قراءة في رواية: 2003

أحمد العربي

عبد الله مكسور، روائي سوري متميز، منتمي للثورة السورية، قرأنا له ثلاث روايات عن الثورة السورية؛ أيام في بابا عمر، عائد الى حلب، طريق الآلام.

رواية 2003 تعتمد طريقة البوح الذاتي للشخصية المحورية فيها “علي العمر”، عبر طريقة الخطف خلفا، حيث تكون البداية من النهاية؛ علي ينازع الروح وهو مثخن بجراحه، يحاول أن يكتب بظفره المكسور والمغمس بدمه بعضا من حكايته.

يبدأ علي بسرد حكايته من الغوص عميقا في أصله اعتبارا من جدّه الأول، الذي كان خدم ضابطا في الجيش العثماني، ويقال أن أصلهم يعود إلى أحد جنود نابليون الذي قدم مع حملته على مصر، قبل ما يزيد على قرنين من الزمان، كان مسيحيا أو يهوديا، هناك اسلم واستقر في مصر بعد أن غادرت حملة نابليون عائدة الى فرنسا. أما جده الضابط في الجيش العثماني الذي أصيب في الحرب العالمية الأولى، المسماة السفر برلك، الإصابة كانت في ذراعه، اُرسل إلى ألمانيا للعلاج، ألمانيا التي كانت حليفا للعثمانيين في تلك الحرب. يد الجد بترت، والحرب انتهت، والجد استقرّ في ألمانيا ولم يعد، الجدة تتطلق من زوجها الغائب وتتزوج زميله ضابطا عثمانيا آخر. علي وعائلته من أهل حماة والده كان من الطليعة المقاتلة لجماعة الإخوان المسلمين، كان صغيرا عندما حدث الصراع بين النظام والإخوان المسلمين، في أواخر سبعينيات وبداية ثمانينات القرن الماضي، حيث هاجم النظام مدينة حماة، قتل فيها عشرات الآلاف، وهدم أحياء كاملة فوق رؤوس أهلها، كان النظام قد جمع الرجال من سن الخامسة عشر وما فوق، وصفاهم جسديا. هرّبه والده مع آخرين من المدينة في جرار زراعي تحت اسمدة حيوانية مات البعض قبل الوصول الى الحدود العراقية، ونجا علي ووصل بعد ذلك الى بيت صديق والده في بغداد، وعاش هناك بين ابنائه. كبر علي وتعلم ودرس طبّ الأسنان وفتح عيادة في بغداد. كان له ثلاثة اصدقاء، عراقيان وفلسطيني، أحدهم كان يخدم في الجيش العراقي، عاصر حروب صدام مع إيران وكان مسؤولا عن فريق اعدام لكل من يحكم عليه بالموت من الجنود العراقيين، الذين يهربون من الحرب أو يحلّ عليهم غضب السلطة، كان ذلك مؤلما بالنسبة له، الى أن أحضروا أخيه الأصغر للإعدام، وأعدمه بيده، عندها أصيب بالجنون، سرّح من الجيش ومات مشردا بعد ذلك. صديقه العراقي الآخر كان ضابطا بالجيش ايضا، عندما سقطت بغداد تحت الاحتلال الأمريكي، خلع ملابسه العسكرية وهرب الى أهله في إحدى المدن العراقية. صديقه الفلسطيني أصبح سفيرا لمنظمة التحرير في العراق واستمرت العلاقة بينهما كل الوقت. لم يتزوج علي أبدا، كان مخلصا لحب فتاة من حيّه في حماة، كبر حبّه معه، تزوجت بعد ذلك، وهو لم يستطع أن يتحرر من حبها، بقي ينتظر الدهر وما يأتي به، كانت علاقته مع أصدقائه والعمل في عيادته، هما ما يملأ حياته.

يعود علي كثيرا الى الحديث عن جدّه الضابط الذي استقر في ألمانيا، الذي أصبح له دور في كثير من المتغيرات في منطقتنا العربية مطلع القرن العشرين، كان وسيطا في تجارة السلاح، من ألمانيا الى العراق مع النظام الملكي وقت ذلك، وكذلك مع حكم الإمام في اليمن، وغيرهم من دول المنطقة الوليدة حديثا، وكان له دور في شراء أراض في فلسطين وبيعها لليهود بعد ذلك، برعاية ألمانية و إنكليزية حيث كان للدولتين مصلحة بالتخلص من اليهود وزرعهم في فلسطين.

