غسان الجباعي، روائي سوري متميز، قرأت له رواية (المطخ) سابقًا، وكتبت عنها. قهوة الجنرال رواية تعتمد صيغة المتكلم في سردها، يتبادل السرد شخصيتي الرواية، إنهم الراوي وحبيبته، الرواية لا تعتمد التسلسل الزمني في أحداثها، ولا مقدمات ونتائج فيها، هي أقرب لحوار داخلي في ذات الراوي وحبيبته يستحضرون ما يخطر على بالهم، متنقلين في الزمان والمكان والأحداث التي مرت بهم، دون أي ضابط إلا التداعيات الذاتية، والتي هي بوح من نوع ما، وتفريغ نفسي وذهني لما عاشه في حياتهم، تكتمل رسالة الرواية وتتضح معالمها رويدا رويدا لتصل إلينا في نهايتها، مكتملة كلوحة فنية رائعة.
تبدأ الرواية وصاحبنا الراوي يجلس على كرسي حجري مطل على بحر، تظاهره امرأة تطل على اليابسة، يحاول التذكر من هذه المرأة الطاعنة في السن؟ وهي ايضا تسأل ذات السؤال لنفسها، من هذا الرجل الطاعن في السن؟ يسترجع احتمالات كثيرة عمّن تكون يتذكر انه كان يعمل ممثلا مسرحيا، قد تكون احدى النساء اللواتي مثلن معه، وقد تكون احدى نساء الجمهور الذي يتابع مسرحياته، المهم أن علاقة ما تربطهما مع بعض، وان هذه العلاقة تتوّجت بحب ومن ثم بعلاقة جسدية وزواج، الاحتمالات كثيرة، والمرأة تعرف أنها تعرفه وانه قدرها وانه وأنها عاشا حياة مديدة معا، يتذكر صاحبنا كثيرا العلاقة الجسدية بينهما، تعود الى ساحة فكرة بأشكال مختلفة، وكأنها الواحة الوحيدة في صحراء حياته. لقد مر على هذه الحياة المشتركة انقطاعات قد تصل الى سنوات، لكن مصيرهم العودة الى بعضهما دوما. زواجهما أثمر طفلا أسموه انس، لا تخلو تداعيات صاحبنا وحبيبته من البوح عن الرجل والمرأة والحاجة المتبادلة، أسباب التجاذب والتنافر، وحتمية العودة لبعضهما دائما، حياة دون المرأة حياة فارغة جافة مستحيلة، وحياة دون الرجل صحراء لا ماء فيها ولا حياة، هكذا كانا يعاودان التفلسف في فهم علاقتهما مع بعض.
يعود صاحبنا الى ذاته، يتذكر طفولته والده العسكري المتطوع الذي خدم في جيش أدمن الهزائم منذ هزيمة ١٩٦٧م، حيث خسرنا الجولان، وان سورية كانت اصيبت بداء الانقلابات العسكرية منذ انقلاب أديب الشيشكلي في الخمسينات، الى انقلاب البعث ١٩٦٣م، الى انقلاب حافظ الأسد ١٩٧٠م، وكيف أصبحت بلادنا جمهورية للعسكر، على رأسها حافظ الأسد حاكما للأبد.
يتذكر انه درس المسرح أو النقد، وانه قد يكون درس ذلك في الاتحاد السوفييتي، وأنه عاش ويعيش في سورية البلد المغلق على هذا الحاكم الأوحد حافظ الأسد وحزب اوحد هو حزب البعث، وان السلطة في سورية تسيطر على حياة الناس وأرواحهم وأسباب حياتهم. يدرك أنه يعيش في بلاد موبوءة بالخوف والقهر والظلم والعبودية، النظام الذي لم يترك الطفل دون أن يدجّنه في طلائع البعث، والشاب في شبيبة الثورة، والناضج في حزب البعث، ليكون مدخلا اجباريا لأي عمل في المستقبل، أما ان تكون عبدا تابعا و انتهازيا، مجوفا من انسانيتك، او لا تحصل على اي حق في العمل او اي مكتسب بسيط بكونك من سورية، يدرك كيف تحولت سورية لتكون دولة حافظ الأسد الذي توج نفسه إلاها و حاكما مطلقا على رقاب السوريين، يستبيح كل شيء هو وزبانيته، مزرعة الأسد والشعب قطيعه، عايش صاحبنا الفقر والظلم والفساد والمحسوبية وطوابير الإذلال الاجتماعي، لم يكن يملك إلا الصمت في مواجهة كل ذلك. يستفيد درسا من نماذج الذين يحاولون أن يعارضوا ويكون مصيرهم القتل أو السجن والإعتقال، يتذكر الكثير مما حصل في سورية وكيف أن النظام مستعد ان يقتل عشرات الالاف من السوريين، ويدمر مدنهم إن هم فكروا بمعارضة النظام او مواجهته، كما حصل في حماة وغيرها من المدن السورية، في ثمانينات القرن الماضي. يعاني في بلده سورية، لكنه يعيش بها، انها قدره. يتذكر أنه التحق بالخدمة العسكرية الالزامية ككل شباب سورية، وأنه اعتقل من حيث يخدم، ليدخل في متاهة النظام وجبروت استباحة انسانيته، التعذيب الجسدي، الاذلال والاهانة، لم يحدد صاحبنا لماذا اعتقل، وكأنه يقول يكفي أن تكون سوريا، وان لا تكون من زبانية النظام وعبيده وأدواته، لتكون معرضا للاعتقال كقدر أحمق، لا راد له. اُعتقل، ذاق أسوأ أنواع التعذيب، لم يبحث النظام واجهزته الامنية عن حقائق من خلال اعتقاله، ولا عن تهم تضر بالوطن، كان التعذيب مقصودا لذاته، كانوا يقصدون قتل روح الإنسان فيه، مسخه ومن ثم يدفعه للانهيار والتسليم. أثناء التعذيب الوحشي، اصيبت احدى ساقيه، ولأنهم لم يعالجوها، وقبل ان يصاب بالغرغرينا قطعوها، أصبح له ساقه وساق من الأخشاب. تنقل في مراكز الاعتقال، وكان مصيره أخيرا في سجن تدمر العسكري سيء الصيت، اعادنا معه لما عاش ومن معه من ظروف اعتقال مأساوية. في سجن تدمر كان من المعتقلين الوطنيين الديمقراطيين، وهذا يعني انهم حُبسوا في اجنحة خاصة، كانت اقل سوء من اجنحة الإخوان المسلمين، لكنهم كانوا يعايشون كل ما يصيب الإخوان من ذل وتجويع وتعذيب مستمر وحتى الموت أغلب الأحيان، لم يتركوا للمساجين اي فرصة للراحة او اخذ النفس، كانوا دائما تحت احساس استباحة انسانيتهم واذلالهم وتعذيبهم وقتلهم. كان لكل جناح كوّة في السقف يطل عبرها أحد السجانين على مدار الوقت ليحصي انفاس السجناء وليجد مبررا لتعذيب أي سجين، وقد يكون مقدمة لقتله، في سجن تدمر حياة السجناء مباحة للهدر على يد السجانين المجرمين. كانوا يعايشون صباحات اعدامات متتالية لشباب الاخوان، يعرفون بذلك عبر صيحة الله أكبر يطلقها السجين قبل الإعدام، وحتى الصيحة كُتمت لاحقا. لا حق للمعدم ان يستنجد حتى بالخالق. لقد ذاق صاحبنا وصحبه عذاب لا يمكن وصفه، وعايش ما لا تستطيع طاقة بشرية تحمله. استمر ذلك لسنوات عشرة. استطاع بعد وقت من انتقاله إلى سجن تدمر ان يحصل على زيارات قليلة يدفع الأهل الرشاوي للحصول عليها. الوقت قليل وهناك مسافة فاصلة بين السجناء وذويهم، وذلك بين شبكين يحرسهم السجانون، بالكاد شاهد زوجته، ولامس إصبع ابنه الذي لم يتعرف عليه، وعندما طالب رئيس السجن بحق السجين بلقاء عائلته في غرفة معزولة، عذب بشراسة أدت لإصابة ساقه التي قطعت بعد ذلك.
تم بعد ذلك الإفراج عنه، أمضى سنوات عشر في السجن، عايش كل عذاباتها وجحيمها، عاد الى بيته ناقصا ساقا، ناقصا إحساسه الإنساني، باحثا عن بيته عن أمه وزوجته وابنه الذي ولد وكبر ولم يتعرف على اباه. وصل إلى البيت الذي تعب ليصل إليه، تاهت ذاكرته عنه. عاد ليجد امه تنتظره، تفرح بعودة ولدها من الموت، لتصاب بعدها بجلطة من شدة الفرح وتموت لاحقا. عاد ليعيش هوَس ما عاشه، لم يستطع أن يخرج من جحيمه الذي عاشه. والذي سيعيش عمره المتبقي يجتره نفسيا، يعيش برفقة المرأة التي يعرفها انها زوجته.
تنتهي الرواية بعودة صاحبنا من سجن تدمر الى بيته واسرته.
في تحليل الرواية نقول:
٠ نحن أمام رواية اخرى تعود لتتكلم عن سورية جمهورية الخوف والظلم والفساد والقهر والاستغلال واستعباد الانسان، في فترة حكم حافظ الاسد، انها وغيرها وثائق ادانة لنظام الاستبداد ذاك ولكل انظمة الاستبداد والظلم على مر الزمان.
٠ الرواية كتبت ونشرت في عام ٢٠١٤م يعني بعض مضي سنوات على الثورة السورية التي قامت مطلع ٢٠١١م، وأنها عندما تحدثت عن مرحلة حافظ الأسد الذي توفي عام ٢٠٠٠م، واستلم ابنه وريثه بشار الأسد السلطة في سورية، وكيف استمر النظام على ذات نهج الاستبداد والاستغلال والظلم والقهر. يريد عبر الرواية القول اننا امام عقود من ظلم نظام نعايشه الآن وله ما قبله، وأنه يريد أن يستمر الى الابد، وان كل ذلك كان الخميرة التي انضجت ظروف الثورة السورية، وجعلت الشعب السوري يصنع المستحيل عندما ثار، وعبر استمرار ثورته، ومن خلال مواجهة العقبات التي تقف بوجهها، وانتصارها لاحقا بعون الله.
٠ كتبت الرواية بطريقة التداعيات النفسية عبر سرد ما يعيشه الراوي من مشاعر ومعاناة ومعايشات، قد نتعب في تتبع الحدث الروائي، لكننا بإرادتنا او دونها، سنكون رويدا رويدا جزء من الحالة ونكون مع صاحبنا بطلها في اندماج نفسي عاطفي عقلي، نتألم نعم، لكننا نتعلم ونعي ونصر بعد ذلك على أن نسترد انسانيتنا المهدورة والمسروقة، ونستمر بثورتنا نطالب بالحرية والكرامة الانسانية والعدالة والديمقراطية والحياة الافضل.