الأكيد ان المعركة السورية بدأت بالانطواء أكثر في حدود جغرافية البلد الذي عايش الصراع لعقد تقريباً. لم تعد لتلك المعركة تداعيات دولية كبرى، ولا اهتمام لدول كانت تملك بعض الرغبة في التدخل. تحولت المعركة إلى معركة على أرض البلد، وبضريبة محلية لصالح بعض الجهات القليلة المتنافسة على النفوذ فيها. لكن، مع هذه الحقيقة المرة ما زالت بعض القضايا تملك عصا موسى في إيقاظ الغرب على أن إحدى كوارث القرن الواحد والعشرين ما زالت في أوجها وتحتاج منها لفعل شيء ما للتخفيف عنها، وهذه العصا تتمحور حول ملفين لا ثالث لهما، وهما ملف اللجوء إلى أوروبا وملف الدواعش الأجانب! الملف الثاني استطاعت تلك الدول التهرب من مواجهتها، وتحويل المسؤولية عنها إلى القوات المحلية في شرق الفرات وإلى المحاكم العراقية في بغداد، بتنسيق واسع، وبسرية، وعروض لا بأس بها. أما الملف الأول أي ملف اللاجئين فقد تحول إلى مرحلة الخمول بعد الاتفاقية التركية الأوروبية 2016 حول اللاجئين، ولكنها بقيت واحدة من أوراق تركيا القليلة ضد أوروبا. ورغم التصريحات المستمرة لتركيا وتهديدها دول غرب أوروبا باللاجئين خلال السنوات الماضية إلا أنه لم يكن هناك تصور من احتمال تنفيذ هذا التهديد مجدداً بعد ما حصل في العامين 2015 و2016.
لكن، ببساطة فُتحت حدود تركيا على أوروبا بعد أن صُدمت تركيا بقوة هجوم النظام السوري عليها في إدلب. جرد فتح الحدود، وتلك الصور الآتية من الحدود التركية اليونانية المصطلحات المعنية بحقوق اللاجئين في العالم المتحضر من الكثير من الحقائق التي تتشدق بها، وكشفت للعالم مدى عوز الناس، ومدى اتساع الألم السوري الذي لا ينفع معه سياسة غض النظر عن الأزمة، وسياسة تحاشي الانخراط في عملية البحث عن حل له ديمومة لقضية مريرة كالصراع في سوريا من الدول ذات الثقل كباريس ولندن وواشنطن ونسبياً برلين.
أرضية الأزمة
خلال الشهرين الماضيين بدأ النظام السوري، وبدعم واسع من السلاح الجوي الروسي، عملية قضم جديدة للأرض في شمال غرب سوريا. هذا الهجوم الجديد، والمتمحور على رغبة النظام في توسيع مناطق سيطرته، وبالتحديد التأمين التام للطريقين الدوليين أم 4 وأم 5 الواصلين بين حلب واللاذقية وبين حلب ودمشق هما لب القضية. يبحث النظام بين الفينة والثانية عن تعزيز سيطرته على قواعد التحرك بين المحافظات. هذا بالذات ما يظهر في شرق الفرات أيضاً حيث يعمل النظام على تعزيز وجوده حول مطار القامشلي، وحول المناطق الحدودية لمنطقة منبج والرقة. وعلى الأكثر جاءت محاولة الروس الوصول إلى معبر سيمالكا الحدودي مع إقليم كردستان العراق كجزء من الهدف ذاته. ومن المهم فهم ان إغلاق معبر اليعربية في وجه دخول المساعدات الإنسانية إلى شرق الفرات من قبل الروس جاء كنتيجة طبيعية لمعرفة الروس بأن الأمريكان مترسخين في تلك البقعة الجغرافية، ولن يسمحوا على المدى المنظور وجود منافسين لهم هناك.
التقدم الذي حققه النظام في شمال غرب سوريا حوّل الحرب إلى مواجهة مباشرة بين القوات التركية من جهة والنظام السوري من جهة ثانية. هذا الصدام الذي بدأ وصل لدرجة من الحرارة هاجم النظام السوري فيها نقاطا عسكرية تركية بشكل مباشر، وأوقع خسائر في صفوف الجيش التركي في المنطقة. لم تعد هناك حرب بالوكالة بين الطرفين. أصبحت الحرب مباشرة بين الطرفين! كان البعض يتحدث عن احتمال ان تدخل تركيا في حرب مع الروس أيضاً، وهو ما لم يحدث بعد أن طالب الرئيس التركي من بوتين تحييد ذاته عن المواجهة، وبعد فهمه أن المواجهة مع الروس هي مواجهة لا طاقة لتركيا لها بعد الفواتير الكبيرة التي دفعتها بعد إسقاطها لطائرة روسية قبل أربع سنوات.
نجح النظام في التقدم، وخسرت المعارضة مناطق ذات أهمية، ودخل النظام إلى ثاني أكبر مدن المحافظة واستولى على مساحة لا بأس بها من الأراضي التي تحتوي على قرى وبلدات في ريفي حلب وإدلب. وأمن نسبياً الطرق الدولية لصالحه. هذه المواجهات تركت النقاط العسكرية التركية المعنية بمراقبة تنفيذ اتفاق وقف الإطلاق تحت حصار قوات النظام، وعززت موقف هيئة تحرير الشام المتطرفة على حساب باقي اللاعبين المحليين في ما تبقى من مناطق المعارضة في المحافظة بعد أن ارتفع الاعتقاد بعدم قدرة تركيا وعدم جديتها في ردع النظام واستعادة الأراضي التي خسرتها المعارضة الأيام الفائتة. اعتمد النظام السوري وروسيا على حجة أن الأتراك يتحاشون وضع حد للقاعدة في إدلب وعدم قدرتهم على وقف الهجمات الجوية على قاعدة حميميم العسكرية. وهو ما يبدو أن الأتراك كانوا يعتقدون أن النظام لن يجرؤ على تجاوز نقاطهم العسكرية. كل ما سبق أسس لبداية مأساتين جديدتين أولها للنازحين في شمال غرب سوريا ثانيهما للاجئين في تركيا على حدود اليونان. للتذكير بالطبع أن الحدود مع بلغاريا غير منشودة من قبل اللاجئين اليائسين منها.
جدران عالية
مع مرور الوقت، ونتيجة القتال الطويل، وفقدان الثقة بالاتفاقات المتجددة بين تركيا وروسيا، تتجدد أزمة النازحين واللاجئين في شمال غرب سوريا وفي غرب تركيا. سبب القتال بنزوح ما يقارب المليون شخص في شمال غرب سوريا إلى المناطق الشمالية من محافظة إدلب، ووقف الكثيرون في مخيمات النزوح المجاورة للجدار الحدودي العالي بين تركيا وسوريا. لم يكن للاتفاق الأخير بين بوتين واردوغان أي دور في تشجيع النازحين الجدد بالعودة إلى المناطق التي نزحوا منها، وكان لسان حالهم يقول: “هذا الاتفاق يشبه كل الاتفاقات الفاشلة السابقة المبرمة بين الطرفين”.
بعيداً عن تلك الحدود فتحت تركيا حدودها للاجئين المتواجدين على أراضيها باتجاه اليونان وبلغاريا. جاء الفتح بعد عجز تركيا مع غرورها الطويل ضد أوروبا من كسب دعم حقيقي غربي في صراعها الجديد. راقبت الدول الغربية بنوع من الرضا انخراط تركيا في معارك مع النظام السوري بعد ظهور الرئيس التركي مراراً وهو يحضن بوتين. حاولت تركيا سابقاً ابتزاز الغربيين بمدى قوة العلاقة الروسية التركية. وعززت صفقاتها العسكرية والتجارية على أسس مضادة لتحالفاتها المديدة مع الغرب هذا الابتزاز. كانت الضربات الأخيرة التي وجهها نظام دمشق بدعم روسي للجيش التركي والرد التركي عليها عبارة عن توضيح غربي غير مباشر لأنقرة عن مدى فشلها في علاقاتها مع الروس. كان هناك شيء من الشماتة ضد أنقرة، ولم تفد محاولات جيفري المُتهم بالموالاة للسياسات التركية في الشرق الأوسط في دفع كل القادة العسكريين في البنتاغون إلى فتح الأيادي من جديد لتركيا. وإن ساهم الرجل القريب جداً من أجندة تركيا بدوره في وقف نزيف التدهور في العلاقات بين الطرفين. وإن كان هذا التدهور لصالح تركيا أكثر منها لصالح الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الآخرين في الشرق الأوسط.
مع فتح الحدود وصل الكثير من اللاجئين وبجنسيات مختلفة إلى الحدود التركية اليونانية. وعبر البعض منهم بحر إيجة بقوارب مطاطية في تكرار مبسط لأزمة اللاجئين التي ظهرت في 2015-2016 والتي سببت الكثير من التغيرات السياسية في دواخل الدول الأوروبية، وحصلت في نهايتها تركيا على اتفاقية مع الاتحاد الأوروبي كسبت بعض المزايا المالية والمعنوية منها. لكن، وبمشهد مشابه للجدار الحدودي الواقف في وجه النازحين السوريين في شمال غرب سوريا كانت الشرطة اليونانية وحرس الحدود البرية والبحرية عبارة عن جدران لا يمكن الانسلال منها، وكان سوط الجنود اليونانيين على ظهور الراغبين بالعبور رسالة واضحة عن مدى الرفض اليوناني المدعوم غربياً لفكرة فتح الحدود مجدداً للاجئين. ولم يكن لزيارة الرئيس التركي الذي يتهم الغربيين بعدم الإنسانية، ويتناسى إغلاقه المحكم لحدوده في وجه النازحين السوريين أي نتيجة حتى اللحظة. وهناك حديث عن احتمال ظهور اتفاق جديدة تحصل فيها تركيا لمزايا جديدة مقابل وقفها تدفق اللاجئين، وضبطها لحدودها من جديد.
اليونان التي لا تشبه ذاتها
لم تكن اليونان خلال السنوات الخمس الماضية بهذا الشكل من العدوانية تجاه اللاجئين. كانت اليونان المُثقلة بالديون حينها مرتعا مريحا للاجئين خلال مرورهم بها للوصول إلى الغرب الأوروبي. كانت اليونان شعبياً أيضاً تنظر بتعاطف إلى اللاجئين، وكان النفحة اليسارية المُناصرة للاجئين واضحة في المخيلة العامة لسكان الدولة التي كافحت الكثير للوقوف على قدميها مع تضرر الاقتصاد، وانهيار الميزانيات.
برحيل حكومة تسيبراس اليسارية التي كابدت الكثير من الألم حتى استطاعت غلق ملف الانكماش الاقتصادي في اقتصاد البلد، والتحول بنجاح إلى مرحلة تسديد الديون، والنمو البطيء، ارتفع جدار جديد بين اليونان والشرق. حكومة يمينية جديدة وصلت إلى أثينا في صيف 2019. هزيمة حزب سيريزا في الانتخابات البرلمانية وانتصار حزب “الديمقراطية الجديدة” برئاسة كيرياكوس ميتسوتاكيس يعتبر هزيمة للاجئين وانتصارا لإغلاق البلاد. يعتقد حزب الديمقراطية الجديدة وزعيمها “الأمير” بأنه كلما أظهرت البلاد عدوانية تجاه اللاجئين كلما كسبت ثقة الغرب الأوروبي، كلما تلقت بنوك البلاد مساعدات أكبر. الاعتقاد هذا فيه شيء من الحقيقة، حيث بدأت الدول الأوروبية تكثيف زياراتها لليونان، وتحدثت عن حزمة دعم مالي جديد، وعن خطط لسحب 1500 طفل من الجزر. وهو جوهر المتغير في الغرب الذي بدأ يحاول التهرب من مواجهة المشاكل ذات البعد الإنساني والدولي والحقوقي بإبقائها بعيداً عن حدودها الرسمية. هذا الاعتقاد لدى من يسميه تسيبراس بـ “الأمير” لترفعه وغروره ينافي في شيء كثير منه منطق المخيلة العامة في اليونان، ويحاول القفز على حقيقة رحابة صدر البلاد العتيقة للآخرين. تفكير مرحلي لن يفيد سوى في تشويه صورة البلاد، وتشتيتها بين خرائط الغرب والشرق، ولن يساهم في زيادة دفع الدول الغربية للانخراط في الوصول إلى حل وسطي للحرب في سوريا بل وسيزيد من تهرب الغربيين من لعب دور ما في الوصول إلى حل للحرب السورية التي أنهكت الجميع.
شمالاً أكثر لم تحدث أي صراعات على الحدود مع بلغاريا. البلد المعروف بعدوانية معظم ساسته للاجئين لم يكن مكانا يفكر فيه الكثير من اللاجئين بالمغامرة. أسلاك شائكة، ونقاط عسكرية، ودوريات، وعصا غليظة، واتهامات بالسلب، كلها جزء من ما يعرفه اللاجئون عن حدود بلغاريا. هذه العدوى تحولت إلى الحدود مع اليونان هذه الأيام بكل أسف.
منطقة آمنة
يعتقد اللاجئون أن الحدود البرية مغلقة، والمرور منها صعب حالياً، وينتظرون تحسن الطقس للمرور عبر البحر من جديد إلى الجزر القريبة، لكن ما تحدثت عنه منظمة العفو الدولية عن رغبة يونانية بوضع جدران عائمة للفصل ولوقف التدفق جزء من وضوح الصورة لمدى انغلاق العالم على بعضه رغم مانشيت “العالم قرية صغيرة”.
تركيا بدورها تبحث عن مكاسب. وقف القتال بالتوافق مع روسيا يعزز موقف الغرب الأوروبي ويدفعها لدفع تركيا لسحب اللاجئين، وسحب ورقة الضغط التي لم تعد لها أثر يذكر مع تشديد اليونان لحدودها وتغير ملامحها المعتادة. المكاسب المُبتغاة تتمحور حول الدعم المالي المستمر لتركيا، وحول رغبة تركيا في منطقة آمنة تقوم بتوطين من تريد من السنة السوريين فيها. هذه المنطقة في جزء واضح منها برنامج للتغيير الديمغرافي. تعمل حكومة أنقرة على توسيع منطقة التغيير الديمغرافي للوصول إلى شرق الفرات حيث نزوح من نوع آخر سببه الاحتلال التركي لمناطق ذات تنوع قومي ومناطق ذات اغلبية كردية بحتة كعفرين القريبة من إدلب.
هذا السجالات بين الأطراف التي تبحث عن مكاسب لكل شيء لم يكن إلا سوط على ظهر اللاجئين والنازحين. هؤلاء لم يعد لهم جسور للمرور إلى مناطق للاستقرار. أصبح التوازنات والخلافات ومن ثم التوافقات هي من تحتم بوصلتهم. ليس من المستبعد مشاهدة الشرطة التركية في قادم الأيام وهي تسحب اللاجئين من الحدود مع اليونان، وليس من المستبعد أيضاً ورود الأخبار عن مقتل نازحين على الحدود السورية التركية برصاص تركيا التي تظهر نفسها على أنها داعمة للاجئين في وجه أوروبة، وليس من المستبعد رؤية كيف أن الغرب الأوروبي يرشي اليونانيين والبلغاريين وحتى الأتراك بمزايا في مقابل وقف اللاجئين وتركهم يعانون مصائرهم السوداء، بالضبط كما هو الحال في مراكز ايوائهم في الجزر اليونانية، أو مخيمات اللاجئين في معظم دول الجوار السوري، وفي مخيمات النزوح داخل سوريا من شمال غرب سوريا إلى الحسكة حيث النازحين الفارين من غزو تركيا للمنطقة قبل أشهر.
المصدر: القدس العربي