المتخصص أو غيره ، ونحاول هنا أن نشير إلى مجموعة من التعريفات التي اجتهد أصحابها في وضع إطار فكري معرفي لمدلولات المجتمع المدني ، حيث تجدر الإشارة إلى أن المعنى الأصلي لمفهوم المجتمع المدني هو (المجتمع السياسي ) تمييزاً له عن المجتمع الثيولوجي الذي كان قائماً زمن القرون الوسطى في أوروبا إبان حكم الكنيسة الكاثوليكية ، ذلك المجتمع السياسي الذي تحكمه القوانين تحت سلطة الدولة ، إلا أن المعنى الأكثر شيوعاً الآن تمييز المجتمع المدني عن الدولة بوصفه مجالاً للجمعيات والمنظمات والمؤسسات الغير حكومية ، حيث أطلق عليه إدموند بيرك Edmund Burke الجماعات أو الفصائل الصغيرة ، ويلاحظ عبد الباقي الهرماسي إن مفهوم المجتمع المدني قد مر بأطوار ثلاثة من الظهور والاختفاء ، ومن المد والجزر : طور أول ، يقع بين الشطر الأخير من القرن الثامن عشر ونهايات القرن التاسع عشر( وفيه كان للمفهوم صولة وحضور في الفكر السياسي والاجتماعي ) ، وطور ثان، منذ قرابة قرن كامل (آل فيه الأمر بالمفهوم إلى الضمور والاختفاء ) ، وطور ثالث ، وهو الثلث الأخير من القرن العشرين ( ويصح أن يوصف بطور الانتعاش ومعاودة احتلال صدارة النقاش السياسي ) ([10]). وتعرّف الأمم المتحدة المجتمع المدني ممثلاً في المنظمات غير الحكومية بأنه مجموعات طوعية لا تستهدف الربح ينظمها مواطنون على أساس محلي أو قطري أو دولي، ويتمحور عملها حول مهام معينة ويقودها أشخاص ذوو اهتمامات مشتركة ، وهي تؤدي طائفة متنوعة من الخدمات والوظائف الإنسانية ، وتطلع الحكومة على شواغل المواطنين ، وترصد السياسات وتشجع المشاركة السياسية على المستوى المجتمعي ، وهي توفر التحليلات والخبرات وتعمل بمثابة آليات للإنذار المبكر، فضلاً عن مساعدتها في رصد وتنفيذ الاتفاقات الدولية ، ويتمحور عمل بعض هذه المنظمات حول مسائل محددة من قبيل حقوق الإنسان أو البيئة أو الصحة. ويشير سيف الدين إسماعيل إلى أن مفهوم المجتمع المدني هو (مفهوم مأزق) ذو مرجعية غربية ، منقول إلى الواقع العربي ، وهو في خبرته مفهوم أيديولوجي ، يرتبط باتجاهات مختلفة كما تتبناه مدارس مختلفة ، وهو مضطرب المعاني ، صعب التكيف ، كما أنه ليس محل اتفاق ، وهو مفهوم منظومة يستدعي سيلاً من المفاهيم الغربية ، وهو مفهوم حضاري يرتبط أو هكذا أُريد له بالمشروع الحضاري والنهضوي التحديثي ، وهو أيضاً مفهوم نسبي ، وهو وفق تعبير البعض مفهوم نظري إجرائي([11]) ، ذلك كله يوحي لنا بأن التعامل مع هذا المفهوم (المجتمع المدني) دون قيد أو شرط يعُد سذاجة ، وعدم قبول التعامل معه تهرّب من فك الارتباط الفكري الذي ليس لنا أن نتجنبه بشكل كامل وحاسم ، وذلك يدعونا إلى دراسة مستفيضة لهذا المفهوم الذي وُلد في إطار فكر المجتمعات البرجوازية والعلاقات الرأسمالية الظالمة والصراع الطبقي الذي يميز تلك المجتمعات . في حين نجد بيننا من يناقش مصطلح (المجتمع المدني) كونه مصطلحاً له دلالاته التي تحتمل أكثر من احتمال ، فهو حسب رأيه مصطلح غني بالدلالات والأبعاد ، ومن أهمها كونه يراد به تغريبه عن العقل العربي وعن بنية المجتمع العربي ، ليقف الإنسان العربي ضده ويعمل على إعاقة تحقيقه كونه يأتي من الآخر الذي لا نتفق معه ولا نثق به ، ومن جهة أخرى فإن المجتمع المدني حسب هذا التوجه إنما هو من أهم التقاليد التي كانت العرب تعمل على إرسائها في الحياة الاجتماعية منذ زمن بعيد ، ولذلك فهو ليس غريباً عنا وإنما من صلب البنية الاجتماعية العربية قديماً وحديثاً ([12]) . ويذهب حسنين إبراهيم إلى أن مفهوم المجتمع المدني يقع في دائرة المفاهيم التي لا يمكن الفصل بين مؤشراتها الكمية ومؤشراتها الكيفية على نحو دقيق ، وإن الفصل بين النوعين من المؤشرات يتضمن قدراً من التعسف ، حيث إن المؤشرات الكيفية تتضمن عناصر قابلة للقياس الكمي ، كما إن بعض المؤشرات الكمية قد يكون لها جوانب كيفية ، ولذلك قد يكون من الأدق الحديث عن الجوانب الكمية والكيفية لمؤشرات المجتمع المدني ، ويمكن القول أن مفهوم المجتمع المدني يشير إلى (مجموعة من الأبنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية تنتظم في إطارها شبكة معقده من العلاقات والممارسات بين القوى والتكوينات الاجتماعية في المجتمع ، ويحدث ذلك بصورة دينامية ومستمرة من خلال مجموعة من المؤسسات التطوعية التي تنشأ وتعمل باستقلالية عن الدولة)([13]) . أما عويد فقد أشار في مقال له بعنوان: دلالات المجتمع المدني ومعطياته ، بأنه ليس هناك مفهوم ثابت كمعطى وحيد أوحد ، صالح في معطياته ودلالاته لكل زمان ومكان ، فالمفاهيم هي عادة تاريخية بامتياز وذلك انطلاقا من أن : كل تعريف هو بالضرورة تحديد ، والتحديد يعني الثبات ، والثبات هو الجمود والموت بذاته ، ويرى أن المفهوم مرتبط بتاريخ نشأته وسيرورة هذه النشأة و صيرورتها ، فهو مرتبط بالمشكلات (الصراع والتفاعل الاجتماعي) التي كانت مطروحة عند نشوئه ومجموعة الرؤى والأفكار التي لازمته حيث يأتي مفهوم المجتمع المدني وفق هذه المعطيات على أنه تحالف أو مجموعة من التحالفات الاجتماعية التضامنية ، نقابة ، حزب ، منظمة ، جمعية خيرية ، واجتماعية أو ثقافية ….الخ ، لها أهدافها ومصادر تمويلها وطموحاتها ومصالحها المحددة بناء على طبيعة المشكلات المادية والفكرية ، حالات الصراع والتفاعل الاجتماعي والإيديولوجي التي تعيشها المرحلة التاريخية المحددة أيضاً من جهة ثانية ([14]) . ومما لاشك فيه إن البناء الاجتماعي وتكويناته الداخلية في إطار الجماعات البشرية يتيح بدرجة كبيرة مجالاً لنمو الوعي داخل تلك الجماعات بما يحقق مصالح خاصة وعامة من خلال إدراك غايات وأهداف مشتركة تسعى مجموعات من الأفراد الذين تشغلهم تلك المصالح والأهداف والغايات للوصول إليها وتحقيقها ، ويشير مفهوم التكوينات الاجتماعية إلى مجموعات بشرية تجمعها روابط خاصة ، تضفي عليها قدراً معيناً من التضامن الداخلي بين أفرادها، وتجعلهم مهيئين للسلوك الجماعي طبقاً لهذه الروابط وهذا التضامن سعياً وراء تحقيق مصالح خاصة بهذه المجموعة ، وقد تكون بعض تلك المصالح عامة ـــــ كما أسلفنا ـــــ تهم كل فئات المجتمع ، ومن هذا