
تعيش محافظة السويداء السورية واحدة من أكثر محطاتها توتراً منذ بدء الخلاف مع الحكومة الجديدة، لكن هذه المرة لم تقتصر المطالب على المشاركة في الحكم أو التغيير السياسي، بل اتخذت مساراً تصعيدياً غير مسبوق: مطالب بالانفصال الكامل عن الدولة السورية، ترافقها شعارات ورايات تثير مخاوف الانقسام.
في مشهد غير مألوف على الساحة السورية، خرجت حشود من أبناء السويداء في مظاهرات رُفعت خلالها أعلام الطائفة الدرزية إلى جانب علم الاحتلال الإسرائيلي، في ساحة السير وسط المدينة، مرددين هتافات تدعو إلى الاستقلال، وإخراج الحكومة من المحافظة، وفتح المعابر، في خطوات وصفها مراقبون بأنها “تفجير متعمد” لأي محاولات تهدئة سابقة.
المطالب تتجاوز اللامركزية
مظاهرات السبت في السويداء لم تأتِ فجأة، بل كانت ثمرة تراكمات سياسية وأمنية، لكنها هذه المرة تخطت خطوطاً حمراء، بحسب توصيف متابعين للشأن السوري، إذ لم يكتفِ المتظاهرون بالمطالبة بالإصلاح أو الحكم الذاتي، بل تجاوزت مطالبهم إلى “حق تقرير المصير” واستقلال إداري وسياسي صريح.
اللافت في هذه الموجة من الاحتجاجات لم يكن فقط طبيعة المطالب، بل أيضاً الرموز التي رُفعت، وأهمها علم إسرائيل، ما أثار جدلاً واسعاً حول أبعاد هذه الحركة، ومدى تمثيلها لأهالي السويداء ككل، ومدى ارتباطها بتحركات سياسية إقليمية أو أجندات خارجية.
تصعيد بعد دعوة إلى التهدئة
أعلنت الحكومة السورية في بيانات رسمية أنها شكلت لجنة تحقيق في الأحداث الأخيرة وستلاحق المتورطين في الانتهاكات، مؤكدة في الوقت نفسه التمسك بخيار “الدبلوماسية والتهدئة”. غير أن هذا لم يُرضِ معارضيها الذين يشككون في حياد هذه اللجان، ويطالبون بتحقيق دولي أو رعاية أممية لأي مسار تصالحي، وهو أمر ترفضه دمشق.
وقبل يوم من هذه الاحتجاجات، دعا محافظ السويداء مصطفى البكور إلى تغليب لغة العقل وتبني مبادرات الصلح وبناء جسور الثقة وتعزيز الوحدة الوطنية، بما يضمن وحدة الصف ويصون النسيج الوطني من أي خلاف أو فرقة.
وشدد البكور على أن السلم الأهلي ليس خياراً بل ضرورة وطنية وأخلاقية، وهو حجر الأساس في أي مشروع تنموي أو إصلاحي، داعياً جميع الأطراف إلى الانفتاح على مبادرات الصلح والتفاعل الإيجابي مع جهود الإصلاح بعيداً عن التوتر والانقسام.
كما أشاد البكور بالمواقف الحكيمة التي تبادر إلى الصلح وترفع من شأن الحوار وتغلب المصلحة العامة على الاعتبارات الضيقة، مثمناً دور الوجهاء والعقلاء في تقريب وجهات النظر وتجاوز الخلافات.
رغم ذلك، لم تلقَ دعوات التهدئة آذاناً مصغية من شريحة المحتجين الذين صعّدوا من لهجتهم، موجهين انتقادات حادة للحكومة، ومطالبين بخروج كافة القوات الحكومية من المحافظة، في مشهد ينبئ بتفاقم الأزمة.
خطابات متناقضة
في حلقة جديدة من برنامج “سوريا اليوم” على شاشة تلفزيون سوريا، التي جمعت عدداً من المحللين والباحثين السياسيين، برز تباين واضح في الآراء بشأن ما يجري في السويداء بين مبرر لشعارات المتظاهرين ومنتقد لها.
الباحث السياسي حسن الدغيم وصف ما يحدث بأنه “مشروع انفصالي مفضوح” تدعمه أطراف داخلية وخارجية أبرزها الاحتلال الإسرائيلي، متّهماً حكمت الهجري، أحد شيوخ عقل طائفة الدروز في السويداء، بأنه يقود “تياراً كهنوتياً مرتبطاً بعصابات الكبتاغون وفلول النظام المخلوع، ويسعى إلى فرض سلطة أمر واقع على السويداء”.
