يمقت سكان داريا الذين يعيشون بين أكوام من الأنقاض والبيوت المدمرة “ابتسامة النفاق” التي يظهرها رئيس البلدية مروان عبيد، خلال استحواذه على النصيب الأوفر من اللقاءات التلفزيونية والمكتوبة في الإعلام الرسمي. ويعتبرون أن المحامي الذي يعشق “البروظة”، “لم يترك غطاء صرف صحي داخل المدينة من دون أن يلتقط صورة معه” باعتباره أحد منجزات الحكومة، التي استعادت سيطرتها على المدينة إلى جانب مدن أخرى كانت قبل سنوات، معقلاً للثورة السورية في محيط العاصمة دمشق.
وفيما يعتقد بعض سكان المدينة، اليوم، أنه “لو كان من يدير البلدية مهندساً لكان الحال أفضل قليلاً”، لا يدركون ربما أن لا فرق سيحدث على الإطلاق، طالما أن أحد أبناء المدينة صاح يوماً بإسقاط النظام السوري الذي يعزز سياسة الانتقام من المدن الثائرة، ليس فقط على المستوى الخدمي عبر حرمانها من أبسط مقومات الحياة، من دون تقديم أي دعم يذكر في قطاعات مختلفة كالتعليم والصحة، بل أيضاً على المستوى الإعلامي، وهو ما تجلى في تغطيات واكبت الذكرى العاشرة للثورة السورية، الشهر الجاري.
كادر المنجزات
يسير الميكروباص المخصص ذهاباً وإياباً بين داريا ودمشق، ببطء شديد عند المرور من شارع الثورة الذي يتوسط المدينة. فكمية الحفر الناجمة سابقاً عن قصف مدفعية النظام السوري للمدينة التي كانت تعج بثوارها، كفيلة بثقب أي عجلة وإحداث أعطال قاتلة أخرى، كما تتحدث إحدى السيدات اللواتي يعشن في المدينة بين أبنية متهالكة، وشوارع مدمرة، وجو كالح من غبار الأنقاض.
لكن، في تقريرها الأخير حول داريا بدا واضحاً أن كادر مصور وكالة “سانا” الرسمية لا يظهر سوى منجزات الحكومة المتواضعة جداً، والمتمثلة في تحسين بعض الجوانب الخدمية مثل المواصلات وإصلاح الطرق. وتحدثت الوكالة بكل ثقة عن منجزات “الدولة السورية” إلى جانب صور زاهية تظهر متاجر أنيقة وبعض الشوارع النظيفة وازدحام مواطنين أمام دوائر الدولة، لكن الحقيقة أن داريا خارج ذلك الكادر تبدو في غاية السوء.
وهنا، تحدثت السيدة عن معاناة السكان من غياب الكهرباء التي تنقطع أياماً متواصلة، وعن غياب المواصلات في أحيان كثيرة، ما يجعل السكان حبيسي البيوت، بينما كانت لداريا حصة لا بأس بها من تلوث مياه الشرب الناجم عن أخطاء، ربما تكون مقصودة، في عملية إصلاح محدودة للغاية في البنية التحتية المدمرة بشكل كامل في المدينة. علماً ان داريا كانت من أولى المدن حول دمشق التي عاشت البدايات الأولى لاحتجاجات ثورة آذار/مارس 2011، ضد بشار الأسد. وتحررت على أيدي أبنائها المنخرطين في صفوف “الجيش الحر” العام 2012، ولم تنفع واحدة من أكبر المجازر الدموية في جعلها تركع بعد ذلك، حيث حمل شبانها بنادق “كلاشينكوف” وبضعة قنابل محلية الصنع، طوال أربع سنوات، من تشرين الثاني/نوفمبر 2012 حتى أيلول/سبتمبر 2016 في مواجهة حملات عاتية لقوات النظام.
وتتصدر المدينة التي كان يقطنها، عشية الثورة، قرابة 250 ألف نسمة، مقابل 50 ألفاً اليوم، لائحة المدن الثائرة المدمرة بشكل شبه تام، ويبدو أن غضب النظام السوري عليها ما زال مستمراً، مع حرمانه أهلها من العودة إليها بعد أكثر من سنتين على إخلائها، ضمن إجراءات أمنية صارمة وغياب لأدنى الخدمات، حتى هذه اللحظة. وذلك كله يغيب بالطبع عن التغطيات الإعلامية الرسمية الخاصة بالمدينة.
الأسد يُفسد.. الأسد يصلح
خلال جولة مصورة داخل مدينة معضمية الشام استعرضت “سانا” أيضاً، ما سمّته نهضة عمرانية في المنطقة التي خرجت نهاية العام 2016 من أحد أقسى الحصارات التي فرضها النظام السوري على المدن الثائرة. واعتبرت الوكالة هذه الحركة العقارية المرخصة بملايين الليرات، والتي يدفعها مالكو العقارات لخزينة النظام، أحد منجزات الحكومة التي “أعادت الاستقرار والأمان إلى المنطقة” بحسب الترنيمة المعروفة للإعلام الرسمي.
بعكس ذلك، تساءل أحد مواطني البلدة خلال حديث مع “المدن” عن إصلاحات النظام السوري الذي خلف الدمار الشامل في شارع الأربعين وأحياء المعضمية الجنوبية والشياح وغيرها، مضيفاً: “قمة الوقاحة أن يكون النظام هو المتسبب في كل الدمار الذي نشهده في المعضمية ثم يأتي إعلامه ليتحدث عن منجزات حكومية تخص العقارات”.
والحال أن هذا المواطن رمم شقته التي دمرتها قذائف “فوزديكا” الرابضة على “جبال الفرقة الرابعة” (جبال المعضمية سابقاً)، واضطر لتكبد تكاليف باهظة في ظل ارتفاع أسعار مواد البناء مع ضعف شديد في المدخول. وتابع بحزن: “هم دمروا منزلي وأنا أبنيه بعرق الجبين ثم ينسبون الإنجاز لهم”.
يذكر أن المعضمية، التي أعلن تحريرها أواخر العام 2012، واجهت معارك دامية أدت إلى دمار غير مسبوق في أحياء كاملة، ولم يفلح النظام السوري في فرض هيمنته عليها إلا بعد سنوات مريرة من الحصار والجوع الذي قاد إلى اتفاق مصالحة في تشرين الأول/أكتوبر 2016.
إمعان في العقاب
“كُتب علينا أن نواجه الجوع في هذا المكان”، بهذه الكلمات يبدأ أحد سكان دوما حديثاً مع “المدن”، موضحاً أن “المدينة فقدت بهاءها السابق”، حيث غدت حاضرة الغوطة الشرقية محاصرة بالحواجز الأمنية من الجهات كافة، فيما تمنع الإتاوات الضخمة التي تتقاضها هذه الحواجز أي نشاط محتمل للتجارة، كما تقلصت المساحات الزراعية بسبب تهجير عدد كبير من المزارعين وأصحاب الأراضي خلال الأعوام الثلاثة الماضية.
ولم تكن دوما التي شكلت رأس حربة لثوار الغوطة الشرقية ضد النظام السوري أوفر حظاً من المدن الثائرة غربي دمشق، فرغم ما يبثه الإعلام الرسمي حول “تحسين الكهرباء والاتصالات والشوارع والمنصفات وترحيل الأنقاض والاهتمام بالنظافة وتأمين مستلزمات المواطنين من المواد الأساسية”، ما زالت المدينة على حالها منذ خروج الثوار إثر تسوية نيسان/أبريل 2018.
والحال أن حكومة النظام لم تحرك ساكناً لمواجهة واقع خدمي في غاية السوء، بل اكتفت ببعض الإصلاحات الخدمية البسيطة عبر “الأمانة العامة للتنمية”، التي ترأسها “السيدة الأولى، أسماء الأسد، علماً أن بلدات الغوطة الشرقية عموماً، تصدرت لائحة المناطق المدمرة في ريف دمشق حيث بلغ عدد المباني المدمرة كلياً فيها 9353 مبنى، بالإضافة إلى 13661 مبنى مدمراً بشكل بالغ، و11122 مدمراً بشكل جزئي، ليبلغ مجموع المباني المتضررة 34136، وفقاً لإحصائية تفصيلية نشرها معهد الأمم المتحدة للبحث والتدريب “UNITAR” توضح حجم الدمار العمراني الذي لحق بالمدن والمراكز العمرانية في سوريا بالاستناد إلى تحليل صور الأقمار الصناعية، وعرض خرائط تبين توزع الدمار وكثافته في 16 مدينة ومنطقة.
ومن المثير للاستياء حقاً، أنه لا يكاد يمر أسبوع من دون أن ينشر الإعلام الرسمي وشبه الرسمي صوراً لأشجار وحقول الغوطة الشرقية لما يطلق عليه إعلامياً تسمية “ربيع الغوطة”، ضمن سردية تقول بأن الغوطة كانت جزءاً من البادية السورية، حتى أتت قوات النظام بعد تسوية 2018 وأحالتها إلى ربيع! ويعلّق أحد مزارعين دوما الذي اضطر لهجر أرضه ومنزله وركوب حافلات التهجير نحو إدلب، على صُور الإعلام الموالي: “لماذا لا تظهر عدستهم الأراضي الجرداء والأشجار الموشكة على اليباس؟”.
المصدر: المدن