نعود إلى الحدث المباشر المعاش في العراق، إنه لحظة الهجوم على العراق من قبل الأمريكان عام ٢٠٠٣م،  إستعد صدّام وجيشه لمواجهة المحتلين، لكنهم لم يصمدوا أبدا، كان حكم صدّام الاستبدادي و الدموي  قد جعل العراقيين يتنصلون منه ومن نظامه عندما هاجم الأمريكان العراق واحتلوه، هرب ضباط وجنود الجيش العراقي كل الى حيث يحمي نفسه من حرب غير قادرين على مواجهتها، وغير مقتنعين بها. صاحبنا علي كان في عيادته المطلة على تمثال صدّام وسط بغداد، يراقب تقدم الدبابات الأمريكية ، كذلك الطائرات الأمريكية التي تحوم في سماء بغداد في حرية كاملة. دخل عليه أحدهم واستأذن منه لأجل علاج شيخ بصحبته له سنّ ملتهبة، أدخله للعيادة، وكانت المفاجأة، إنه الرئيس صدّام حسين شخصيا، خاف علي وارتبك، ماذا يتصرف، القوات الامريكية هيمنت على بغداد، وهاهو يطل مع صدّام حسين ومرافقه على تمثال صدّام أثناء إسقاطه من قبل القوات الأمريكية، كان صدام متماسكا، أخبر صدّام علي أنه يعرفه، وأن جده كان قد قدّم سلاحا للدولة العراقية، وأن علي نفسه مخلصا للدولة التي تبنته واحتضنته منذ طفولته. عالج علي الرئيس، وقبل مغادرة صدّام ومرافقه العيادة كتب لعلي ورقة صغيرة، كذلك بضعة آلاف من الدولارات. غادر الرئيس العيادة، تنفس علي الصعداء، قرأ الورقة كانت تحكي عن منح الرئيس صدام وساما رفيعا لعلي، مذيلة بالتاريخ وتوقيع صدام. أحتفظ علي بالورقة، وذهب الى صديقه السفير الفلسطيني، ليحتمي عنده من المتغيرات التي حصلت والإحتلال الأمريكي لبغداد، وصل علي الى السفارة الفلسطينية، وأخبر صديقه بمجيء الرئيس اليه وعلاجه، وأبرز له ورقة منح الوسام، في الأثناء حضرت القوات الأمريكية، واعتقلت طاقم السفارة الفلسطينية، بما فيهم علي، اخذوهم الى مكان حجز في الكلية العسكرية في بغداد، وهناك عرّوهم و بدؤوا التحقيق معهم، لم يستطع التخلص من الورقة التي أعطاها الرئيس له، شاهدها الأمريكان أثناء تفتيش ملابسه، وسرعان ماعرفوا محتوياتها، وبدأت رحلة تحقيق وتعذيب لعلي ليقدم لهم معلومات، عن معرفته بالرئيس، وعن سبب مجيئه إليه، وما هي الخدمة التي قدمها له حتى يمنحه الوسام الرفيع؟ . والأهم أين ذهب الرئيس؟، وكيف يصلون اليه؟. قدّم علي لهم كل المعلومات التي يملكها، وأخبرهم أنه لا يعلم عن الرئيس أي شيء. لم يقتنعوا منه، واعتقلوه مع صديقه السفير الفلسطيني، وغيرهم من العراقيين والعرب. حيث قدم الكثير من “الجهاديين” إلى العراق لمساندة العراق ومحاربة الأمريكان، الذين كانوا يجهزون لإحتلال العراق. داخل المعتقل التقى بأحمد إبن مدينته وحيّه حماة، كان من جيل علي، و أخا لحبيبته، التي مازال يعيش حبها في قلبه. كما كان معه في الزنزانة شاب قدم نفسه على أنه من جزيرة العرب وجاء للجهاد. أحمد أحد قياديي الجهاد “القاعدة” منذ أفغانستان، تغير كثيرا، كان يتكلم وهو ممتلئ بيقين النصر على الامريكان، في العراق