المنطق فإن التكوينات الاجتماعية التي تقوم على الأسس المتعلقة بالانجاز تعد من المقومات الأساسية للمجتمع المدني كما تطور في الغرب الرأسمالي الصناعي ، في حين وجود بعض التكوينات الاجتماعية التي تعتمد على أسس موروثة ويظل دورها في النظام الاجتماعي ثانوياً ومحدوداً ([15]) ، ويمكن طرح بعض المؤشرات للتعامل مع مفهوم القوى والتكوينات الاجتماعية كأحد مقومات المجتمع المدني ، ومنها الحجم العددي لتلك القوى والتكوينات القائمة على أسس حديثة تتعلق بالانجاز ، ودرجة تبلورها الذي يدل عليه مدى وعي أعضاء هذه التكوينات بالانتماء إليها ، كذلك درجة التضامن الداخلي بين أفراد هذه التكوينات ، حيث إن تكوينات ومؤسسات المجتمع المدني قادرة على التصرف في شئون أفرادها بكل حرية واستقلالية ما يعني قدرة أفراد المجتمع على تنظيم نشاطاتهم بعيداً عن التدخل المباشر للدولة.
رابعاً : المجتمع المدني والدولة:
ظهر الاهتمام بموضوع الدولة في الحضارات القديمة ؛ إلا أن ذلك الاهتمام بها على إنها من أهم المؤسسات السياسية الموجودة في المجتمع لم يظهر جلياً إلا في عصر النهضة والتنوير عندما بدأ العقل الإنساني يتحرر من هيمنة النظام الديني الكنسي وأصبح يمارس المعرفة بشكل علمي موضوعي حيث بدأ البحث عن شكل جديد لنظام السلطة السياسية في المجتمع فهاجم (مكيافيللي) السلطة الدينية ورأى أنها عقبة كأداء في طريق وحدة إيطاليا السياسية كما سار أيضاً على نفس الدرب أصحاب نظرية العقد الاجتماعي ومن جاء بعدهم ، حتى أصبحت الدولة تعد من أهم المنظمات السياسية الموجودة في المجتمع ولا يمكن مقارنة أهميتها وسيادتها بأهمية وسيادة أية منظمة أخرى لسلطتها العليا التي تمارسها مع الأفراد والمنظمات ونظراً للوظائف التي تقدمها لأفراد المجتمع([16]) ، وقد أخذ مفهوم الدولة ولازال الكثير من اهتمام علماء الاجتماع والسياسة والاقتصاد والقانون والإدارة وغيرهم يهتمون به ، ويعكس ذلك مدى الأهمية القصوى التي توليها المجتمعات للدولة باعتبارها نظام سياسي قانوني شمولي يتعدى شكل نظام الحكم ليقوم بالعديد من المسؤوليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي تهم المواطنين([17]) . وحيث إن المجتمع المدني بمنظماته المتعددة وأغراضه المختلفة التي تصب في أطار تحقيق آمال وطموحات أفراد المجتمع يعُد ميداناً رحباً لممارسة الحرية التي ينشدها الأفراد إما هرباً من بطش الدولة أو معالجة لأوجه القصور والتقصير في مجالات عديدة أو ما إلى ذلك ، وعلى هذا الأساس فإن علاقة الدولة بالمجتمع المدني عادة ما تدور في إطار محدد تتضح معالمه عادة بمدى نظرة النظام السياسي لما تقوم به منظمات المجتمع المدني من جهود في مجال المحددات الاقتصادية والثقافية والأخلاقية والسياسية التي تحكم تفاعل الأفراد مع واقعهم الاجتماعي ، مع الأخذ في الاعتبار تفسير منظمات المجتمع المدني للجهود التي تبذلها الدولة تنفيذاً للسياسات المرسومة ، ويُعد ذلك أمراً مهماً لتحديد العلاقات التي يجب أن تسود لتحقيق الصالح العام الذي من المفترض أن يسعى إليه كل من المجتمع المدني بمؤسساته الطوعية الجماهيرية والدولة بمؤسساتها القانونية بما يحقق التقدم والتطور، بذلك فإن الخوض في شرعية بناء أو وظيفة أي منها إنما يرسخ الشد إلى الخلف والتأخر وذلك ما لا يرتضيه المجتمع الراشد الذي يسعى لمواكبة التطور الذي تشهده المجتمعات المتقدمة ، وإذا أعتُرف للدولة الحديثة باستقلالية مؤسساتها عن المجتمع ، فهذا لا يعني تبعية المجتمع لها ، بل يعني وجود حيّز واسع لحراك مجتمعي مستقل عن الدولة ، والتمييز بين المجتمع المدني كمجال عام والدولة كمجال عام آخر ، لا يعني أن العلاقة بينهما هي علاقة نفي وانفصال ، أو أن المجتمع المدني هو نتيجة هدم أو تراجع الدولة أو زعزعتها ، بل هو نتيجة العلاقة بين المجتمع والدولة ، وهو كما يرى (مونتيسكيو) وليد قوة الدولة التي توازن بها قوتها وتحدد بها صلاحيتها، فالمجتمع المدني ليس اللا دولة ، وإنما هو شرط وجود الدولة مثلما أن الدولة هي شرط وجوده أيضاً . عندما نتناول العلاقة القائمة بين الدولة بشكلها المتعارف عليه ومنظمات المجتمع المدني ونحاول تفسيرها بشكل تحليلي استناداً إلى الموروث الثقافي والفكري خاصة في الوطن العربي ، يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى بأن التناقض يسود هذه العلاقة التي تبدو غير متكافئة ، حيث إن أساس تكوين الدولة الذي يرجعه البعض إلى قوة خارجية عن طريق معاهدات(سايكس- بيكو1916) ودول الاحتلال التي سيطرت على الوطن العربي بعد اضمحلال قوة الدولة العثمانية(1299-1924) لم يكن لقوى المجتمع العربي أي تأثير أو سيطرة عليها رغم أن بعض المنظمات التي أُنشئت كانت تحاول أن تحافظ على وجودها تحت كل الظروف السياسية ، في حين إن بعض تلك الدول سمحت بأن تكون هناك بعض منظمات المجتمع المدني القوية نوعاً ، لذلك لم يكن غريباً أن تبلور الدولة عدداً من الأطر المتباينة الأهداف والوسائل للتعامل مع الجمعيات والمنظمات على نحو يجعل هامش الحركة الممنوح لها محكوماً بوجود قبضة إدارية قوية ومتداخلة وإن تباينت أساليب استخدام هذه الأُطر كنتيجة لوجود عاملين أساسيين هما : طبيعة المناخ الثقافي والأيديولوجي السائد في المجتمع . مدى قدرة تلك الجمعيات على بلورة جانب قوي للمجتمع المدني ووضع صيغ أساسية تتوافق وخصوصية التشكيلات الاجتماعية في المجتمع([18]) . إن العلاقة بين الدولة السياسية بمؤسساتها القانونية ومنظمات المجتمع المدني مازالت بين دفع وجذب حيث يراها البعض علاقة تناقض وتنافر ما يدعو إلى عدم جدوى وجود تلك المنظمات لما تسببه من إخلال بالنظام العام للدولة ، في حين يرى آخرون ضرورة وجود أُطر تنظيمية تعطي منظمات المجتمع المدني الحق في مراقبة كل ما تقوم به الدولة تجاه المواطنين لتنبّه بل وتردع ما قد يضطهد المواطن ليتحقق العدل والمساواة وضمان حقوق الإنسان ، في حين أن الواقع الآن لا يترك مجالاً لعملية الاختيار بين قبول ورفض الفكرة بقدر ما يمكن أن توضع لها ضوابط وقوانين من أجل تنظيمها كي لا يحدث تداخل في حدود الصلاحيات ، والهدف دائماً هو حرية وكرامة الإنسان .
