الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر

أحمد العربي

عبد الإله بلقزيز مفكر مغربي كتب في أغلب الموضوعات السياسية العربية المعاصرة، وفي الفكر والفلسفة والإسلام والتاريخ، قرأنا اغلب انتاجه، وكتبنا عن بعضه. هو كاتب مُجد، انتاجه ثري، ومواكب للعصر، ويقدم عصارة فكرية سياسية، مهمة المثقفين والمتابعين للشأن العربي في اغلب المجالات.

كتاب الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، كتاب مهم جدا وراهن، فهو يتحدث عن موضوع الدولة كمفهوم ومطلب طرحه التيار الإسلامي عبر أكثر من قرن.
يبدأ الكتاب في تناول لحظة الصدمة الحضارية، بين العرب والمسلمين مع الغرب، حيث اكتشف كثير من مفكرينا، الهوة الكبيرة بين ما نعيش في أجواء الدولة المتخلفة السلطانية المستبدة في أغلب بلادنا، سواء الخلافه العثمانيه او بعض الولايات المنفصله عنها حديثا مثل مصر محمد علي، وتونس… الخ، و اكتشفوا التقدم العلمي، والقانون والدستور ونمط الحكم الليبرالي الغربي، المنعكس حياتيا على الغرب بتقدمهم وحياتهم الافضل.
كان أغلب من تلقى هذه الصدمة هم من المبتعثين من قبل الحكام في بلادنا للغرب، من مرافقي البعثات التي ذهبت للتعلم من الغرب، وتعود لتنقل معارفها ومهاراتها لبلدانها، رفاعة الطهطاوي من مصر، وخير الدين التونسي من تونس، ذهبوا محملين بالمنظومة الاسلامية، وعندما اطلعوا على منظومة الغرب الليبرالي: الحرية والقانون والدستور ..الخ، عادوا ليتساءلوا عن ماذا ينقصنا لكي نكون كالغرب افضل ومتقدمين، وماعلاقة ذلك باسلامنا، وكان اغلبهم قد أخذ يزاوج بين الإسلام وبين ما يطرحه الغرب الليبرالي ليؤسس للتجديد الديني، ويسلط الضوء على الشورى كمرادف حكم الشعب والديمقراطية .. الخ.
وكان بالمقابل ايضا طبقة من رجال الدين الذين وجدوا في أساليب الحكم المستبدة المتخلفة، وفي الفهم الديني التابع للحاكم والغير مجدد، وفي تخلف عموم المسلمين مايستوجب المواجهة والدعوة للتجديد الديني، يقوّم الخطأ ويصحح المسار ويبني الحياة الأفضل، وكان على رأسهم جمال الدين الأفغاني الذي واجه رجال الحكم في الخلافة العثمانية وغيرها، وقدم رؤيته التجديدية التي تتحدث عن الأخذ بوسائل الحكم الرشيد على طريقة الغرب وتجدد في أمر الدين، لتعيد دورة الإيجابي الفاعل في الحياة، وتابع طريقه الامام محمد عبده، الذي اجتهد في خلق مشتركات بين الإسلام ومظاهر تقدم الغرب و اسبابه ، وكان لب دعوتهم ان علينا ان نجدد في اسلامنا ونستوعب تقدم الغرب وطروحاته الفكريه والسياسيه، وان نبني حياتنا مستفيدين من تجربتهم، لنبني مستقبلنا الافضل .
وكان هناك أيضا من دخل عميقا في نقد البنية الاستبدادية لحكم العثمانيين وجميع حكام بلادنا، وأن هذه البنية ما تستند اليه من افكار وما تنتج من ممارسات، تخلق مجتمعا من العبيد ، يحكمه سلطان جائر ، يقود البلاد والعباد لاسوأ من حياة القطيع، وكان رمزهم عبد الرحمن الكواكبي كتابه طبائع الاستبداد.

كان كل هذا ماقبل القرن العشرين وفي أوائله، واستمر إلى أن سقطت الخلافة العثمانية،  بعد الحرب العالمية الأولى التي وضعتنا أمام حقيقتين: الأولى سقوط الخلافة الإسلامية، والثانية حضور الغرب المستعمر الى بلادنا. وهذا شكل ردة فعل لإعادة إحياء فكرة العودة للخلافة الضائعة، التي تطورت بعد ذلك للدعوة للدولة الإسلامية، كذلك اعادة رفض ما قدمه الغرب من أفكار في الحكم الديمقراطي والدستور وسلطة القانون، وإن في ديننا ما يكفي، وأن حل مشاكلنا ينبع من عودتنا لديننا الإسلامي.
كان المجددون قد ثبتوا حق الناس في الحكم ومواجهة الحاكم،  وأنه مطلوب منه المشورة، وان عليه ان يحكم وفق دستور يتوافق عليه الناس، وكان ذلك في الفكر السني الاسلامي محمد عبده والأفغاني،  وفي الفكر الشيعي ممثلا النائيني ومطبقا له من محمد مصدق في مواجهة الشاه في ايران.
لكن هذا الطور المتقدم الذي يجدد بالدين ليعيد الحكم للناس وتسيير أمورهم لهم ورؤيتهم لحياتهم وفق مصالحهم، قد تم التمرد عليه عبر انقلاب الشاه على مصدق في إيران وتثبيت حكمه مع حلفاء من رجال الدين، يعملون لخلق دولة اسلاميه دينيه منفصلة عن الناس، وتنفذ ماتراه حسب فهمها للاسلام بانه ارادة الله ، التي ستصبح دولة الولي الفقيه على يد الخميني وحتى الآن في ايران، وتم احتجاز الافغاني عند الخليفة العثماني حتى مات في اسطنبول، وغاب صوت محمد عبده في خليفته رشيد رضا الذي عاد للترويج للعودة للدولة الإسلامية، التي يجب بناؤها مجددا.
في ذات الوقت اعلن تلميذ رشيد رضا حسن البنا عن تشكيلة لحركة الإخوان المسلمين، والدعوة لبناء جماعة سياسية في مصر والتي ستصبح عالمية، تدعو لإعادة بناء الدولة الإسلامية، وسندخل مجددا في أسئلة العصر، من يحدد مشروعية هذه الدولة.؟، وكيف نثبت اسلاميتها.؟، وإلى أي درجة هي دين. ؟، وإلى أي درجة هي من صنع البشر.؟، ورغم براغماتية (نظرته المصلحية)  لحسن البنا فإنه لم يستطع أن يحدد ماهيته دولة الاسلام المطلوبة، ووقع ضحية بنيتها المختلطة بين علنية دعوية، و سرية عسكرية، وكان هو أول ضحاياها، حيث قتله أعوان الملك المصري فاروق ،  ردا على قتل القاضي الخازندار من قبل الجهاز الخاص المسلح لجماعة الإخوان المسلمين في أربعينيات القرن الماضي.
كانت اجوبة تيار التجديد الديني هي من خلال الدعوة لتمثيل التقدم الغربي وادواته، مع مراعاة ان يكون منسجما مع الإسلام، وان يؤدي إلى بناء التقدم والحياة الأفضل، وانقطعت تلك اللحظة التاريخية ببروز الإخوان وغياب البنا المبكر، وصعود تيار سيد قطب، المتأثر بالفكر الإسلامي القادم من الهند والباكستان، عبر أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي وفكرتهما المركزية: الدولة الإسلامية في مواجهة الدولة الجاهلية، وحاكمية الله في مواجهة حاكمية البشر، واعادة تفسير كل ما نعيشه بكوننا نعيش حياة الجاهلية ولا نحكم بما أمر الله وان حكم الله عندنا وفي الأرض هو المطلوب، لقد اعاد تيار الإحياء القطبي الامور الى مستواها العقائدي، واعاد اسباب كل ما نعيش لاننا لسنا مسلمين كما يجب ولا نحكم بما أنزل الله… !!.
وهنا بدأت هذه الأطروحة تتحول الى حركات ومجموعات تعمل في بلادها في صدام مطلق مع دولها وأنظمتها الحاكمة، وخلقت أزمة سياسية أعطت بمستوى ما مبررا للدول أن تستبد وتقمع أكثر في مواجهة هكذا فكر، وهكذا تحركات تجد بممارسة العنف وسيلتها، فاصطدم هؤلاء مع اغلب السلطات التي وجدوا في كنفها، وكانت نتائج أعمالهم مع ردود الانظمه المستبده القمعية كارثية على المجتمع.

لكن الأهم هو أن أطروحة الدولة الإسلامية، وكذلك حاكمية الله جل وعلا، اصطدمت بسؤال بديهي من شقين: هل في الإسلام دولة دينية بمعنى تنفذ السياسة كهنوتيا كدين.؟، الجواب جاء في الفقه الشيعي على يد الخميني أن نعم هناك دولة دينية من الله للأنبياء، ثم للأئمة الملهمين من الله ، ثم في فترة غيبة الإمام الثاني عشر للدعاة المحققين الشرائط: العدل والمعرفة، وهم طبقة تحكم وحكمها هو إرادة الله، لا تساءل ولاتراجع، وحاصل حكمها الدولة الاسلامية في ايران، التي تمارس سلطة مستبدة تقمع شعبها وتخوض حربا على المسلمين لتنشر امبراطوريتها الفارسية تحت دعوى بناء دولتها الإسلامية، وفي الفكر السني الإسلامي تطور طرح سيد قطب ، الذي اعتبر أن الدولة والمجتمع جاهليين وان أسلمة الدولة والمجتمع تتطلب حكم من ينفذ أمر الله، متجاوزا المسافة بين الديني والدنيوي ومحولا كل سلوك سياسي الى دين، وكل مخالف لما يراه هؤلاء يعتبر خلاف مع الله ، يؤدي لهدر الدم والحرب على المجتمع. نعم استند الجيل الذي جاء بعد قطب على ذلك، وأوغل في قراءته الاقصائية للغير، والمتمثلة في ذاتها الدولة الإسلامية كدولة دينية تمثل الله في الأرض. وهذه داعش النموذج العملي التي استباحت الدماء والاعراض والبلاد، وتحولت لطاعون يدمر حياتنا باسم الاسلام.
أما السؤال الآخر فهو ما معيار ان نقر بأن هذه الدولة هي اسلامية حقا…؟.
لم تعد حياة البشر تعني تيار الاسلامي الجهادي المعاصر، ولا مقاصد الشريعة، ولا بناء الحياة الأفضل، ولا الحرية بصفتها هوية الإنسان، ولا العدالة بصفتها أساس الحياة السوية للبشر، ولا الشورى او الديمقراطية بصفتهما آليات التفاعل الاجتماعي والحكم وبناء الحياة الاجتماعية السوية. لقد أصبحت دولة الإسلام عندهم دولة حرب على عباد الله واستباحة لهم، وحرب على العالم، والهدف الشهاده ولا نصر في الأفق، والأسوأ في ذلك ادعاؤهم أنهم صوت الله في الأرض، يتبعون أهواءهم واجتهادات متهافتة مبتسرة للإسلام، لا تقف أمام النقد والتمحيص، لكنهم يحملون السلاح ويقتلون العباد ويهدرون حياتهم باسم الله والاسلام.
يتتبع المفكر بدأب وشمولية اعادة دخول التيار الإسلامي الاحيائي(الداعشي الخميني) في متاهة الأفكار المتخلفة الغير ناضجة، ومجاهيل الواقع الذي يزداد سوء ويزدادون فيه غيا، ويرصد اصواتا ترفض هذا الغياب للعقل و الفهم المقاصدي للإسلام، فهذا راشد الغنوشي وتيار واسع معه، يتصالح مع العصر والعلم ويعلن اصطفافه الى جانب الانسان والمجتمع بصفتهم المرجع في الحكم والحياة، وهم صانعي مستقبلهم وبإرادتهم، وهذا  محمد مهدي شمس الدين وغيره يرفض ولاية الفقيه ، ويعتبرها مصادرة لحق الامة بالولاية على نفسها، والادعاء بتمثيل الله، وتسيير أمورهم مدعين انهم صوت الله بالارض، مع كل ما قد ينجم عنه من أخطاء وضرر.
مع ذلك نحن احوج ما نكون اليوم أن نحدد مجال الدين وتخومه، ومجال السياسة وتخومها، وأن نعلن مصالحتنا المطلقة مع العلم والعصر، وان نعتبر الجماعة الوطنية مصدر شرعية ما نريده وما نعمل له، هي الشرعية ومصدر المشروعية منها ومعها، وعبر الدستور والقانون وتعميم الحرية وخلق فرص العيش الكريم وصناعة مجتمع العدالة الانسانية، والكل تحت القانون والمساءلة، والسلطة للشعب يعطيها لنوابه، عبر تواتر زمني، وعبر آليات تضمن المصداقية ، وعدم عودة الاستبداد وتبعاته من قهر وهدر وتبعية وتخلف.
اخيرا. مطلوب تنوير ديني علمي لا يداري ولا يجامل ،ان  مساحة الحق الانساني في الاعتقاد الديني وممارسته حق وجودي مصان، اما ما يتعلق بالسياسة وممارستها، ان الدين (أي دين) ليس الا خلفية قيميّة وإنسانية يعيشها الإنسان المسيس منضبطة بقواعد العمل السياسي، في مجتمعه حسب توافقاته وإرادته، في بلاد متنوعة دينيا و طائفيا وعرقيا، وعريقة في اعتقاداتها، وعميقة في تاريخها. مطلوب ان تعود للمساواة الإنسانية وتعيش المواطنة فكرا وممارسة، وتمارس العمل لبناء الحياة الافضل في مملكة الأرض، الحياة التي تحقق الحرية والعدل الاجتماعي والكرامة الانسانية والديمقراطية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى