للمرة الخامسة عشرة، تلتئم أعمال “مسار أستانة” الخاص بالقضية السورية، وذلك بعدما لم تحقق نتائج مهمة في السابق يُمكن البناء عليها للتوصل إلى حلول للملفات الذي أخذ هذا المسار على عاتقه التصدي لها. ومن أبرز هذه الملفات وقف إطلاق النار في سورية، والإفراج عن المعتقلين في سجون النظام، والتعامل مع ملف الألغام، والدفع بالعملية السياسية. ولا يُتوقع أن تكون الجولة الراهنة مختلفة عن سابقتها، لجهة رفض النظام السوري التعاطي مع أيّ حلول لا تُبقي بشار الأسد في السلطة.
وانطلقت أمس، الثلاثاء، الجولة الـ15 من محادثات أستانة السورية في مدينة سوتشي الروسية، بحضور المبعوث الأممي الخاص إلى سورية غير بيدرسون، ومشاركة وفدي المعارضة السورية والنظام، والدول الضامنة والمراقبة، في ظلّ مقاطعة أميركية للمحادثات. وأكد المبعوث الروسي الخاص للرئيس الروسي إلى سورية ألكسندر لافرنتييف أن الوفود ستناقش خلال اللقاء موضوع عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وكذلك الوضع الاقتصادي في سورية، موجهاً رسالة إلى المعارضة السورية المسّلحة بضرورة “تحرير إدلب من الإرهابيين”.
وطيلة سنوات، فشل الثلاثي الضامن لتفاهمات مسار أستانة (تركيا، إيران وروسيا)، في حماية ما كانوا يتفقون عليه، بل إن الجانبين الروسي والإيراني ذهبا إلى حدّ تجميد المسار الأممي للعملية السياسية في سورية، لصالح إنعاش مسار أستانة الذي جرّد المعارضة السورية من كل أوراق القوة التي كانت تمتلكها. ومهّد هذا المسار الطريق أمام قوات النظام لاستعادة السيطرة على مساحات واسعة من الجغرافيا السورية. ولم تنقطع محاولات الروس تحديداً لفرض رؤيتهم للحلّ في سورية، والقائم على بقاء بشار الأسد في السلطة انطلاقاً من مسار “أستانة” الذي خلق حقائق على الأرض بات من الصعب تخطيها في أيّ حلول مستقبلية للقضية السورية.
لكن الجانب الروسي يواجه أيضاً معارضة من الجانب الأميركي الذي رفض حضور الجولة الحالية من صيغة أستانة، بحسب المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سورية ألكسندر لافرنتييف. ويبدو أن واشنطن لا تزال مصّرة على أن المسار الأممي هو المعني بإيجاد حلول للقضية السورية وفق قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة، وأبرزها القرار 2254، الذي أقر في نهاية العام 2015 ويحدد خطوات واضحة للحل السياسي في سورية. ولكن النظام السوري وحلفاءه الروس والإيرانيين، لم يتجاوبوا حتى اللحظة مع جهود الأمم المتحدة، ولا تزال العملية الدستورية تراوح مكانها، كما أفشل النظام الجولة الخامسة من اجتماعات اللجنة الدستورية التي عقدت في شهر يناير/ كانون الثاني الماضي.
ويبحث المبعوث الأممي إلى سورية غير بيدرسن، والذي حمّل النظام مسؤولية هذا الفشل، الأحد المقبل، في العاصمة السورية دمشق، عن طرق جديدة لإقناع النظام للتعاطي بشكل أكثر جدية مع العملية السياسية والعودة إلى طاولة المفاوضات في مدينة جنيف حول الدستور. إلا أن الوقائع تشير إلى أن النظام لم يعد معنياً بالمسعى الأممي، فهو بدأ بالفعل تحضير المسرح السياسي لبقاء الأسد 7 سنوات إضافية في السلطة. ومن المقرر أن يجري هذا النظام انتخابات في منتصف العام الحالي وفق دستور العام 2012، تبقي الأسد في السلطة.
وفي هذا الصدد، رأى الباحث السياسي في مركز “الحوار السوري” محمد سالم، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن الحل السياسي “بات أقرب للمستحيل، لأنه لا توجد ضغوط على النظام”.
من جهته، رأى الباحث السياسي رضوان زيادة أن خلق مسار مواز أو بديل للمسار الأممي للحل السياسي في سورية “هو دائماً طموح روسيا”، لكنه اعتبر في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “فشل مسار أستانة في الالتزام بما اتفق عليه، جعله بلا قيمة”. وأشار زيادة إلى “أن مسار أستانة أقرّ مناطق خفض التصعيد في سورية، لكن روسيا اجتاحت الغوطة الشرقية للعاصمة دمشق ودرعا وريف حمص الشمالي، وغيرها من المناطق المتفق عليها في الخرائط كمناطق خفض التصعيد، حتى أنها أرادت الهجوم عسكرياً على إدلب، ولم توقفها سوى جدية تركيا في التدخل عسكرياً، وحماية المناطق التي تحتفظ أنقرة بتأثير كبير عليها”.
