على الرغم من تواصل الهدوء النسبي في شمال غربي سورية من خلال غياب حركة الطيران الحربي، فإن الخروقات للهدنة المعلنة هناك منذ نحو أسبوعين تتزايد، سواء من قِبل قوات النظام السوري، التي تقوم بعمليات قصف ومحاولات تسلّل متكررة باتجاه مواقع فصائل المعارضة، أم من قبل بعض الفصائل المتطرفة، التي استهدفت القوات التركية العاملة في المنطقة، أول من أمس الخميس، وفق وزارة الدفاع التركية.
وبعد نحو أسبوعين على الاتفاق التركي الروسي بشأن إدلب، أجرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتصالاً هاتفياً مع رئيس النظام السوري بشار الأسد، أمس الجمعة، حول تطورات الوضع في سورية وسير تطبيق الاتفاق حول وقف إطلاق النار في إدلب. وذكر الكرملين، في بيان، أن المكالمة تناولت “بحث الوضع في سورية، بما في ذلك تطبيق الاتفاقات الروسية التركية الموقّعة في 5 مارس/ آذار العام الحالي حول إرساء الاستقرار في منطقة إدلب”. وأضاف الكرملين أن بوتين والأسد “تطرّقا كذلك إلى قضايا العملية السياسية في إطار عمل اللجنة الدستورية السورية، وكذلك موضوع المساعدة الإنسانية لسورية”.
واللافت في هذه الخروقات التي تتركّز حول الطريق الدولي حلب-اللاذقية (أم 4)، كان مقتل جنديين تركيين في هجوم لعناصر “راديكالية”، وفق بيان وزارة الدفاع التركية. وقال البيان إن دورية تركية تعرضت لهجوم بالصواريخ من قبل جماعات “راديكالية” في ريف إدلب، ما أدّى إلى مقتل جنديين وإصابة آخر، من دون أن يحدّد الجهة المسؤولة عن الهجوم. لكن اتهامات وُجّهت إلى تنظيم “حراس الدين” باستهداف الرتل التركي، كونه يسيطر على المنطقة، إلى جانب “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً)، في حين لم يصدر أي تصريح عن التنظيم حول الأمر.
ويعتبر هذا الهجوم الأول من نوعه من قِبل التنظيمات المتطرفة ضد قوات تركية، وقد استتبع بقصف تركي استهدف، وفق بيان وزارة الدفاع التركية، “أهدافاً محددة في المنطقة”، فيما قالت مصادر محلية إن القوات التركية أطلقت عدداً محدوداً من القذائف على مواقع محتملة لتنظيم “حراس الدين” في المنطقة. كما تبع ذلك، وفق المصادر، وقوع اشتباك بين “هيئة تحرير الشام” وتنظيم “حراس الدين” المنشقّ عن الأولى في ريف إدلب.
ونفت تركيا سحب قواتها من المنطقة بعد الهجوم. وقالت وزارة الدفاع التركية، في بيان، “تتواصل أنشطة الانتشار والتنظيم المخططة لقواتنا في منطقة خفض التصعيد بإدلب، والأنباء المتداولة عن انسحاب وحداتنا لا تعكس الحقيقة”. وكانت المناطق المحاذية للطريق الدولي “أم 4” قد شهدت، خلال الأيام الماضية، احتجاجات من الأهالي، على الاتفاق الروسي-التركي بتسيير دوريات مشتركة على هذا الطريق، الذي يقع جزء كبير منه في مناطق سيطرة فصائل المعارضة، ويفصل نحو 40 قرية في منطقة جبل الزاوية جنوبي الطريق عن بقية المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة. وتقول روسيا إن تنظيمات متطرّفة تقف خلف هذه الاحتجاجات، وهو ما منع تسيير دوريات مشتركة على الطريق.
غير أن القوات التركية بادرت من جهتها، خلال اليومين الماضيين، إلى تسيير دوريات على الطريق، بينما امتنعت القوات الروسية عن المشاركة في هذه الدوريات، بحجة أن الطريق غير آمنة. ونشر ناشطون إعلاميون مقربون من “تحرير الشام” تسجيلات تُظهر دخول الدوريات التركية على طريق بين الترنبة – النيرب – تل مصيبين. ويأتي ذلك بعد أن أزالت القوات التركية السواتر الترابية التي وضعها المحتجّون في بعض المواقع على الطريق، ونشرت سواتر إسمنتية على جانبي الطريق من بلدة النيرب إلى أريحا. وتزامن ذلك مع دخول رتلين من القوات التركية إلى منطقة إدلب، يضمّان أكثر من مائة آلية عسكرية، عبر معبر كفرلوسين الحدودي، اتجها نحو المواقع التركية في المنطقة. وقال مراسل “العربي الجديد” إن القوات التركية أدخلت نحو 150 عربة عسكرية ومعدات لوجستية، على دفعات، باتجاه مواقع انتشارها بمحاذاة الطريق الدولية حلب – اللاذقية في ريف إدلب.
في المقابل، سعت روسيا إلى استغلال هذه التطورات بغية تحريض تركيا على فصائل المعارضة في المنطقة. وقال مدير مركز حميميم للمصالحة التابع لوزارة الدفاع الروسية أوليغ جورافلوف إن تركيا تتخذ إجراءات ضرورية لتهيئة ظروف آمنة لتسيير الدوريات المشتركة على طريق “أم 4″، بهدف تطبيق اتفاق إدلب. ودعا من سمّاهم بـ”قادة التشكيلات المسلحة غير الشرعية في سورية إلى التخلي عن الاستفزازات بالسلاح”. وكانت غرفة عمليات “وحرض المؤمنين”، التي تضم فصائل جهادية، أبرزها “حراس الدين”، قد أصدرت بياناً أعلنت فيه رفضها الاتفاق التركي الروسي الأخير حول إدلب. وتنتشر في المحافظة مجموعة من التنظيمات المتطرفة الرافضة إجمالاً لكل اتفاقيات التسوية في إدلب، لكنها ظلّت عموماً منضبطة تحت عباءة “هيئة تحرير الشام”، التي تشكّل بتسمياتها المختلفة العمود الفقري لتلك التنظيمات، لكنها تتمتع بمرونة سياسية أكثر من بقية التنظيمات. أما تنظيم “حراس الدين” فقد ظهر إلى العلن، للمرة الأولى، في نهاية فبراير/ شباط 2018، ويضم بشكل عام الرافضين لما يعتبرونه نهجاً براغماتياً مراوغاً لـ”تحرير الشام” في مسايرة الضغوط الدولية وفك الارتباط بتنظيم “القاعدة”.
ويتميّز “حراس الدين” بسرّية العمل والهيكلية العسكرية والأمنية الصارمة. كذلك يلفّ الغموض قائده أبو همام الشامي، إذ لا بيانات كثيرة لهذا التنظيم، ولا مكان ثابتاً لوجود عناصره، أي أنهم لا يسيطرون على قرى أو بلداتٍ بعينها، إنما يتوزّعون جغرافياً في عدد من قرى إدلب، وقريباً من ريف اللاذقية الشمالي. ونجح التنظيم في استقطاب مجموعات صغيرة، اختلفت حول الولاء لـ”هيئة تحرير الشام”، مثل من تبقّى من تنظيم “جند الأقصى”، و”جند الملاحم”، و”جند الشريعة”، و”جيش الساحل”، و”جيش البادية”، وعدد من المجموعات التي تُطلق على نفسها وصف “السرايا”، مثل “سرية غرباء”، و”سرية الساحل”. وإضافة إلى هؤلاء، يستقطب التنظيم أيضاً الهاربين من مناطق “داعش”، وكثيراً من “المهاجرين” الذين ينجذبون إلى التنظيمات الجهادية غير المهادنة، بسبب انعدام خيارات التسوية أو العودة إلى بلدانهم أمامهم. وليس لدى التنظيم وفرة بالسلاح الثقيل، فيما تُشير التقديرات إلى أن عدد عناصره بين ألف و1500، يقودهم عسكرياً أبو همام، وشرعياً سامي العريدي.
وعلى الرغم من تشدّده الفكري، فإن “حراس الدين” يتمتع بمرونة على الأرض، ويتعامل مع كل الفصائل العسكرية في ريف اللاذقية الشّمالي، وريف حماة الغربي، في غرفة عسكرية واحدة هي غرفة عمليات “وحرّض المؤمنين”. كذلك يتعاون أمنياً، بشكل سري، مع “هيئة تحرير الشام”، وهو ما أسهم في تخفيف التوتر بينهما. سياسياً، كان “حراس الدين” أول فصيل يرفض اتفاق سوتشي حول إدلب الموقّع بين روسيا وتركيا، لكونه ينظر إلى نفسه كممثل حقيقي لتنظيم “القاعدة” في سورية، وبهدف إحراج خصمه “هيئة تحرير الشام” التي لم ترحّب بالاتفاق، لكن لم ترفضه رسمياً.
ويعتبر “حراس الدين” تحت المجهر الدولي والإقليمي لأسباب عدة، منها انتشاره في مناطق حساسة بالنّسبة لجميع الأطراف الإقليمية، وعلى رأسها روسيا وتركيا، مثل منطقة ريف اللاذقية، إضافة إلى أن التنظيم يضمّ عدداً كبيراً من المصنّفين على أنّهم من أخطر الجهاديين في العالم، فضلاً عن ارتباطه الصريح بتنظيم “القاعدة”، ما يجعله، بنظر الدول الكبرى، مصدر تهديد لها، بسبب ميل “القاعدة” إلى شنّ عمليات عسكرية ضد أهداف غربية. لكن حتى الآن لم يُسجل له القيام بأي عمل ضد هدف غربي. وقد وجّهت الولايات المتحدة ضربات جوية للتنظيم أكثر من مرة، أدت إحداها في 31 أغسطس/ آب الماضي إلى مقتل أربعين على الأقل من قيادات التنظيم.
ومن التنظيمات الأخرى المنتشرة في المنطقة، “جبهة أنصار الدين”، التي تأسست في سبتمبر/أيلول 2014، بعد اندماج أربعة فصائل، أغلبها من “المهاجرين”. وفي مطلع عام 2017، قررت “أنصار الدين” الاندماج مع “جبهة فتح الشام” (جبهة النصرة) وفصائل عدة، لتشكيل “هيئة تحرير الشام”، لكنها عادت وانشقت عنها في فبراير/ شباط 2018، نتيجة خلافات داخلية. ويبلغ عدد الأفراد الذين انشقوا عن “هيئة تحرير الشام” وعادوا إلى مسمى “جبهة أنصار الدين” قرابة 300 شخص، يمتلكون أسلحة خفيفة ومتوسطة، ولا يوجد لهم تمركز حقيقي في أيّ جبهة، ويعتمدون على الانتقال من مكان إلى آخر، وهم يرفضون الاتفاقات السياسية التي تخصّ المنطقة.
وهناك أيضاً “الحزب التركستاني في بلاد الشام” الذي يعتبر من أكثر المجموعات المقاتلة الأجنبية حضوراً في الساحة السورية، وكان له دور بارز في العديد من المعارك التي شهدها الشمال السوري. ولا تتوافر معلومات دقيقة حول عدد العائلات التركستانيّة في سورية اليوم، لكن مصادر عدة تقدر العدد بين ألف و1500 عائلة، بينما يقدّر عدد المقاتلين بما بين 2000 و3000 مقاتل، بعد أن قُتل منهم المئات خلال المعارك ضد قوات النظام. ويتخذ التركستان من ريف إدلب الغربي، وريف اللاذقية الشمالي، ملاذاً لهم، ولديهم معسكرات مشتركة مع الكتائب الأوزبكية والقوقازية في مناطق جبلية لتدريب أطفالهم، الذين تجاوزوا الثانية عشرة، على حمل السلاح ومهارات القتال. وفي الثاني من مارس/ آذار 2018، أعلن عن تشكيل عسكري جديد في محافظة إدلب باسم “أنصار التوحيد” بقيادة أبو ذياب سرمين. وبحسب مصادر مطلعة، فإن هذا التشكيل، الذي يضم بين 300 و350 مقاتلاً، وكان ينتشر في كل من سرمين والنيرب وجبال اللاذقية، ما هو إلا إعادة هيكلة لفصيل “جند الأقصى”، الذي تم حله في أواخر يناير/ كانون الثاني 2017. لكن التنظيم اعتمد أيضاً على عناصر من الفصائل ممن اتخذوا الحياد في حرب الفصائل على “جند الأقصى” ممن بايعوا “تحرير الشام” والحزب الإسلامي التركستاني. ولطالما اتهمت روسيا تركيا بالتردد في مجابهة التنظيمات المتطرفة في إدلب بموجب الاتفاقيات الموقّعة بين الجانبين، واتخذت من ذلك ذريعة متكررة لشنّ الهجمات على محافظة إدلب.
المصدر: العربي الجديد