عندما انطلقت الثورة السورية، علا صراخ شبيحة النظام: “الأسد أو نحرق البلد”. اليوم، وبعد عقد، لا بقيت سورية، كما كنا نعرفها، ولا بقي بشار الأسد حاكماً مطلقاً فيها. هي عشرية سوداء دمرت البلاد، وجعلتها تحت وصاية دول عالمية وإقليمية، دع عنك المليشيات الطائفية الأجنبية، والطائفية والإثنية والإجرامية المحلية. لقد تمزّقت سورية وانفرط عقدها الوطني الجامع، وتشتت شعبها بين المقابر والمعتقلات والإخفاء القسري ومخيمات النزوح واللجوء، وعزّز جيشها وأمنها واستخباراتها دورهم المافيويِّ. وهكذا، تحقّق لشبّيحة الأسد بعض ما أرادوه، فهم حرقوا البلد فعلاً، وبقي الأسد، ولكن تحت نعال الروس والإيرانيين والمليشيات الطائفية والإثنية والمافيات.
قد يتساءل بعضهم: ألم يكن من الأشرف للأسد لو أنه تنازل لشعبه قليلاً، بدل هذا الحال البائس الذي انتهى إليه وانتهت إليه بلاده؟ من أسفٍ، يفضّل الأسد، وغيره من طغاة العرب، أن يكونوا بيادق وضيعة في أيدي قوى أجنبية على أن يعطوا اعتباراً لشعوبهم. إنهم لا يرون فينا إلا متاعاً حقيراً لا يستحق الاحترام ولا المبالاة. ولكن، ينسى هؤلاء أن من احتقر ذاته وأهله وقومه، وما بين يديه وما عنده، لن يحترمه الخصوم، وسيعاملونه بما يستحق وما هو له أهل. هذا ما يلقاه الأسد اليوم، إذ يخوض المتنافسون المتصارعون على أرض سورية المفاوضات لتقاسم تركتها في جنيف وأستانة وسوتشي وجنيف وإسطنبول وطهران ونيويورك، لا يأبهون له، ولا يلقون بالاً لتصريحات مسؤولي نظامه.
في الذكرى العاشرة للثورة السورية، يتضح حجم المأساة البشرية الهائلة لإجرام النظام وخبثه ونذالته. حسب تقرير للمنظمة الأممية “يونيسف”، صادر عام 2019، فإن 12 مليون سوري من أصل 19 مليون مواطن بحاجة إلى مساعدات. بين هؤلاء خمسة ملايين طفل. ويبلغ عدد النازحين داخل سورية أكثر من ستة ملايين إنسان، أما اللاجئون خارجها فيقاربون سبعة ملايين شخص. وفي تقرير آخر للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وصل عدد اللاجئين السوريين، حتى يونيو/ حزيران 2020، إلى 6.6 ملايين شخص. أما النازحون داخلياً، فقد وصل عددهم إلى 6.1 ملايين شخص. وفي تقرير ثالث لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، كان 13.4 مليون سوري بحاجة إلى مساعدات إنسانية عام 2020، في حين تصل أعداد ذوي الإعاقة إلى 3.34 ملايين شخص. أما أعداد ضحايا الصراع في سورية، فإن بعض المصادر تقدرّها بحوالي 400 ألف قتيل، في حين أن أعداد المصابين تجاوزت المليونين. الكارثة، أن هناك من يعتبر الأرقام الأخيرة ضئيلة جداً أمام الأرقام الحقيقية.
كل ما سبق، وعلى الرغم من مأساويته، عاجز عن اختزال الوضع الكارثي في سورية. هناك القطاع الصحي المنهار تماماً، والنظام التعليمي المتهالك، وهناك تمزّق في النسيج الوطني، وتفسّخ اجتماعي وطائفي وإثني، وهناك قرابة 130 ألف معتقل في سجون النظام، منهم 85% قيد الإخفاء القسري، حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان. وفوق هذا وذاك، استغلت إسرائيل انشغال سورية بثكل أبنائها ووأد نفسها، فضمّت إليها الجولان، بمباركة أميركية عام 2018، وهي تشن ضربات جوية وصاروخية بشكل متواصل داخل أراضيها، من دون أن تخشى ردّاً من النظام، ولا من إيران وحزب الله المُسْتَهْدَفَيْنِ، غالباً، في تلك الغارات. أما ثالثة الأثافي، فوقوف روسيا على الحياد متفرّجة وإسرائيل تصول وتجول في الأجواء السورية، على الرغم من أن قواتها هناك تملك منظومات الدفاع الجوي أس – 300 وأس – 400 القادرة على ردع المقاتلات الإسرائيلية لو أرادت. المفارقة في كل ما سبق أن ثمَّة من لا يزال يتحدث عن أضلاع حلف الممانعة، وهم يتلقون الصفعات واحدة تلو الأخرى، في حين يتواطأ من يزعمون أنه ظهيره، أي روسيا، في ذلك، على الأقل بدورها السلبي.
سورية الممزّقة أصبحت مطية و”ملطشة” حتى لمن يصفهم النظام بالحلفاء. نحن نعلم أن “الظهير” الروسي يتفنّن في إذلال الأسد، ويكفي أن نذكر هنا كيف يتحدّث المسؤولون الروس عنه باستخفاف، وكيف يعاملونه باحتقار، بل وكيف أنهم استمالوا وحداتٍ عسكرية سورية وأمنية تعمل بإمرتهم لا بإمرته. الشيء نفسه يفعله الإيرانيون، وحتى حزب الله الذي كان يوماً يدين ببعض الولاء للنظام السوري، واليوم أصبح الأخير مرتهنا له إلى حد كبير.
كل هذه الإهانات يتجرّعها الأسد ونظامه وشبيحته يومياً، لأنهم لم يستسيغوا تقديم تنازلاتٍ مشروعةٍ لشعبهم ولمصلحة بلادهم، فكان أن ضاعت سورية، وتحوّل نظام الأسد إلى وكيل تافه لشركاء متشاكسين، وخصوم متنافسين. الأدهى أن السيناريو السوري قابل للتكرار في غير بلد عربي، وبعد ذلك يأتيك من يشكّك في شرعية الثورات، وكأن قدر شعوبنا أن تبقى رهائن للتخلف والفشل والقمع والفقر والفساد والقهر والذل، وفوق ذلك لأنظمةٍ مستعدّة لبيع كل شيء من أجل بقائها، ولو كوكلاء وضيعين عند الأعداء! لو لم تكن هذه هي طبيعة هذه الأنظمة المجرمة لما وصلنا إلى هنا، ولما كنَّا نسير في طريق ثوراتٍ قادمة، عاجلاً أم آجلاً، فبقاء الحال من المُحال.
المصدر: العربي الجديد