أنا يا عصفورة الشجن

حسن النيفي

يذهب معظم نقاد الشعر في العصر الحديث إلى تفسير ظاهرة الغموض في النصوص الشعرية، إلى أنها تجسيد أو انعكاس لتعقيدات العصر، كما أنها تترجم حال الشاعر حين تشتبك في ذاته الهموم والمواجع التي تُغرق روحه بالمتناقضات التي لا تجد تجسيدا لها، سوى بالنصوص التي تحمل الكثير من الغموض الذي يصل إلى درجة الإبهام أحياناً.

فظاهرة الغموض، وفقاً لبعض النقاد، هي سمة من سمات الشعر الحديث الذي لم يقف أمام مظاهر الحياة ( ليحصيها)، بل ليتغلغل إلى أعماقها ويلمس بواطنها من الداخل.

لعله من الصحيح أن ظاهرة الغموض لم تكن محطّ اهتمام النقد الحديث فحسب، بل هي ظاهرة حفل بها النقد القديم أيضاً، وخاصة لدى نقاد القرن الرابع الهجري، إذ لا يمكن تجاهل السجالات النقدية آنذاك، التي واكبت سطوع نجم أبي تمام ( حبيب بن أوس – ت 845 م) بين رافضٍ لشعره، متّهماً إياه بالخروج عن ( عمود الشعر)، وبين مؤيّدٍ لهذا الضرب الجديد من فن القول، إلّا أن ثمة فروقات هامة بين حضور الغموض الشعري في النقد القديم، وحضوره لدى نقاد الحداثة الشعرية الذين ربطوا غموض الشعر بالفلسفات المعاصرة، كما ذهب بعضهم إلى ربط الغموض بعمق الرؤية الشعرية لدى المبدع، الأمر الذي أوهم الكثيرين أن الإبداع الحقيقي هو محايث دائماً للغموض، فيما ذهب آخرون – بناء على هذه النظرة – إلى تجريد النصوص ذات المنحى الواضح من أي سمة إبداعية، واعتبارها ضرباً من القول المباشر، ولعل هذا ما فتح الباب واسعاً أمام الكثير من المواهب غير الناضجة، إلى التلطّي خلف العبارات الغامضة، توهّماً بأنها سوف توحي للقارىء بعميق المعاني، وذلك دون أدنى تمييز بين الغموض الذي ينطوي على غنى معرفي وعمق إبداعي، وبين الهلوسات والعبارات التي تلتحف بالمجاز الأجوف.

ثمة تجارب إبداعية كثيرة، تكاد تكون مكتنزةً بالمشاعر المتوهّجة، والأفكار العميقة، إلّا أنها غاية في الوضوح والشفافية، ولنا أن نشير بإيجاز شديد، إلى قصيدة هي غاية في الشهرة والانتشار، تلك القصيدة التي تُنسب إلى منصور الرحباني(1925 – 2009 )، وأطربت بها السيدة فيروز أسماع الملايين:

أنا يا عصفورة الشجن مثـــــــــل عينيك بلا وطن

بي كمــــــــــــــا بالطفل تسرقه – أول الليل يد الوسن

واغتراب بي وبي فرحٌ – كارتحـــــــال البحر بالسفن

أنا لا أرضٌ ولا سكنٌ – أنا عينـــــــــــــاك هما سكني

راجـــــع من صوب أغنية – يا زمانًا ضاع في الزمن

صوتها يبكي فأحـــــــمله – بين زهر الصمت والوهن

من حدود الأمس يا حلمًا – زارني طيرًا على غصن

أيُّ وهمٍ أنت عشتُ به – كنتَ في البــــــــالِ ولم تكن

فهذه القصيدة، على الرغم من وضوحها المباشر، وسلاسة وعذوبة لغتها التي تُمكِّن القارىء العادي أو البسيط من فهمها والتفاعل معها، ونصاعة وجلاء صورها، إلّا أنها تكاد تكتنز بالمشاعر الدفينة، وربما الموجعة، ولعل البيت الأخير منها ينطوي – شعرياً – على فكرة هي غاية في التعقيد ( جدلية الحضور والخفاء)، فضلاً عن أن القصيدة برمّتها هي قطعة وجدانية متوهّجة، فتارة تلامس إحساس القارىء، وتارة تستفزّ أفكاره، ولا حاجة للتأكيد على أن القصيدة في الأصل إنما تتقوّم على إحساس حادٍّ بالاغتراب. ولو نقّبنا في النصوص الشعرية ( القديمة والحديثة) فلا شك أننا سنقف على أمثلة عديدة من هذا النموذج الإبداعي.

ومما عزّز الاهتمام بظاهرة الغموض في الدرس النقدي الحديث، هو النظريات العديدة في مجال العلوم النفسية، وفي مقدمتها المُنتَج الفرويدي، إذ أصبح علم النفس متكأً للنقاد، بل حقلاً معرفياً خصباً، غالباً ما يستعينون بمقولاته ومفاهيمه ( اللاشعور – عقدة أوديب – عقدة ألكترا – الليبدو – إلخ ) لتفسير النصوص أو البحث في ما تضمره الأعمال الأدبية من أفكار، وفيما تحمله الصور والمجازات من إحالات نفسية ووجدانية، وقد برع بعض النقاد في التعاطي مع منهج التحليل النفسي في مقاربة العديد من الأعمال الأدبية، ولعلّ الشاعر العباسي( أبو نواس – الحسن بن هانىء – 765 م – 814 م) كان موضع اهتمام أكثر من ناقد، إذ وجد فيه عباس محمود العقاد( 1889 – 1964 ) ( شاعراً نرجسياً عاشقاً لذاته، بينما وجده الناقد محمد النويهي( 1917 – 1980 ) ( شاعراً مسكوناً بعقدة أوديب) ولعل الناقد والمفكر جورج طرابيشي(1939 – 2016 ) يُعدّ من أبرز النقاد الذين قاربوا أعمالاً قصصية وروائية عديدة، اعتماداً على هذا المنهج، كما في دراسته ( عقدة أوديب في الرواية العربية.)

اللافت للانتباه أن فرويد(1865 – 1939 ) الذي قارب أكثر من عمل أدبي وفني، وأخضعه لمشرطه النفسي، كرواية (الجريمة والعقاب) لدوستيوفسكي، وكذلك عدد من لوحات ليوناردو دافنشي، وأكتشف أن أصحاب هذه الأعمال يعانون من كبت جنسي، إلّا أنه على الرغم من ذلك، لم يدّع أن ما يقوم به من تشريح نفسي هو عمل نقدي أو أدبي خالص، لافتقاره إلى الرؤية الأدبية ذات الصلة باللغة والبلاغة وجوانب فنية أخرى، بل ظل صنيعه مؤطّراً ضمن جهده الطبي الذي لم يعد محصوراً بالجانب العضوي، بل وجد له آفاقاً أخرى في النفس البشرية. ولعل الحرص الذي أبداه فرويد على ألّا يكون التحليل النفسي بديلاً عن النقد الأدبي أو لاغياً له، يؤكّد لنا أن ثمّة جانباً في أيّ مُنتَجٍ إبداعي، هو ( أدبية النص) التي إنْ فُقِدتْ أو توارتْ، فقد النص خصوصيته النوعية، وبات خارج نطاق الأدب، كما يؤكد أيضاً، أن علم النفس – كحقل معرفي – مثله كمثل أي حقل معرفي آخر، يمكن أن يسهم في تعزيز قدرات الناقد المعرفية، ويجعله أكثر إحاطة وشمولية في الرؤية والدراسة، كما يزوّده بأدوات جبّارة تسعفه في سبر واستكناه الحوامل الجوّانية للنصوص، فضلاً عن استكشاف الأثر البارز لللاشعور في محتوى الصور الفنية. لكن ما لا يمكن الركون إليه، حين يتحوّل الدارس أو الناقد بمشرطه النفسي، ويمضي بجزّ أشلاء النص الأدبي وكأنه في مشرحة طبّية، ويغريه الاسترسال في الحديث عن مكبوتات صاحب النص وتمحيص لاشعوره والتنقيب في عقده، ناسيا أو متناسياً أثر الجانب النفسي على الجوانب الأدبية والجمالية التي هي جوهر الأدب.

ما من شك أن الإبداع لا يحتمل التأطيرات النظرية الصارمة، بل غالباً ما تتجاوز دوائره المنداحة تخومها المعهودة، وكذلك النقد، فهو في شطر منه، نشاط إبداعي، فضلاً عن كونه جهداً علمياً رصيناً، فهو يغتني ويزدهر بغزارة المعرفة وعمق البصيرة ونفاذ الرؤيا، وبالتالي هو حقل معرفي، يزداد خصباً كلما تعددت روافده المعرفية الأخرى، ولكنّه لا يقبل التماهي الكلّي أو الركون المطلق لرافدٍ محدّد.

المصدر: تلفزيون سوريا

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى