يلتقي موقع (مصير) مع المنسق العام لتجمع مصير الأخ أيمن أبو هاشم ضمن جولة واسعة حول العديد من المسائل التي تهم الواقع السوري والفلسطيني، وفي سياق حالة مأزومة تعيشها المسألتين السورية والفلسطينية، ليتم التعريج معه على
تجربته السياسية في الثورتين الفلسطينية والسورية، وأيضًا تجربته الحالية كمنسق عام لتجمع مصير، ومن ثم تقييمه لمسارات التغيير التي أطلقتها الثورات في العالم العربي، وصولاً إلى ماهية المطالبة بالحرية، وهل مازالت على أجندة الشعوب العربية؟ بالإضافة إلى المراجعات النقدية التي تناولت أسباب انحراف الثورة السورية عن بوصلتها، وقضية أسلمة وعسكرة وتطييف الثورة وأسبابها، بالإضافة إلى الكثير من المسائل وخاصة الرؤية الفكرية التي يتبناها (تجمع مصير)، وفي أساسها جدلية التحرر بين الثورات العربية، التي يقال إنها تنتمي إلى أفكار الزمن القومي وأحلامه، ورده من هذه الزاوية؟ وبالطبع انتقاله معنا إلى العديد من المحاور التي تشغل بال الساحتين السورية والفلسطينية.
حيث قلنا في السؤال الأول:
بحكم تجربتك السياسية في الثورتين الفلسطينية والسورية، والحالية كمنسق عام لتجمع مصير، ما هو تقييمك لمسارات التغيير التي أطلقتها الثورات في العالم العربي، وهل المطالبة بالحرية لازالت على أجندة الشعوب العربية؟
ج1: نحن نعايش زمن التحولات الكبرى في الواقع العربي، ربما هي الأهم والأخطر خلال القرن الماضي، فلم يسبق أن قامت ثورات وانتفاضات شعبية، كما رأينا منذ بدايات الربيع العربي، ترفع مطالب الحرية والتغيير السياسي في الدول العربية، وهذا بحد ذاته تعبير عميق عن وعي الشعوب العربية لأسباب وعوامل تأخرها وإفقارها وبؤسها، ولذلك كانت مطالب الخلاص من أنظمة الاستبداد وتحرير مجتمعاتنا من سطوة وأبدية تلك الأنظمة، هي جوهر خطاب وشعارات ثورات الحرية والكرامة. أما المشكلات والتحديات الكبيرة التي واجهت مسارات التغيير، وما شهدناه من إخفاق ونكوص واستعصاء في تلك المسارات، إنما يجيز لنا القول في ضوء المحصلات غير النهائية: أن حجم قوة الثورات المضادة وتحالفات أطرافها، كانت فعلياً العقبة الكأداء التي تم الاستهانة أو التقليل من دورها في إضعاف واستنزاف مشاريع الثورات. وهنا علينا أن نعي أيضاً حجم الأخطاء والانتكاسات التي وقعت فيها العديد من الثورات، بسبب القصور الواضح في تنظيم وتحصين القوى الشعبية التي أطلقت الثورات، بل وانشغال النخب والقوى السياسية التي كان عليها القيام بهذه المهمة، ونزعتها السلطوية كي تكون البديل عن الأنظمة المستبدة بعد سقوطها، بينما كان المطلوب منها أن تنخرط في عملية تجسيد وعي التحرر والتغيير في أطر ثورية منظمة، لديها استراتيجية وبرامج واضحة في مواجهة قوى الاستبداد، وحماية الطابع الوطني للثورات من التدخلات الخارجية. فقد رأينا في مصر كيف أدى استعجال الإخوان المسلمين للوصول إلى السلطة، إلى نتائج كارثية على ثورة يناير المجيدة، نتيجة قصور إدراكهم لأهمية المشاركة السياسية مع كافة القوى الثورية، والعمل على تفكيك الدولة العميقة كمهمة أولية، وليس القفز عنها لتولي سلطة تسيطر الدولة العميقة على تلابيبها، وهذا أدى كما رأينا بعد انقلاب 30 يونيو 2013، ليس فقط إلى إقصاء الإخوان بطريقة دموية فحسب، بل وإلى خنق وتفتيت القوى الشبابية والمدنية التي كانت حامل ثورة يناير وإزاحتها بوسائل مختلفة. هذا على سبيل المثال كان درساً لحركة النهضة الإخوانية في تونس، التي تراجعت خطوات إلى الوراء في الانتخابات الرئاسية الثانية، بينما كان لغياب استراتيجيات ثورية لحماية الثورات وطنياً كما حصل في ليبيا وسوريا واليمن، أن أصبحت الثورات في هذه الدول ساحات مفتوحة للتدخلات الخارجية، لاسيما أن قوى المعارضة السياسية في تلك الدول، كانت تضع سلالها في أقفاص الدول التي راهنت على صداقتها ودعمها، وبذلك لم تقدم سرديات حول ثورات وطنية استقلالية، بقدر ما خدمت سرديات الأنظمة لتشويه الثورات والنيل من مضامينها التحررية، وبعد ما فعلته تلك التدخلات التي استفاد منها النظام السوري أكثر من غيره، لتغطية بيعه وتفريطه بسيادة سورية لحلفائه الروس والإيرانيين، تنامى انطباع لدى أوساط شعبية واسعة في العالم العربي، أن كلاً من الأنظمة ومعارضاتها ساهما في تلك التدخلات لتخريب الدول العربية، وتلك أكبر سردية أضرت بالثورات، وغطت في أحيان كثيرة على الجرائم الفظيعة التي تم ارتكابها من قبل الأنظمة وحلفائها بحق أبناء تلك الثورات وبيئاتها الشعبية.
كل هذه المحصلات التي تحمل الكثير من صور الخذلان، قياساً بحجم التضحيات الغزيرة للشعوب، والمثال السوري أكبر شاهد على تلك المفارقة المحزنة، ليست محصلات نهائية، لكن يوجد تيار نخبوي ينطلق منها لنعي مسارات التغيير العربية من منظور سوداوي. بل أزعم دون استخفاف بما آل إليه الواقع العربي في السنوات الأخيرة من ضعف واستباحة وقهر، أنه وبالمقابل ثمة وعي وإدراك مجتمعي واسع من وحي المعاناة والمآسي، باستحالة انتقال الشعوب العربية إلى فضاءات الحرية والتغيير، طالما أن مافيات الحكم والإجرام والقمع تقبض على أعناق الشعوب، وباستحالة تحقيق دولة الحريات والمواطنة والديمقراطية في بلادنا العربية، طالما أن هذه الأنظمة التسلطية أدوات بيد قوى النهب والاحتلال والهيمنة. وفي الوقت الذي كادت تضيع بوصلة الثورات في زحمة الانكسارات والتراجعات، وتمادي قوى الثورات المضادة، ننهض اليوم على صرخات الحرية التي يطلقها الشعب السوداني، والتي تؤكد وتعزز يقيننا بأن الثورات هي قدر شعوبنا المظلومة والمنكوبة والمضطهدة، وبأن المطالب العادلة بالحرية والكرامة والعدالة، لازالت أقوى من رصاص الغدر وبراميل القتل ومسالخ الطغاة، وبأن المطروح علينا هو تصحيح مسارات الثورة والتغيير، والاستفادة من أخطائها وخطايا من تسلقوها لتجاوز محنتها الراهنة، وإعادة بث روح الصمود والتحدي، من خلال أطر وطنية صادقة ومؤتمنة على دماء وعذابات من شقوا طريقنا إلى الحرية والخلاص.
السؤال الثاني:
نلاحظ أن أكثر المراجعات النقدية التي تناولت أسباب انحراف الثورة السورية عن بوصلتها، تعتبر أن أسلمة وعسكرة وتطييف الثورة من أبرز تلك الأسباب، هل تتفق مع هذه الآراء؟
ج2: أتفق عموماً مع مثل هذه الآراء، ولكنني أرى ضرورة البحث العميق في البيئة المجتمعية والسياسية، التي كان لديها قابلية التساوق مع مشاريع ايديولوجية وعصبيات ما قبل وطنية، نتيجة القطيعة التي أحدثها طول أمد الاستبداد في سورية، مع ثقافة الحرية والمواطنة والديمقراطية. بمعنى أدق كان استغلال الدين والطوائف والمذاهب، لعبة النظام السوري المعروفة، وبدلاً من فضحها ومواجهتها بخطاب وطني ديمقراطي عقلاني، شاهدنا كيف انخرطت أيضاً قوى محسوبة على الثورة في نفس اللعبة، من خلال استغلال المظلومية التي أصابت السنّة كأغلبية في سورية، وتحويلها بوصفها الحامل الأساسي للوطنية السورية، إلى طائفة تدافع عن وجودها في مواجهة حرب النظام الشعواء وأدواته الطائفية. لكن علينا أن نكون صريحين بأن قوى الإسلام السياسي ليست وحدها المسؤولة عن تغييب المشروع الوطني تحت رايات إسلاموية عديدة، إذ أن تنحي القوى الوطنية الديمقراطية عن مسؤولياتها من جهة، وافتقار من شارك من هذه القوى في مؤسسات الثورة والمعارضة إلى ممارسة ديمقراطية حقيقية من جهة ثانية، هي أسباب يجب أن تؤخذ بعين الأهمية والاعتبار في تقييم الحالة التي وصلنا إليها. واليوم وبعد انكشاف مخاطر أسلمة مشروع الثورة وفوضى العسكرة في ظل سياسات التدجين والاحتواء، والأحقاد التي زرعها النظام بين السوريين، فإن الخيار الإنقاذي الوحيد للوطن السوري ولكل السوريين هو التلاقي على بناء مشروع وطني، وفق رؤية تؤسس لنظام سياسي ديمقراطي جديد، يحمي وحدة سوريا أرضاً وشعباً، ويكفل حقوق المواطنة المتساوية في دولة حديثة، تقوم على سيادة القانون وضمان الحريات. دون ذلك نحن نسير نحو التفكك ومزيد من استلاب القرار الوطني لصالح أجندات وسياسات إقليمية ودولية.
السؤال الثالث:
هناك من يقول إن الرؤية الفكرية التي يتبناها تجمع مصير، وفي أساسها جدلية التحرر بين الثورات العربية، تنتمي إلى أفكار الزمن القومي وأحلامه المنقضية، ما هو ردك على من ينظرون إلى مصير من هذه الزاوية؟
ج3: توجد حالة من الغبش الفكري في إسقاط فشل التجارب القومية، والأنظمة التي تاجرت بالخطاب القومي على كل رؤية أو خطاب يتلمسان جدليات التحرر في الثورات العربية، وبما أن الحقائق هي ما يجب أن نحتكم إليه في صياغة توجهاتنا ومواقفنا، فثمة مسؤولية علينا في مصير، لتوضيح ضرورات التمييز بين جدليات التحرر التي تربط الشعوب العربية، وحاجتها التاريخية إلى الخلاص من أنظمة الاستبداد، وبين الخوف المشروع من العودة إلى استلهام الخطاب القومي دون بناء دول وطنية حرة. ومن جانب آخر هناك من يخلط بين التجارب القومية السابقة، والعروبة كرابطة تاريخية وثقافية وتفاعلية تجمع الشعوب العربية، فيقوم بشيطنة العروبة بحجة الفشل القومي، وعلى هذا النحو نسمع اليوم أصواتاً تحمّل الإسلام كدين وعقيدة وفضاء ثقافي مشترك في مجتمعاتنا، وزر خطايا الإسلام السياسي، وهذه معضلات تواجهنا اليوم وتحتاج إلى ثورة فكرية بموازاة مشاريع التغيير السياسية، ويجب على كافة المنخرطين في الشأن الوطني العام، أن يساهموا في تحديد الفوارق وإزالة أوجه الالتباس، حول العديد من هذه القضايا والمواضيع المطروحة بقوة، لأنها لم تعد حكراً على الأكاديميين والمثقفين والنخب، ولأن الإجابات المطلوبة عن اسئلتها الإشكالية باتت ترتبط بمصيرنا وجوداً أو عدماً. وحين تأسس مصير قبل عامين ونيف طرحنا على أنفسنا المعنى التاريخي والسياسي من تتالي الثورات الشعبية في الدول العربية عشية اندلاع الثورة التونسية، ومعنى وحدة الخلاص التحرري لكافة أوطاننا، وقد أفضت حواراتنا وقتذاك إلى وثيقة الرؤية الفكرية والسياسية للتجمع، التي أكدت على التشابه في أوضاع وظروف البلدان العربية، وتشابه وقائع سيطرة قوى التسلط والاستبداد عليها، وكذلك تشابه مطالب الشعوب في زمن الثورات، التي ركزت على أولوية تغيير أوضاعها الداخلية المتعلقة بحرية الناس وضمان كرامتها. وكذلك الربط بين وظائف الأنظمة في حماية الكيان الصهيوني، واستحالة نيل الفلسطينيين لتحررهم الوطني من هذا الكيان دون سقوط تلك الأنظمة. لم نبتكر روابط أو جدليات من وحي التمنيات، بل من قراءة تاريخية تستند إلى ركائز ومحددات واقعية، وكنا نسمع قبل سنوات قليلة مواقف تقلل من الدور الإسرائيلي في القضية السورية، ولكن الحقائق اليوم تقول عكس ذلك، بل كان يحزننا كثيراً أن نرى حماسة بعض المعارضين لفتح قنوات اتصال مع العدو الإسرائيلي، وترويج الأوهام بأن كسب ود الإسرائيليين سيؤدي إلى الإسراع في إسقاط النظام. ورغم كل ذلك كان وعي الشعب السوري يقظاً ورافضاً لمثل هذه الأوهام ومن يقف وراءها.
نعم معاركنا ضد الاستبداد والاحتلال واحدة لأنهما من أكبر أسباب البلاء الذي نعيشه منذ عقود طويلة، وتحررنا من أنظمة الحراسة والقمع، شرط أساسي للدفاع عن قضية فلسطين، وكان المفكر الراحل سلامة كيلة أحد مؤسسي التجمع الأفصح في التعبير عن هذه الحقيقة الجدلية حين قال: ” نريد سقوط النظام الأسدي كي نحرر فلسطين ” وما يزيدنا إيماناً بهذه الفكرة، تجربتنا الخاصة في مصير، حيث نعمل معاً سوريين وفلسطينيين من أجل عدالة قضايانا، ونسعى إلى تطوير أفكارنا وأدائنا بما يؤدي إلى خلاصنا المشترك.
السؤال الرابع:
كان المأمول أن تكون الثورات العربية فرصة كبيرة لإطلاق ديناميات العمل السياسي، وتأسيس أطر سياسية جديدة ونوعية، لكن محصلات الواقع تقول عكس ذلك، أو على الأقل تضعنا أمام قوى سياسية مأزومة، كيف تقرأ مشهد التصحر السياسي في زمن الثورات إذا كنت متفقاً مع هذا التوصيف؟
ج 4: هذا السؤال يستحضر مفارقة كبيرة، فقد كانت الآمال عريضة حين انطلقت الثورات، على عودة السياسة إلى مجتمعاتنا، بعد أن كان ممنوعاً من تداولها وممارستها. وبالفعل في بدايات الربيع العربي، كانت التعبيرات السياسية للتحركات الشعبية مثيرة وذات دلالات مفصلية. لكن اللافت أن قوى المعارضة التقليدية التي أعلنت وقوفها إلى جانب الشعوب الثائرة، كانت الأكثر جهوزية بحكم تجاربها التنظيمية، لتتصدّر المشهد السياسي في عديد من دول الربيع العربي وفي مقدمتها جماعات الإخوان المسلمين، بينما كانت القوى الشبابية التي كان لها الدور الأبرز في إطلاق الثورات، تخشى أن تتلوث بالعمل السياسي، وبهذه المقولة التطهرية قيدت نفسها عن المبادرة حتى في تشكيل أطر سياسية جديدة. علماً أن الحاجة لتشكيل تلك الأطر كانت أكثر من ضرورية لسببين (الأول) لدواعي تنظيم صفوف الشباب وتثقيل دورهم السياسي في معارك مواجهة الأنظمة، وإكسابهم تجارب سياسية تمكنهم من قيادة مشاريع الثورات واستحقاقات المراحل الانتقالية، أما السبب (الثاني) فهو منع القوى السياسية التقليدية من احتكار العمل السياسي، وعدم ترك الساحات مفتوحة لها لتولي زمام القيادة لوحدها. وها نحن الآن وفي ظل التحديات الكبرى التي تواجه مسارات التغيير، نستشعر النتائج السلبية الناجمة عن عزوف الشباب عن العمل السياسي المنظم، وتواري أدوارهم عن المشهد السياسي، الذي احتكرته قوى ونخب لديها قابلية المساومة على الثورات مقابل نزعاتها السلطوية التي ورثتها عن الأنظمة.
أنا أشعر بأن هناك غبن كبير بحق الثورة السورية وتضحياتها العظيمة، وقد سيطرت نخبة على مؤسسات المعارضة قدمت أداءً سياسيًا بائسًا، وأعاقت توليد حراك سياسي نوعي يحمل مهام الثورة وأهدافها، بل إنها ارتهنت للمحاور والدول على حساب استقلالية القرار الوطني، والمؤلم هو التردد والتأخر في بناء بدائل سياسية عنها، تعبر عن مطالب السوريين بالحرية، وتتصدى لمعالجة مشكلاتهم والتخفيف من معاناتهم. كل هذا لا يعني من وجهة نظري أننا إزاء تصحر سياسي مطلق، فبعد أن كسر السوريون جدار الصمت، وأتاحت لهم الثورة التعبير عن مواقفهم وآرائهم السياسية بأشكال مختلفة، لم يعد ممكناً عودة الناس إلى زمن ما قبل الثورة. وإذا جاز لنا الوصف فإن التصحر السياسي يطال الأحزاب والقوى والتيارات السياسية، التي أصيب أغلبها بالجمود والانكماش، وهي غير قادرة على التأثير بالمشهد السياسي، وقد أصبحت الدول الخارجية هي صاحبة اليد الطولى فيه، ولذلك أعتقد بأن القوى السياسية السائدة لديها أزمة في بنيتها الداخلية وفي ثقافتها السياسية، وهذا ما جعلها تعوّل على تعويذة المنقذ الخارجي، وليس على الفعل الذاتي المنظم لاستنهاض إرادة السوريين، وتعزيز قدراتهم بما يخدم معركتنا في مواجهة الاستبداد وهزيمته.
السؤال الخامس:
دائماً تركّز القوى السياسية في أدبياتها ومنها مصير، على ضرورة مشاركة المرأة والشباب في العمل الوطني والسياسي، فيما نرى ابتعاداً واضحاً لدى هاتين الشريحتين عن الانخراط في الأحزاب والتيارات السياسية، في مقابل التوجه إلى النشاط المدني بعناوينه المتعددة، من يتحمل مسؤولية هذه الظاهرة برأيك؟
ج5 : تحدثتُ خلال إجابتي عن السؤال السابق، عن أسباب وأضرار عزوف الشباب عن العمل السياسي، وهذا بدوره ينطبق على واقع المرأة أيضاً، لكن سؤالكَ الحالي يعطيني فرصة أكبر لتسليط الضوء على أسباب هذه الظاهرة، ومن أهمها باعتقادي، توجهات الدول الداعمة والممولة لمنظمات المجتمع المدني، والتي لعبت دوراً ملموساً في إبعاد الناشطات والنشطاء عن ممارسة العمل السياسي، وكانت الدول المانحة من خلال تلك المنظمات تغذي ثقافة الحياد في أوساط العاملين والمتطوعين فيها، مع أن الثورات تقوم على النقيض من هذه الثقافة، لأن الأخيرة تقوم على حرية التعبير والضمير ووضوح الموقف من القضايا السياسية، عدا عن فرض برامج وخطط ومشاريع لا تلبي في كثير من الأحيان احتياجات المجتمعات المحلية، بقدر ما تؤدي إلى إحداث نخبة بيروقراطية منفصلة في أسلوب عيشها وأنفاقها واهتماماتها، عن المجتمعات التي يفترض أنها تعمل لتنميتها ومعالجة مشكلاتها. وكي لا يفهم البعض من كلامي أنني ضد وجود تلك المنظمات ودورها المدني، أوضح أنني مقتنع بضرورة تطوير النشاط المدني ودوره في تنمية ودمقرطة مجتمعاتنا، لكنني بالمقابل ضد استخدام منظماته ومؤسساته من قبل أجندات غير مكترثة بالتغيير الحقيقي الذي ننشده، ولها أهداف سياسية أخرى تحاول تمريرها تحت غطاء الحياد المزعوم. لاسيما أن تفشي حالات الفساد في العديد من تلك المنظمات، واستغلال الظروف المعيشية الصعبة، تثير بواعث الريبة من محاولات إفساد ممنهجة تطال نشطاء كان لهم دور أساسي في حراك الثورات.
هذه الظاهرة وانعكاساتها على الشباب والمرأة على وجه التحديد، لا تحجب ظاهرة مقابلة لها، وهي الشعاراتية في خطاب القوى السياسية الخاص بهاتين الشريحتين، فما زلنا ونحن من هذه القوى لا نشكل أطر جاذبة لاستقطاب وتأطير فئات واسعة من الشباب والنساء. وهذا مما يشغلني كثيراً كأحد المعنيين بالنشاط السياسي، وأعلم كغيري الظروف والتعقيدات، التي تحد من حرية التحرك في الداخل السوري وفي دول اللجوء، ولكن أصبحت أكثر قناعة أن خلق مناخات التفاعل السياسي مع مختلف فئات المجتمع، لا يمكن الوصول إليه من خلال آليات ووسائل التأطير والتنظير السياسي التقليدية، فالناس تواجه أزمات وهموم معيشية قاسية، وينازعها شعور خانق باليأس والإحباط من الأوضاع القائمة، وهناك حالة من فقدان الثقة بكل شيء، ولذلك يتوجب التفكير في اجتراح ديناميات فاعلة ومؤثرة، تحاكي قضايا وهموم الناس، وتشجع على روح التضامن الجماعي في التعامل مع حاجات الناس ومشكلاتها. واللجوء إلى وسائل غير مباشرة يمكن طرح القضايا السياسية، وبناء وعي سياسي يسهم في التغيير على كافة المستويات. كل ذلك يتوقف أيضاً على توفر صفات معينة فيمن وضعوا على عاتقهم القيام بأدوار وطنية وسياسية، بمنأى وبالضد من لوثة الفساد والتلاعب والتبعية التي أصابت العديد من الأطر والتجارب السياسية، وبسببها تشكّل انطباع عام سلبي عن السياسية والسياسيين، وبالتالي نحن بصدد معركة تغيير شاقة وطويلة، ويجب امتلاكنا الجَلد والنفس الطويل والحكمة في التعامل مع تحديات ومشكلات واقع شديد التحول والاضطراب والأزمات.
السؤال السادس:
بعد متاجرة النظامين السوري والإيراني بالقضية الفلسطينية، ودورهما في استخدام العديد من التنظيمات والأحزاب الفلسطينية والعربية التي ترفع شعارات المقاومة، كأدوات في يد تلك الأنظمة المستبدة، كيف يمكن التعاطي مع مسألة المقاومة بعد كل هذا الالتباس والتشويش؟
ج6 : هذا السؤال يثير أيضاً ما ألحقه منطق الاستخدام والمتاجرة، من قبل أنظمة الاستبداد والقوى التي تدور في فلكها، من تشويه وإساءة بحق قضايا وطنية وإنسانية عادلة ونبيلة، ومن أبرز هذه القضايا فكرة حق البشر بمقاومة كافة أشكال الظلم والاستغلال، وكل الثورات القديمة والمعاصرة هي من تجليّات وتعبيرات الفعل الإنساني المقاوم، وليس من حق أحد أن يختزل هذا المعنى الثوري للمقاومة، أو أن يمحضه مدلولاً سلبياً لمجرد ادعاء أنظمة وميليشيات متورطة في الإجرام والقتل “بأنها قوى مقاومة وتقف مع الشعب الفلسطيني” هذا برأيي محض هراء أصبح مكشوفاً، فما فعله النظام السوري وحليفه الإيراني ومعهما فصائل فلسطينية تدّعي أنها في خندق مقاومة العدو الإسرائيلي، من قتل وإجرام بحق الشعبين الفلسطيني والسوري خلال الثورة، هي أفعال وسلوكيات تنتمي إلى فكر معادي تماماً لروح وثقافة المقاومة، ومن الخطأ الكبير الربط بين هؤلاء القتلة وفكرة المقاومة التي ينتحلون صفتها، لتغطية جرائمهم وأدوارهم القذرة. لذلك يجب التمييز دائماً بين المقاومين الأحرار والصادقين من أجل قضاياهم العادلة، وتجار ومستغلي تلك القضايا لمصالح وأهداف غير مشروعة. وأكثر من فضح هذا الفارق هي الثورة السورية، التي أسقطت الأقنعة عن العديد من القوى والتيارات العربية التي كانت تغطي تبعيتها لدول ومشاريع خارجية، تحت شعارات المقاومة وفلسطين، وفي مقدمتها حزب الله وفصائل فلسطينية وتيارات قومية ويسارية عديدة.
السؤال السابع:
ما هي قراءتك للمشهد السياسي الراهن في سورية، في ضوء الإعلان عن الانسحاب الأمريكي، وتأثير الخيارات السياسية المطروحة على الثورة السورية ومستقبل الوطن السوري برمته؟
ج7: نحن في مصير ننطلق من ثابتين أساسيين، في النظر لأي حل سياسي في سوريا، أولهما: ضمان وحدة سوريا أرضاً وشعباً بوصفها وطناً لكل السوريين، وثانيهما: حل سياسي يؤدي إلى إنهاء النظام المجرم وبناء دولة وطنية ديمقراطية حديثة. ونرى بأن السنوات الماضية أثبتت بكل حصادها المرير، فداحة السياسيات والخيارات المطروحة، لأنها تعاكس وتناقض مصلحة الشعب السوري، وتصب في خدمة مشاريع غير وطنية. وكان جلياً طيلة السنوات الثماني الماضية، غياب إرادة دولية تلتزم بمقررات المرجعية الدولية، التي نصت على تحقيق الانتقال السياسي وفق بيان جنيف1 والقرارات الدولية الأخرى ذات الصلة. وهذه الحقائق معروفة اليوم للجميع، لكن ما هو أوضح منها أيضاً تحوّل سورية إلى مناطق نفوذ بين الأطراف المتدخلة فيها. وحتى الإعلان عن الانسحاب الأمريكي، لا توجد معطيات حقيقية على الأرض يمكن أن تضع هذا الإعلان، في سياق الخروج الأمريكي من لعبة النفوذ والمصالح في سوريا وعليها، بل يبدو أنه تكتيك أميركي جديد لتحقيق أهدافهم الأساسية وهي الاستمرار في استنزاف كافة الأطراف المتدخلة، وإنهاك السوريين إلى درجة القبول بأسوأ التوافقات والمساومات الدولية والإقليمية. وعلينا أن نلاحظ تأثير الإعلان الأمريكي بالانسحاب، على تعميق التناقضات بين الدول الضامنة لمسار أستانة (روسيا – تركيا – إيران) والخلافات فيما بينها على من سيملأ الفراغ في شرق سورية، وما هو مصير منطقة خفض التصعيد في الشمال أيضاً. إذاّ هذه الوقائع تشير إلى خلط كبير في الأوراق، وكافة الأطراف المتدخلة باستثناء الأمريكان وإسرائيل، ليسوا في وضع مريح، ويحاولون تجنب انهيار التفاهمات السابقة فيما بينهم، فروسيا تدرك أن مساعيها لإعادة تأهيل الأسد تصطدم بجدار الرفض الغربي لإعادة الإعمار، وبينما تتفق مع الإسرائيليين والأمريكان على إضعاف النفوذ الإيراني، غير أنها بنفس الوقت تخشى أن تدخل في صراع مع الميليشيات الإيرانية، مما قد يؤدي إلى إرباك نفوذها في سورية، ويصب بالنهاية في مصلحة أمريكا على حسابها. كما أن الوجود الإيراني الذي تغلغل في الأراضي السورية، لن يقبل بخروجه منها ولا بأي حل سياسي يؤدي إلى ذلك، ولدى الإيرانيين أوراق في العراق ولبنان تقوي من دورهم في سورية، لكن بالمقابل هناك مخاوف إيرانية جديّة من تأثير العقوبات الخارجية على وضعها الداخلي، وخسارة نفوذها في المنطقة العربية في حال أدت العقوبات إلى اختناق النظام وخروج الشعب بثورة عارمة عليه. أما تركيا التي أصبحت الضامن الوحيد للسوريين في المناطق الخارجة عن قبضة النظام، كي لا يستعيد النظام السيطرة على المناطق المحررة كما حدث في المناطق الأخرى، فهي تسعى كي تملأ فراغ الانسحاب الأمريكي بدواعي واعتبارات تتعلق بأمنها القومي، لكن إذن الدخول والانتشار ليس بيدها، بل أن الأمريكان والروس يناوران كلٍ بطريقته في وضع العقبات أمامها، تارةً بالحديث عن منطقة آمنة وتارة بطرح المنطقة الأمنية. لذلك كل التوقعات السياسية بناءً على هذه المعطيات، تشير إلى انسداد أفق العملية السياسية حالياً وفي المدى القريب، وقد تذهب الأمور إلى تفجر صراع عربي كردي في شرق سوريا، بعد أن أصبح ظهر “قوات قسد” مكشوفاً إلى الحائط بسبب التخلي الأمريكي عن حمايتها، وربما باختراع صيغة توافقية لإدارة المنطقة تحفظ بقاء ورقة ال pyd أداة بيد أمريكا. بجميع الأحوال الغائب الوحيد في هذه المعادلات المتأرجحة هم السوريون أصحاب القضية أنفسهم، وهذا هو الموضوع الأخطر، لأن بقاء النظام كأداة وظيفية لخدمة الدول التي ترعاه مقابل تبعيته السافرة لها، وعجز المعارضة عن تمثّل وتمثيل المشروع الوطني، وفشلها في التعبير عن الإرادة الحرة للسوريين، ما يضاعف من محنة الثورة السورية، ومن تباعد المسافة بين حق السوريين بالخلاص والتغيير، وبين التحكم بمصيرهم من قبل الأطراف الخارجية. وأذكّر هنا بأن استمرار التأخر في ولادة حركة وطنية سورية لديها مشروع وطني إنقاذي واستقلالية في التعبير عن إرادة السوريين، سيترك الأبواب مشرعة على أسوأ الخيارات الكارثية، التي ستزيد من هلاك الوطن السوري ومعاناة أهله. وأعتقد بأن المخاطر المستقبلية على سورية، لا تنحصر فقط في إعادة تأهيل النظام كما تسعى إليه روسيا وإيران وغيرهما من الدول، وإنما كذلك في تغيير التركيبة الديمغرافية للشعب السوري، توطئةً لتمزيق الهوية الوطنية السورية، وإدخال البلد في حقبة طويلة من المحاصصة الدولية والإقليمية، على النفوذ والموارد والأرض السورية. فما جرى من عمليات تهجير قسري استهدفت البيئات الثائرة على النظام، يصب بالدرجة الأولى في مصلحة إيران، التي لديها مشروع خبيث للتمدد والسيطرة الدائمة داخل سورية، ولا شك أن ما جرى أيضاً يصب في خدمة الأهداف الإسرائيلية، عبر تحويل سورية إلى بلد مُحطم ومستنزف، لا يشكل في المستقبل خطراً على أمن الكيان الصهيوني، حتى في حال سقط أو تغير النظام الذي شكّل بقاءه ضمانة لحماية حدود ومصالح الكيان. وأختم جوابي، أن كل هذه المخاطر والتحديات المصيرية التي تستهدف سورية في هويتها ووجودها، يجب أن تكون مواجهتها على جدول أعمال كل السوريين الوطنيين، وعلى عاتق كل الأحرار في هذه المنطقة، لأن قتل روح الثورة في سورية وإجهاض تطلعات السوريين، سيكون له تداعيات خطيرة على شعوب المنطقة كافة.
السؤال الثامن:
هناك وقائع كبيرة تشير إلى صفقة القرن التي يجري الحديث عنها، وثمة حقائق على الأرض تؤكد خطورتها على القضية الفلسطينية خصوصاً وعلى المنطقة العربية عموماً، هل تعتقدون أن مواجهة مثل هذه الصفقة ممكناً في ضوء حالة الضعف والتفكك في الواقعين الفلسطيني والعربي؟
ج8: يبدو للعيان في ضوء السياسيات الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية في عهد ترامب، أن صفقة القرن تتحدث عن نفسها بخطوات عملية قبل أن يتم الإفصاح عن أهدافها بصورة علنية. فمن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، إلى خطوات شطب قضية اللاجئين من خلال مساعي الولايات المتحدة لإنهاء دور الأونروا وتجفيف مصادر تمويلها، إلى تصعيد برامج وخطط الاستيطان والتهويد في القدس والضفة الغربية، وتقويض مشروع إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، إلى استغلال الانقسام الفلسطيني بين فتح وحماس، لفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، وتحويل الأرض الفلسطينية إلى كانتونات لكل منها حكم ذاتي منفصل عن الآخر. كل هذه الحقائق والوقائع التي تغطي المشهد الفلسطيني، تؤكد أكثر مما توحي بالعمل الحثيث أمريكياً وإسرائيلياً على تصفية القضية الفلسطينية من خلال تنفيذ الشق الفلسطيني من صفقة القرن، لأن هناك على ما يبدو شق عربي في هذه الصفقة، يجري العمل عليه من خلال فتح أبواب التطبيع بين الأنظمة العربية وإسرائيل، وعلى تنفيذه بصورة متوازية مع الشق الفلسطيني، وضمان التنازل الرسمي من قبل نظام الأسد عن الجولان وهو في صلب هذه الصفقة كما أعتقد. المدعو للتساؤل سواء ما يتعلق في توقيت أو مضمون هذه الصفقة، أن خطواتها الفعلية بدأت في عهد الرئيس ترامب، وفي ظل هجوم الثورات المضادة واستشراسها لإنهاء معاقل الثورات في دول الربيع العربي!! ما يدلل أنها الهدية الأمريكية الأكبر من كل الدعم الأمريكي السابق، التي يتم منحها لإسرائيل على أنقاض حالة الخراب والانهيار في الواقعين الفلسطيني والعربي. ولو عكسنا الآية في حال لو انتصرت الثورات العربية وتم هزيمة الأنظمة المستبدة، لما كان لإدارة ترامب أن تجرؤ على ترجمة هذه الصفقة بخطوات عملية، وهذا يؤكد يقيننا بأن تحرر الشعوب العربية هو الضمانة الوحيدة لمواجهة العربدة الإسرائيلية. ومن المؤلم حقاً أن الفصائل الفلسطينية بسبب خلافاتها وانقساماتها المدمرة، ومواقف بعضها المنحازة لنظام الأسد وصمتها عن جرائمه في تدمير المخيمات الفلسطينية، وأكبرها مخيم اليرموك، وصمتها عن اعتقال وقتل وتهجير الفلسطينيين، وكذلك في علاقة بعضها الآخر مع النظام الإيراني الذي شارك النظام في قتل الشعبين الفلسطيني والسوري. هذه الفصائل هي من هيأت الوضع الداخلي الفلسطيني لتمرير مثل هذه الصفقة الخطيرة، وأستغرب صراخ هذه القيادات وهي تطالب العالم بالوقوف إلى جانبها لمواجهة هذه الصفقة، فيما أن سياساتها السلطوية التي تناقض قيم التحرر الوطني، تشجع إسرائيل على تصفية ما تبقى من القضية وحقوق أهلها. هذا يقودنا بالطبع إلى عدم الثقة بقدرة القوى الرسمية الفلسطينية والعربية على مواجهة وإفشال صفقة القرن ومخططاتها. ثقتنا فقط بصمود وتضحيات الشعب الفلسطيني، الذي لازال متشبثاً بحقوقه الوطنية رغم كل أوجه معاناته المركبة، وأملنا بنهوض قوى الثورة والتغيير في الواقع العربي، وثورة السودان اليوم تجدد من آمالنا، لأن الشعوب الحرة هي الأقدر بالدفاع عن قضاياها العادلة، وقضية فلسطين لم تفقد مكانتها المركزية في وجدان الشعوب العربية، ولكن كيف لنا أن نطالب هذه الشعوب بنصرة الشعب الفلسطيني وهي مكبلة بالقيود والأغلال، ومن يقفز عن هذه المقاربة التحررية، يريد لنا أن نبقى أسرى الشعارات في مواجهة صفقة القرن وغيرها، وهذا هو تكرار واجترار الفشل بعينه، لأن دعم فلسطين وحقوق شعبها يمر من خلال حركة وطنية فلسطينية مستقلة وقوية، تستند إلى شعبها وتنتمي إلى همومه وتدافع عن حقوقه ومصالحه، ويمر من خلال شعوب عربية تمتلك قرارها الوطني الحر، وهذه هي الشروط الفعلية للانتقال من حالة الضعف والتراجع إلى حالة النهوض وتغيير الواقع.
السؤال التاسع:
يعيش فلسطينيو سورية نكبتهم الثانية على يد نظام الأسد، بعد نكبتهم الأولى على يد الاحتلال الإسرائيلي، كيف تنظر إلى مستقبل الوجود الفلسطيني في سورية، وتأثير ما حصل لهم على هويتهم الوطنية وحقهم بالعودة إلى وطنهم الأصلي؟
ج9 : هذا سؤال يفتح على جراح وشجون كثيرة، هي جزء لا يتجزأ من جراح وهموم نكبتنا السورية، ولكن خصوصية النكبة الثانية لفلسطينيي سورية، وأنا اليوم أحد المنفيين منهم خارج سورية، تضعنا أمام أسئلة وجودية كبرى، ففي الوقت الذي امتحنت تجربة الثورة السورية منذ يومها الأول، العلاقة الأخوية المتشابكة بين الفلسطينيين والسوريين، ووحدة المعيش والهموم والتطلعات المشتركة بينهما، فإن محطات الثورة اللاحقة أكدت هذه الروابط العميقة بكل صورها وتجلياتها، ولا ينفيها أو ينقضها وجود مواقف وسلوكيات لاتجاهات فلسطينية، محسوبة على معسكر النظام وتعمل وفق سياساته الغاشمة، فهذا أيضاً أحد تجليات الانقسام السوري حول الموقف من الثورة عموماً. لكن الجرائم المروعة التي ارتكبها النظام بحق فلسطينيي سورية، تكشّفت بوضوح بعد التدمير الممنهج للمخيمات الفلسطينية، لاسيما ما تعرض له مخيم اليرموك الأكبر من بينها، من حصار وتجويع لمن تبقوا بداخله طيلة خمسة سنوات متتالية، وصولاً إلى تدميره مؤخراً وتهجير من تبقى من سكانه، إضافة إلى تدمير العديد من المخيمات الفلسطينية الأخرى، واعتقال الآلاف من اللاجئين وقتل المئات منهم في مسالخ التعذيب، واضطرار أكثر من (200 ) الف لاجئ فلسطيني للهروب إلى خارج سوريا، وبقاء قرابة (350) الف لاجئ في الداخل أغلبهم نازحين في مناطق سورية مختلفة. ومع توالي فصول الكارثة السورية الرهيبة، ومع تخلي المرجعية الوطنية الفلسطينية عن شعبها في سورية، وبفعل التراجعات والهزائم التي طالت الثورة السورية، تضاعف لدى فلسطينيي سوريا الشعور بالخذلان واليأس، ونتيجة ما واجهوه في دول الجوار السوري التي لجأوا إليها من صعوبات ومشكلات قانونية وإنسانية، لم يعد أمامهم سوى البحث عن ملاذ آمن في المنافي الأوروبية. وخيار الهجرة إلى هذه الدول أصبح في مقدمة شواغلهم، حتى لمن بقي منهم في الداخل السوري، فهناك قناعة متزايدة في أوساطهم باستحالة البقاء في سورية، طالما النظام موجود وطالما الحرب قائمة، وهذا يعني أن النظام تمكن للأسف من تهجير فلسطينيي سورية، خدمةً لأهداف إسرائيل في شطب قضية اللاجئين وإبعادهم مكانياً عن حدود فلسطين إلى المنافي البعيدة. عدا عن تداعيات نكبتهم الثانية في سورية على علاقتهم بالهوية الوطنية وصلاتهم بالكل الفلسطيني، فهم الآن في حالة تشظي وجودي ما بين تعلقهم بسورية التي يرونها وطنهم الذي عاشوه وانتموا بكل جوارحهم إليه، وواقع النزوح والهجرة والهروب إلى خيارات قسرية. وبوسعي القول: أن أكثر من يشعرون اليوم بمعاناة فلسطينيي سورية، هم السوريون الذين ذاقوا مرارة اللجوء بعيداً عن أرضهم ووطنهم. يبقى رغم كل هذه الأوضاع التي واجهت فلسطيني سوريا، أنهم ما زالوا متمسكين بانتمائهم وهويتهم، بل ونرى أن المنافي البعيدة التي هربوا إليها، لم تنسيهم قضيتهم، ولم تثنهم عن المطالبة بالعودة إلى فلسطين. أما عن علاقتهم المستقبلية في سورية، فأذكر هنا حديث امرأة فلسطينية مسنّة في بداية الثورة وكنّا ما زلنا وقتها في مخيم اليرموك، حيث قالت لي: “إذا انقلع بشار وراحت سوريا للخير فنحنا بخير، وان راحت للشر والخراب بدنا نخسر كل شي”. وكأنها كانت تستبطن بهذا الكلام العفوي، ما سيكون عليه حال الفلسطينيين والفارق الذي سيحكم مصيرهم في الحالتين، ومثل هذا الوعي الشعبي العميق، يعكس مدى ارتباط الفلسطينيين بسورية التي ولدوا وعاشوا فيها، كشركاء مع أهلها في السراء والضراء، ودفعوا على طريق خلاصها وحريتها ضريبة باهظة من التضحيات والمعاناة، لا تقل عما دفعه السوريون أيضاً. وهذا يعني أننا محكومون معاً بوحدة المصير، وسنبقى على عهد الوفاء إلى جانب ثورة أخوتنا السوريين، وعلى عهد الوفاء لتضحيات أهلنا الفلسطينيين في الثورة، فهي ثورة كل الأحرار والدفاع عن أحقيتها وإنقاذ مشروعها، واجب علينا جميعاً، وهذا ليس وصف إنشائي، وإنما حقائق تعمدت بالدم والمآسي والمصير المشترك.
السؤال العاشر:
عقد تجمع مصير مؤخراً الدورة السادسة من اجتماعات مجلسه المركزي، وكان من أهم مقرراته التواصل مع النشطاء وقوى التغيير في الساحات العربية، وأهمية التنسيق والتفاعل معهم بما يخدم قضايا الحرية وانتصار الثورات، ما هي خططكم العملية في تجمع مصير لتحقيق ذلك؟
ج10: منذ البدايات كانت المجموعة التي عملت على تأسيس تجمع مصير، حريصة على أن يكون تياراً وطنياً مستقلاً سياساً ومادياً، وأن يجسد في مواقفه ونشاط أطره وهيئاته هذه المعادلة رغم صعوبتها، فليس من السهل أبداً أن نحافظ على التجمع واستمراره، بعد ما فعله المال السياسي والدعم المسيّس، من تشويه للعمل السياسي وتنفير الناس من الانخراط في أحزاب أو تشكيلات سياسية. ومن المؤسف أن الصراع الخليجي واستقطابه الحاد، انعكس على القوى السياسية والمدنية والإعلامية في الثورة السورية وغيرها، وأصبح هامش الاستقلالية وحرية الموقف والقرار ضيقاً جداً. مع ذلك نحن في التجمع وبكل تواضع نزداد إصراراً على التمسك بهويتنا الوطنية الديمقراطية، وبأن نواصل اعتمادنا الذاتي على اشتراكات وتبرعات أصدقاء التجمع كي نحافظ على استقلاليتنا، وفي الدورة السادسة للمجلس المركزي التي عُقدت مؤخراً، كان لنا وقفة تقييمية مطولة لواقع الثورة السورية، ولتحديات القضية الفلسطينية، ولمسارات التغيير في الواقع العربي، وكان لدينا تركيز على مجريات الأحداث في السودان، ودلالات عودة الحراك الشعبي، في هذا البلد المحكوم بنظام قمعي على غرار نظيره السوري. وكان من أبرز الخلاصات التي توافقنا عليه في اجتماعنا، أنه يتوجب علينا القيام بالتواصل والتفاعل مع كافة قوى الحرية والتغيير في الدول العربية، انطلاقنا من وعينا لوحدة معركة اسقاط الاستبداد وتفكيك منظومته القمعية، وتعميق مضامين وحدة التحرر في صيغ عملية تتجاوز البعد القطري للثورات. وبالفعل تم تكليف مكتب التنسيق العام بالتجمع بإعداد خطة تحرك للتواصل مع العديد من القوى والأحزاب العربية، التي نقف وإياها في خندق الدفاع عن حقوق شعوبنا بالحرية والخلاص. وفيما يتعلق بالوضع السوري توافقنا أيضاً على التعاون مع كل جهد يصب في إنضاج بدائل سياسية، تحمل على عاتقها مهام الدفاع عن الوطنية السورية بهوية ديمقراطية واضحة. أما على الصعيد الفلسطيني فسنعمل مع كل صوت ومبادرة يحملان مواقف مبدئية من القضية الفلسطينية، وكافة قضايا الحرية والديمقراطية.
أخيراً: أوجه تحية الإجلال والإكبار لكل شهداء الحرية ومقاومة الظلم والطغيان، ولكل المعتقلين في سجون النظام الأسدي المجرم، وفي سجون الأنظمة العربية القمعية، وللأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ولكل من ضحوا بأرواحهم ومن أفنوا حياتهم ومن يتحملون العذاب والآلام كي يبزغ فجر الحرية والعدل والكرامة على كل أوطاننا.
المصدر: موقع مصير