وأعرب زيادة عن اعتقاده بأن مسار أستانة “لم يعد له أي قيمة أو مصداقية”، مبدياً استغرابه من إحيائه مرة أخرى “بعدما تم إعلان وفاته، بل ودفنه منذ شهور طويلة”. وحول دلالات رفض واشنطن دعوة موسكو لحضور الجولة الحالية من “أستانة”، أشار زيادة إلى أن الولايات المتحدة “لا تريد الاعتراف بمسار أثبت فشله”، مضيفاً أن “واشنطن أكدت دوماً على مسار جنيف، رغم أنه لم يتوصل إلى أي نتائج حتى اليوم”.
وفي السياق، اعتبر المحلل السياسي المختص بالشأن الروسي طه عبد الواحد أن موسكو “ليست في وارد تعطيل المسار الأممي أو إلغائه، لأن هذا يعني زيادة تورطها وحدها في الملف السوري، بينما هي تحتاج إلى توافق دولي، ولو شكلي، حتى تحقق مصالحها في سورية، لا سيما في ما يخص ملف أموال إعادة الإعمار”. ورأى عبد الواحد، في حديث لـ”العربي الجديد”، أنه “وفق تصريحات المسؤولين الروس، هناك مؤشرات تدفع للاعتقاد بأنهم سيحاولون فرض أجندة أخرى على مسار جنيف، مثل ملف إعادة اللاجئين السوريين”. وأعرب عن اعتقاده بأن “سعي موسكو لعقد هذه الجولة من مسار أستانة، هو للتأكيد بأنه مستمر، وهو الوحيد الفعال”. واعتبر أن موسكو “تحاول فرض واقع معين على الإدارة الأميركية الجديدة قبل تعاطي الأخيرة مع الملف السوري”. وأوضح أن الروس “سيعملون خلال اللقاء على إيجاد صيغة ما لاستئناف عمل اللجنة الدستورية. وربما يفرضون بطريقة ما فتح مسار تفاوضي جديد في جنيف، حول اللاجئين”. وتوقع عبد الواحد ألا يحقق الروس أي نجاح مهم “كون المعطل هو حليفهم النظام السوري، ومن غير الواضح حدود قدرتهم على ممارسة ضغط مؤثر فعلياً عليه”. وتابع: “يمكن تحقيق نتائج إذا أجبر الروس النظام على التفاعل الإيجابي مع العملية السياسية، وأقنعوا الإيرانيين بالوقوف إلى جانبهم، وهو أمر مستبعد حتى الآن”.
من جهتها، تبحث المعارضة السورية عن وقف إطلاق نار دائم مع قوات النظام على مختلف خطوط التماس في أرياف إدلب وحلب، لخلق استقرار في الأماكن التي تسيطر عليها، والتي تعصف بها أزمات متعددة. كما تطالب المعارضة السورية بممارسة ضغوط على النظام السوري للانخراط فعلياً في العملية السياسية وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية، وخصوصاً بما يتعلق بالدستور والانتقال السياسي تنهض به هيئة حكم كاملة الصلاحيات وفق بيان جنيف 1، تضم ممثلين من النظام والمعارضة.
وكانت قد راجت خلال الأيام القليلة الماضية أنباء عن نيّة الأطراف الفاعلة في الملف السوري، وخصوصاً الجانب الروسي، تشكيل مجلس عسكري يضم ضباطاً من النظام والمعارضة السورية، ويمكن أن يتولى السلطة في البلاد. لكن المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سورية ألكسندر لافرنتييف أكد في تصريحات صحافية، أمس الثلاثاء، على هامش الجولة الحالية من مباحثات أستانة، عدم وجود أي محادثات حول “المجلس العسكري” السوري، معتبراً أن ذلك تضليل متعمد بهدف نسف المحادثات والعملية السياسية.
وفي السياق، أكد لافرنتييف أن الوفد الروسي سوف “يجري محادثات شاملة مع وفد المعارضة السورية”، وأنه سوف يشدد في حديثه مع الوفد المعارض على “ضرورة الابتعاد عن المجموعات المتطرفة، وخصوصاً في منطقة خفض التصعيد في إدلب المسيطرة فعلياً في الوقت الحالي على المنطقة، وتعطل تنفيذ الاتفاقات الروسية التركية لاستقرار الأوضاع على خطوط التماس”. وخلص إلى أنه “حان الوقت، على أي حال، لأن تسعى (المعارضة) إلى أخذ هذا الموضوع على عاتقها، وتحرر هذه المنطقة من المنظمات الإرهابية”. ومع إشارته إلى نتائج مؤتمر اللاجئين الذي عُقد في دمشق في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ورغبة لبنان بتنظيم نسخة جديدة من المؤتمر، قال إن “الجانب التركي أبدى اهتماماً في بحث موضوع تنظيم مباحثات حول اللاجئين على أراضيه، ولهذا نناقش ما يجب علينا فعله من أجل الدفع بهذه القضية المهمة”.
وشدّد لافرنتييف على ضرورة مواصلة العمل لمحاربة التنظيمات الإرهابية، مثل تنظيم “داعش” و”هيئة تحرير الشام” وغيرها من المنظمات المصنفة إرهابية، مشيراً إلى أن نشاط هذه التنظيمات ازداد في الأشهر الأخيرة، وأكد أن التفاوض معها “غير مطروح مطلقاً”، وأن “الهدف هو القضاء عليها بالكامل”.
المصدر: العربي الجديد