خامساً : دور المجتمع المدني في انجاز المشروع الديمقراطي :
إذا ما سلّمنا بأن الأساس المعياري لبنية المجتمع المدني يكمن أصلاً في طوعية العمل والإدارة السلمية للصراع بين الجماعات المتنافسة أو المصالح المتضاربة ، فإن ذلك يؤكد على أن هناك علاقة وثيقة بين المجتمع المدني والتحول الديمقراطي ، وتهدف تلك العلاقة إلى إرساء دعائم الديمقراطية بشكل يضمن لأفراد المجتمع تحقيق العدل والمساواة ويكفل احترام حقوق الإنسان ، حيث أن الديمقراطية نظام اجتماعي يؤكد قيمة الفرد وكرامة الشخصية الإنسانية ويقوم على أساس مشاركة أعضاء الجماعة في إدارة شئونها ، فالديمقراطية منجز حضاري وصل إليه الإنسان بعد كفاح مرير مع الجور والعسف والتسلط الذي مارسه عليه الحكام سواء كان ذلك إبّان الدولة الثيوقراطية أو بعد قيام الدولة الحديثة بمكبلاتها الجمّة التي تستهدف السيطرة على مقدرات البشر، وحيث أن المجتمع المدني من خلال تنظيماته الطوعية التطوعية المستقلة عن الدولة يهدف إلى تقديم خدمات اجتماعية للمواطنين لممارسة أنشطة إنسانية متنوعة في إطار الالتزام بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والمشاركة والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف ، فإن جوهر دور المجتمع المدني هو تنظيم وتفعيل مشاركة الناس في تقرير مصيرهم ومواجهة السياسات التي تؤثر في معيشتهم وتزيد من إفقارهم ، ونشر ثقافة خلق المبادرة الذاتية وثقافة بناء المؤسسات التي تؤكد على إرادة المواطنين في الفعل التاريخي الذي تتطلبه الحياة الحرة الكريمة للأفراد ومساهمتهم في بناء مجتمعاتهم . إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948 عندما ننظر إليه من زاوية الديمقراطية نرى بأنه يؤكد على “إن إرادة الشعب هي مصدر لسلطة الحكومة” (مادة21 فقرة3) ، والمجتمع المدني يلعب دوراً حاسماً في الديمقراطية ، وتصب مساهمته في الديمقراطية في مسارين ،
الأول: تسيير حركة المجتمع المدني للديمقراطية ومؤسساتها،
والثاني: وقاية المجتمع المدني للنظام الديمقراطي والعمل على تحقيق الرفاهية والتقدم حيث يتم تكريس التغيير في الدولة كاستجابة للقضايا الاجتماعية أولاً وحسب أولوياتها ، وغدا المجتمع المدني خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين صوتاً قوياً في قاموس تطور البشرية وعاملاً مؤثراً في الديمقراطية ([19]) ، وإذا ما كان المجتمع المدني بأبعاده المختلفة ووظائفه التي أضحت ضرورة حياتية لا بد منها ، والدولة السياسية بمؤسساتها وقوانينها ، صنوان متلازمان ، فإن الديمقراطية هي القاسم المشترك الذي يؤكد حتمية قيام منظمات المجتمع المدني ليصبغ على الدولة صفة الديمقراطية ، وتشكل مؤسسات المجتمع المدني واحدة من الحلقات الرئيسية والفعالة في إحداث التغيير في المجتمع بما يساهم في تطور المجتمع وتقدمه حسب المنهج وأسلوب العمل الذي تتخذه المنظمات تلك ، سواء في تطور المجتمع أو تفعيل مشاركتها في صنع وتنفيذ القرار بما يساهم في تعزيز دورها بشكل فاعل ، ويذهب البعض إلى أنه خلال العقود الثلاثة الأخيرة أخذ مفهوم المجتمع المدني حيزاً مهماً في مجال أدبيات السياسة ، وارتبطت مكانته في الفضاء العام للدولة بالتحولات الديمقراطية فيها ، ونشأت علاقة جدلية بين تطور المجتمع المدني وتطور الحالة الديمقراطية وبين نكوصهما أيضاً ، فإذا تجذّرت أسس الديمقراطية في الدولة قويت منظمات المجتمع المدني ، والعكس صحيح ، وتستند عملية التحول الديمقراطي في الدولة على أساس إبراز أهمية دور المجتمع المدني في صيانة الحريات الأساسية للمجتمع ، ومن هذا المنطلق فإن هناك دوراً هاماً ورائداً يجب أن تقوم به مؤسسات المجتمع المدني في عملية التحول الديمقراطي في الدولة ، وتتلخص بعض مهام تلك المؤسسات في نشر ثقافة حقوق الإنسان بين الجماهير، وتوعية المجتمع بأفراده وتشكيلاته المحلية وأطره الجماهيرية والنقابية بمزايا نظام الحكم الديمقراطي ، ونشر ثقافة التسامح وقبول الآخر، وفضح الممارسات غير القانونية في مؤسسات الدولة([20]) . ويؤكد البعض على أن هناك صلة قوية بين المجتمع المدني والتحول الديمقراطي ، فالديمقراطية هي مجموعة قواعد الحكم ومؤسساته التي تنظم من خلالها الإدارة السلمية للصراع في المجتمع بين الجماعات المتنافسة أو المصالح المتضاربة ، وهذا هو نفس الأساس المعياري للمجتمع المدني ، حيث نلاحظ أن مؤسسات المجتمع المدني من أهم قنوات المشاركة الشعبية ، ورغم أنها لا تمارس نشاطاً سياسياً مباشراً وأنها لا تسعى للوصول إلى السلطة السياسية ، إلا أن أعضاءها أكثر قطاعات المجتمع استعداداً للانخراط في الأنشطة الديمقراطية السياسية ، وبالإضافة لهذا فإن الإدارة السلمية للصراع والمنافسة هي جوهر مفهوم المجتمع المدني كما استخدمه منظرو العقد الاجتماعي ، وهجيل ، وماركس ، ودي توكفيل ، وغرامشي ، وكل ما فعله مستخدمو المفهوم من المحدثين هو تنقيته أو توسيع نطاق مظاهره في المجتمعات المعاصرة المعقدة ، ويلاحظ الدارسون والمراقبون أن تعثر التحول الديمقراطي في الوطن العربي يرجع إلى غياب أو توقف نمو المجتمع المدني ، وما يتبعه من تعزيز القيم الديمقراطية وازدهار ثقافة مدنية ديمقراطية توجه سلوك المواطنين في المجتمع وتهيئهم للمشاركة في الصراع السياسي وفق هذه القيم ، ويمر الوطن العربي حالياً ، حسب ما يرى البعض ، بعمليتي بناء المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في نفس الوقت ، والصلة بين العمليتين قوية ، بل إنها أقرب إلى أن تكون عملية واحدة من حيث الجوهر، ففي الوقت الذي تنمو فيه التكوينات الاجتماعية والاقتصادية الحديثة وتتبلور، فإنها تخلق معها تنظيمات مجتمعها المدني التي تسعى بدورها إلى توسيع دعائم المشاركة في الحكم ([21]) ، لذلك فإن طبيعة المجتمع المدني وبنيته الأساسية وما تقوم به منظماته من دور ووظائف في أطار بناء المجتمع الحر الديمقراطي ، كل ذلك يعد أساساً متيناً لبناء قاعدة مهمة وبنية تحتية للديمقراطية باعتبارها نظام للحياة وأسلوب لتسيير المجتمع الحديث . ولا يمكن تحقيق الديمقراطية السياسية في أي مجتمع ما لم تصبح منظمات المجتمع المدني ديمقراطية بالفعل باعتبارها البنية التحتية للديمقراطية كنظام للحياة في المجتمع بما تضمه من نقابات وتعاونيات وجمعيات أهلية وروابط ومنظمات نسائية وشبابية..الخ ، حيث توفر هذه المؤسسات في حياتها الداخلية فرصة كبيرة لتربية ملايين المواطنين ديمقراطياً، وتدريبهم عملياً لاكتساب الخبرة اللازمة للممارسة الديمقراطية في المجتمع الأكبر بما تتيحه لأعضائها من مجالات واسعة للممارسة والتربية الديمقراطية من خلال التالي :
المشاركة التطوعية في العمل العام.
ممارسة نشاط جماعي في أطار حقوق وواجبات محددة للعضوية.
التعبير عن الرأي والاستماع إلى الرأي الآخر والمشاركة في اتخاذ القرار.
المشاركة في اختيار قيادات المؤسسة أو الجمعية والقبول بنتائج الاختيار.
المشاركة في تحديد أهداف النشاط وأولوياتها والرقابة على الأداء وتقييمه([22]) .
وبذلك فإن المجتمع المدني يقوم ببناء الديمقراطية على مستويين، أولهما ثقافي وتعبوي يتحقق من خلال نهوض مؤسساته بوظائفها الأساسية في المجتمع ، وثانيهما دور تربوي يتحقق من خلال الممارسة الديمقراطية والتدريب العملي على الأساس الديمقراطية في الحياة الداخلية لمؤسسات المجتمع المدني . إن من أهم الوظائف التي تقوم بها مؤسسات المجتمع المدني إشاعة ثقافة مدنية ديمقراطية ترسي في المجتمع احترام قيم النزوع للعمل التطوعي ، والعمل الجماعي ، وقبول الاختلاف والتنوع بين الذات والآخر، وإدارة الخلاف بوسائل سلمية في ضوء قيم الاحترام والتسامح والتعاون والتنافس والصراع السلمي ، مع الالتزام بالمحاسبة العامة والشفافية ، وما يترتب عن ذلك كله من تأكيد قيم المبادرة الذاتية وثقافة بناء المؤسسات ، وهذه القيم في مجملها هي قيم ديمقراطية ، من هنا فإن إشاعة الثقافة المدنية التي تمكّن لهذه القيم في المجتمع هي خطوة مهمة على طريق التطور الديمقراطي ، حيث يستحيل بناء مجتمع مدني دون توفير صيغ سلمية لإدارة الاختلاف والتنافس والصراع طبقاً لقواعد متفق عليها بين جميع الأطراف ، ويستحيل بناء مجتمع مدني دون الاعتراف بالحقوق الأساسية للإنسان خاصة حرية الاعتقاد والرأي والتعبير وما إلى ذلك ، ومن ثم فإن دور المجتمع المدني في إشاعة الثقافة المدنية بهذا المفهوم هو تطوير ودعم للتحول الديمقراطي في نفس الوقت ، ويتأكد دور المجتمع المدني أيضاً في نشر هذه الثقافة من خلال الحياة الداخلية لمؤسساته التي ترعى وتنشئ الأعضاء على هذه القيم وتدربهم عليها عملياً من خلال الممارسة اليومية ([23]) ، إن هذا الدور المنوط بمنظمات المجتمع المدني وما يرمي إليه من تحقيق آمال وطموحات أفراد المجتمع والاستجابة لمطالبهم ، ليس كما يتوهم البعض من أن يكون ذلك متناقضاً مع دور مؤسسات الدولة ، بل يجب النظر إليه على أنه مكملاً لها ، حيث يساهم المجتمع المدني مع الدولة في تحقيق الأهداف العامة المتمثلة في تنظيم العلاقات الاجتماعية والسياسية بشكل ديمقراطي فاعل ، ويضع القواعد والمعايير التي تحكم سلوك الأفراد والجماعات بالشكل الذي يوفق بينهم رغم مطالبهم ومصالحهم المتنوعة والمختلفة بل والمتعارضة أحياناً ، وذلك عن طريق توفير الوسائل السلمية للتعبير عنها ووضع البدائل المنطقية أمام السلطة السياسية لتحقيق أعلى درجة من التوازن بين الحقوق والواجبات بما يمكّن من الحفاظ على الكيان الاجتماعي والنظام الاجتماعي العام .
الهوامش :
[1] د. درية السيد حافظ ، السياسة الاجتماعية في عالم متغير ، ، القاهرة ، دار المعرفة الجامعية 2009م ، ص359 .
[2] د. سيدي محمد ولد يب ، المجتمع المدني والدولة ، طرابلس ، مجلة فضاءات ، العدد المزدوج 19-20 ، 2005 م ، ص12 .
[3] روبرت مابرو ، المجتمع الأهلي في تاريخ الأفكار وفي التاريخ الأوربي ، دور المنظمات في تطوير المجتمع الأهلي، عمان ـ الأردن ، 2000م ، ص38 . * دينار شيخاني ، كاتب وناشط في مجال حقوق الإنسان والمجتمع المدني .
[4] ابن خلدون ، المقدمة ، بيروت ، دار الأرقم ، 1999 م ، ص73 .
[5] جريدة الصباح ، المجتمع المدني في الإسلام ، بغداد ، العراق ، 27 مارس 2009 م .
[6] د.كريم نجم خضر الشواني ، المجتمع المدني في الإسلام ، مؤتمر منتدى الفكر الإسلامي ، كردستان ن العراق ، 2009 م .
[7] سعيد بنسعيد العلوي ، نشأة وتطور مفهوم المجتمع المدني في الفكر الغربي الحديث ، المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية (ندوة) ، بيروت ، ط 2 2000 ، ص41 .
[8] د. درية السيد حافظ ، السياسة الاجتماعية في عالم متغير ، الإسكندرية ، دار المعرفة الجامعية ، 2009م ، ص362
[9] د. سيد الهواري ، التنظيم ، الهياكل والسلوكيات والنظم ، القاهرة ، مكتبة عين شمس ، ط4 ، 1988م ، ص19 .
[10] سعيد بنسعيد العلوي ، مصدر سابق ، ص16 .
[11] سيف الدين عبدالفتاح إسماعيل ، المجتمع المدني والدولة في الفكر والممارسة الإسلامية (مراجعة منهجية)، المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية (ندوة) ، مصدر سابق ، ص291 . [12] ـ وحيد عمر مطر ، المجتمع المدني .. قراءة في الدلالة ، طرابلس ، مجلة فضاءات ، العدد المزدوج 19ـ20، الماء ـ ناصر 2005 ، ص44.
[13] ـ حسنين توفيق إبراهيم ، بناء المجتمع المدني : المؤشرات الكمية والكيفية ، الندوة الفكرية لمركز دراسات الوحدة العربية ، مصدر سابق ، ص694 .
[14] عدنان عويد ، دلالات المجتمع المدني ومعطياته ، شبكة المعلومات الدولية .
[15] حسنين توفيق إبراهيم ، مصدر سابق ، ص695 .
[16] د.إحسان محمد الحسن ، موسوعة علم الاجتماع ، بيروت ، الدار العربية للموسوعات ، ط1 ، 1999 م ، ص295
[17] د. مولود زايد الطبيب ، علم الاجتماع السياسي ، منشورات جامعة السابع من أبريل ، ط1 ، 2007 م ، ص149 .
[18] د.درية السيد حافظ ، مرجع سابق ، ص367 .
[19] دجانبي فروقة ، المجتمع المدني في ظل العولمة ، جريدة الشرق الأوسط ، العدد 8800 ، 2003 م .
[20] سميح محسن ، دور المجتمع المدني في التحول الديمقراطي ، مجلة أصوات ، المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان ، 2007 م .
[21] د.سعدالدين إبراهيم ، المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في الوطن العربي ، القاهرة، مركز ابن خلدون ، التقرير السنوي 1993 م، ص13 .
[22] د. أماني قنديل ، إلى أي حد يمكن الحديث عن مجتمع مدني متطور في مصر ؟ ’ ورقة مقدمة إلى مؤتمر مستقبل التطور الديمقراطي في مصر ، جماعة تنمية الديمقراطية القاهرة ، 2 – 3 نوفمبر 1997 م ، ص3 . [23 عبدالغفار شكر ، دور المجتمع المدني في بناء الديمقراطية ، الحوار المتمدن ، العدد 1013 ، 2004 م.
المصدر: اجتماعي /موقع الدكتور مولود زايد الطبيب