وقال الدغيم إن رفع علم إسرائيل لا يمكن أن يُفهم إلا كمحاولة للاستقواء بالخارج والتخلي عن الهوية الوطنية، مضيفاً: “هؤلاء لا يمثلون أهل السويداء الحقيقيين. الحكومة تحاول استعادة النظام ومؤسسات الدولة، لكن هناك من يسعى لإفشال ذلك عبر التجييش الطائفي”.
على الجانب الآخر، رفض المحامي والمحلل السياسي بسام العيسمي اتهامات الدغيم، موجهاً انتقادات لاذعة للحكومة السورية بقوله: “هذه ليست دولة، بل عصابة لا تصنع هوية وطنية ولا مواطنة متساوية، بل تُعمّق الانقسام الطائفي وتزرع الحقد بين السوريين”.
العيسمي اعتبر أن ما شهدته السويداء هو رد فعل على ما وصفه بـ”الإبادة الممنهجة والتمييز”، مشيراً إلى أن من رفعوا علم إسرائيل لا يمثلون إلا أنفسهم، لكن الحكومة أيضاً مسؤولة عن غياب البدائل الوطنية، على حد قوله.
أما الكاتب والمحلل السياسي رامي نخلة، فحاول طرح وجهة نظر أكثر توازناً، موضحاً أن ما يدفع المحتجين في السويداء إلى هذا السلوك ليس الطموح للانفصال، بل “الخوف الحقيقي على حياتهم ومستقبل أطفالهم”.
وأضاف: “إسرائيل تحاول استغلال الوضع، لكن أيضاً هناك من يصدّق دعايتها بسبب غياب الثقة بالحكومة السورية. هؤلاء الناس بحاجة إلى تطمينات حقيقية، لا إلى تخوين مستمر”.
نخلة دعا إلى التهدئة، مشيراً إلى أن هذه المرحلة تتطلب “مد الأيادي البيضاء” وعدم تصعيد الأمور إعلامياً.
إسرائيل في الخلفية: وساطة ومعبر
من جهته، أكد الخبير الأمني عمر الرداد أن الأردن يراقب تطورات السويداء بقلق بالغ، لكنه يتمسك بعدم التعامل مع الفصائل أو التيارات الانفصالية، موضحاً أن المملكة رفضت وساطة إسرائيلية لفتح معبر إغاثي بين إسرائيل والسويداء عبر أراضيها.
وقال الرداد: “الأردن يتعامل مع دول، لا مع فصائل. وما يجري في الجنوب السوري مدعوم من تل أبيب ويهدف إلى تقسيم سوريا على أسس طائفية وعرقية”.
وأضاف أن أي انزلاق في الجنوب سيؤثر مباشرة على الأمن الأردني، مشيراً إلى وجود تنسيق عربي تقوده السعودية لاحتواء الموقف.
وتزامنت هذه التطورات مع صدور تقارير إعلامية، أبرزها من موقع “أكسيوس” الأميركي، تفيد بوجود وساطة أميركية لفتح معبر إنساني بين إسرائيل والسويداء. ورغم نفي واشنطن بشكل غير رسمي، فإن التسريبات المتكررة تطرح تساؤلات عن الأبعاد الإقليمية للأزمة الحالية.
الخشية الكبرى لدى المراقبين هي أن يتحول الملف من شأن داخلي إلى ورقة تفاوض إقليمي، ما يعني دخول أطراف مثل تل أبيب وواشنطن وربما قوى إقليمية أخرى على خط الأزمة.
سيناريوهات مفتوحة
يبقى الوضع في السويداء معقّداً ومفتوحاً على عدة احتمالات، بما في ذلك التصعيد في حال استمرار تجاهل الأصوات المعتدلة في المحافظة، وهو ما ينذر بموجات احتجاج أعنف.
أما السيناريو الثاني فيتمثل بالاحتواء عبر مبادرات مصالحة داخلية حقيقية تعترف بالمظالم وتضمن مشاركة سياسية عادلة. في حين يتمثل السيناريو الثالث بالتدويل في حال تدخل أطراف خارجية، خصوصاً إسرائيل أو الولايات المتحدة، ما قد يحوّل الملف إلى أزمة إقليمية.
لكن الثابت حتى الآن أن السويداء دخلت فعلياً مرحلة مفصلية في التاريخ السوري الحديث، تتطلب من الجميع، حكومةً وشعباً، قدراً كبيراً من الحكمة والمسؤولية في إدارة الخلاف قبل فوات الأوان، وفقاً لآراء المحللين.
المصدر: تلفزيون سوريا