وفي كل مكان، وأن استجرار أمريكا للعراق لهزيمتها وإرهاقها، وأن ذلك مقدمة لتحرير القدس وفلسطين وعودة مجد الإسلام ودولته. يصرّ ابراهيم على مبايعة أحمد، وحاولوا مع علي حتى يجذبونه إليهم لكنه رفض، أحسّهم أنهم منفصلين عن الواقع يعيشون مع أوهامهم بهدم أمريكا وبناء الدولة الإسلامية، وهم محشورون في زنزانة عند الامريكان ضمن شروط حياة مأساوية. استمر ابراهيم بالإلحاح على أحمد حتى رضي مبايعته على السمع والطاعة والجهاد معه حتى النصر او الشهادة، واصبحا يختليان ويتحدثان بمعزل عن علي دوما. لم ينتهي التحقيق مع علي، فهناك دوما جديد ما يتابع الأمريكان علي حوله، تاريخه التفصيلي، شبكته العائلية قبل خروجه من حماة، وعن النظام السوري، وعن الطليعة المقاتلة، كل شيء، هذا غير استرجاع تاريخه العائلي منذ جدّه الضابط في الجيش العثماني، حيث اكتشف الامريكان أن له مطابقا لحمضه النووي في المانيا، قد يكون من نسل جده الذي تزوج وانجب في ألمانيا منذ عشرات السنين. وأخيرا اودع علي في سجن كروبّر في بغداد، ومضى عليه وقت طويل، أحس أن الأمريكان قد نسوه في السجن. لكن جاؤوه في أحد الأيام وافرجوا عنه، أعطوه كل مقتنياته، بما فيها سيجار ومبلغ من الدولارات كان تركها الرئيس صدّام له حين تعالج عنده. عاد الى عيادته وقرر أن يفتحها ويعود للعمل فيها. لكن مستجدّا حصل غيّر كل خططه. فقد جاءه أحدهم وأبلغه سلام ذلك الشيخ الذي زاره يقصد الرئيس صدّام، واعطاه آلاف الدولارات وغادر على عجل. خاف علي من انكشاف أمره للأمريكان، انهى كل مصالحه في بغداد، وسارع بالمغادرة إلى الإمارات المتحدة، حاول أن يعمل كطبيب أسنان لكنه لم ينجح، فعمل مع إحدى شركات بيع الأدوات الطبية لوازم اطباء الاسنان، واستقرت اموره. وبعد مضي سنوات، وهو يتابع أخبار حماة والحبيبة التي توفي زوجها، وكبر اولادها. تواصل معها، وجدها مازالت تحبه، واتفقا على الزواج، على أن تحضر إليه في الإمارات، يتزوجا ويعيشان سوية لعلهما يعوضان عمرا انقضى وحياة قاسية عاشها علي. كان يجهز لمجيء حبيبته، وفي إحدى المراجعات الى شركة أمنية لتأمين مستلزماتها الطبية، التقى علي بإبراهيم ذلك الجهادي الذي التقى به في المعتقل، حيث بايع ابراهيم احمد اخا حبيبته على الجهاد، إنه هنا ظهر كرجل أمن واسمه أختلف أصبح عبيد، تذكر علي وإبراهيم بعضهما، وبعد الاجتماع استدعى ابراهيم علي الى غرفة جانبية، و واجهه بأنه قد خسر عمره عندما علم أن ابراهيم رجل أمن قد اخترق الجهاديين سابقا، هذه المعلومة تستوجب الموت. استعمل العنف معه، أخذه الى مكان أمني، يسمع به الصراخ من التعذيب، احضر ابراهيم حقنة من السم، وحقنها في رقبة علي وقال له ستموت بعد لحظات وهذا مصيرك، بعد معرفتك هويتي الحقيقية. كان قد عذّبه قبل ذلك وادماه، حاول وهو ينازع الروح أن يحول اظفره الى قلم ودمه إلى حبر ويكتب قصته على حائط المكان، لكن الموت عاجله.

هنا تنتهي الرواية.

في تحليلها نقول:

نحن أمام رواية متميزة جديدة للكاتب عبد الله مكسور، فها هو يخوض عميقا في الحال العراقي في لحظة تاريخية هامة؛ انه الاحتلال الأمريكي له، جاعلا مسرح روايته بغداد، متوسعا في السرد ليطال حقبة تاريخية تصل الى قرن تقريبا، تتحدث عن بلاد شرق المتوسط، بدء من نهايات الحكم العثماني، والدول المتشكلة حديثا على أنقاض العثمانيين، التغلغل اليهودي في فلسطين، التهجير القسري -بوعي أو غباء- لليهود العرب إلى فلسطين ليكونوا بناة دولة الصهاينة “اسرائيل”. الغوص عميقا في تاريخ سورية الاجتماعي والسياسي، ملامسة الصراع بين النظام القمعي السوري والطليعة المقاتلة والإخوان المسلمين، تدمير بعض أحياء حماة والمجازر المرتكبة فيها، دور النظام السوري في فتح الباب لاستحضار المقاتلين الجهاديين إلى العراق من القاعدة وغيرها ماقبل الإحتلال الأمريكي للعراق ومنذ حرب “الجهاديّن” ضد الروس في أفغانستان. واقع العراق ودور صدّام حسين عبر عقود في صناعة مآسي الشعب العراقي، وتحول أفعاله، مثل احتلال الكويت، ونتائجها المأساوية على شعب الكويت والجيش والشعب العراقي، الى ذريعة لإحتلال العراق، ومن ثم احتلاله من الأمريكان، مطاردة الأمريكان لصدّام والبحث عنه ومن ثم العثور عليه، وما لم تقله الرواية، تلك المحاكمة الصورية، ثم اعدامه المهين. ما زال العراق للآن يعيش ويلات مرحلة حكم صدّام، و الإحتلال الأمريكي الذي تلاه، ونضيف الدور الإيراني الذي أصبح أكثر فاعلية في تخريب العراق وهدره كشعب ووطن وامكانيات. الرواية تمر على الإرهاب متمثلا بالقاعدة والجهاديين القادمين الى العراق، وكيفية استخدامهم كذريعة واختراقهم من قبل الأجهزة الأمنية لكل دول العالم اصحاب المصلحة في العراق وفي منطقتنا.

في النهاية نقول:

أن الرواية تقول أن منطقتنا العربية كانت كل الوقت ومنذ قرن تقريبا، ضحية تدخلات غربية فيه، تصل الى مرحلة الإستعمار لبلاد منه لعقود، واحتلال فلسطين وتحويل بعضها إلى كيان غاصب “إسرائيل”. والصمت عن أنظمة تابعة للغرب بالمطلق، وعلى حساب شعوبها، أنظمة قمع واستغلال واستبداد، والبعض منها مثل عراق صدّام حسين الذي اعتقد نفسه بطلا ويريد أن يبني مجدا، فأوقع العراق في عقود من الحياة المأساوية التي عاشها الناس وما زالوا للآن يدفعون ثمن مرحلة حكم صدّام. كذلك سورية وحكم الأسد الأب وبعده إبنه الممتد الى خمسين عاما، وكارثية ما فعله بسورية الشعب والبلاد والدولة، خاصة بعد الثورة السورية التي حصلت في أواسط آذار عام ٢٠١١م. أكثر من مليون انسان ضحية، ومثلهم مصابين ومعاقين، ونصف سورية مدمرة، ونصف الشعب السوري مشرد، واحتلالات تغطي سورية، روسيا وإيران وحزب الله والمليشيا الطائفية والأمريكان، وال ب ي د فرع حزب العمال الكردستاني وخططه الانفصالية في الشمال الشرقي السوري وشرق الفرات، والحياة المأساوية الذي يعيشها شعبنا في الداخل السوري، وكذلك في بلاد اللجوء.

هذا هو واقعنا الذي نعيشه وحاولت الرواية أن تعالجه بأشكال مختلفة.

احمد العربي.

.١٩/١٠/٢٠٢٠م.

٢٤/٣/٢٠٢١ م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى