تنطلِقُ هذِهِ المُقارَبة من فكرتِي الفَلسفيّة التي تقولُ إنَّ جدَليّة الزَّمن الخطِّيّ الأُفُقيّ وزمانيّة تكرار الاختلاف تفرضُ النَّظَر إلى كُلّ حدَث من مُنطَلَق خُصوصيتِهِ، وتحريرِهِ من المُسَبَّقات، من دون أنْ يعني ذلكَ عدم وجود قانون وجوديّ كُلِّيّ يسمَح بالمُقارَنة مع المُسَبَّقات أو التَّجارِب العالَميّة السّابقة.
ولذلكَ أخفَقَ مُعظَم قارئي الثَّورة السُّوريّة في الإحاطة بها، بفعل المُنطلَقات القَبْلِيّة التي هيمَنَت على تحليلاتِهِم، ولأنَّهُم لم يُوازِنوا على نحْوٍ مَعرفيٍّ وحدْسيٍّ بينَ ما هو (عيانيّ/ راهِن)، وما هو (رُؤيويّ/ كُلِّيّ)، ولهذا أقترِحُ أنْ نُعدَّ أنَّ الثَّورة السُّوريّة بوصفِها جُملة تناقضات وتحوُّلات وصراع إرادات قوى، تمتلِكُ عبرَ مَخاضِها المُتراكِب هذا، هُوِيَّتَها الخاصّة القائِمة بذاتِها، والتي يُمكِنُ اختبارُها باختبار جدَليّات الوطنيّة والتَّدويل والاحتلالات في هذِهِ الثَّورة (المُعقَّدة)، خارج ثنائيّة (الخير المُطلَق/ الشَّرّ المُطلَق)، أو خارج ثنائيّة (الانتصار المُطلَق/ الهزيمة المُطلَقة).
أوَّلاً: تحقيب هُوِيّة الثَّورة السُّوريّة ضمنَ الوعائيْن الفرديّ والجَمعيّ للرَّبيع العربيّ
لم تكُن المُشكلة في سوريّة في طبيعة الثَّورة ومَطالب النّاس؛ إنَّما في طبيعة النِّظام وردَّة فعلِهِ، وفي القرار الإقليميّ والدَّوليّ الذي أرادَ وأد الرَّبيع العربيّ نهائيّاً، وتلقين الشَّعب العربيّ درساً عنيفاً عبرَ الأنموذج السُّوريّ، يكبحُ جماح الفكر الثَّوريّ العربيّ وتطلعاتِهِ الدّيمقراطيّة.
وتُظهِر الوقائِع أنَّ هذا البُعد العربيّ بوصفِهِ أحد أهمّ مرجعيّات الثَّورة السُّوريّة قد أسَّسَ هُوِيّة هذِهِ الثَّورة بينَ الوطنيّة والتَّدويل، ثُمَّ الاحتلالات إلى حدٍّ بعيد، ذلكَ أنَّ توضُّع الثَّورة السُّوريّة في قلب تحقيب الرَّبيع العربيّ، وما يترتَّب عليه من حسابات ونتائِج وتداعيات، قد حكَمَ سياسات جميع الأطراف الإقليميّة والدَّوليّة على جميع مُستويات التَّفكير والتَّخطيط والتَّنفيذ عبرَ ثمان سنوات.
لكنَّ الذي حدَثَ أنَّ ثورة سوريّة (دُرّة ثورات الرَّبيع العربيّ)، وعلى عكس مُعظَم التَّوقُّعات، قد حرَّضتِ الشُّعوب العربيّة بمُرور الوقت، وعلَّمتهُم بعُمق كيفيّات تحاشي المُنزلقات والفِخاخ التي حُفِرَتْ للسُّوريّين بخُبث ومُداوَرة وبراغماتيّة، فدفعَ السّوريّون الثَّمن الأغلى ليسَ من أجل حُرِّيَّتِهِم فقط، إنَّما من أجل حُرِّيّة المنطقة والعرب جميعاً، مع الأخذ بعين النَّظَر الضَّرورة المنطقيّة والعمَلانيّة القائِمة على مُراعاة خُصوصيّة الفضاء الجيوسياسيّ والاجتماعيّ لكُلّ بلد عربيّ عندَ أيِّ تحليل أو مُقارَبة، وذلكَ ضمن الوعاء الفرديّ والجَمعيّ العامّ للرَّبيع العربيّ بطبيعة الحال.
وهكذا، انعكَسَ ما يحدث في سوريّة على الوعي (الوجوديّ/ الثَّوريّ) للشُّعب العربيّ، وباتَ من الواضح للمُتمعِّن استحالة وقف قطار الرَّبيع العربيّ كما ظنَّ الكثيرون، حيثُ استمرَّ الحراك الثَّوريّ مُتنقِّلاً في العام 2018، من انتفاضة الرّيف المغربيّ التي هزَّتْ عرش الملك المغربيّ، ولها ما بعدَها قريباً كما يبدو من قراءتي للواقع هُناك، وحواراتي مع أصدقائي المَغارِبة، وكذلكَ الانبثاق الجديد/ القديم لتظاهرات تونس في إحدى مَراحِل العام 2018، ثُمَّ تظاهُرات الأردن واعتصاماتِهِ العارمة التي أرضخت الحُكم الأردنيّ لمَطالِب الشّارع التي ستتزايدُ في المَرحلة القادمة كما يبدو، فضلاً عن المُفاجأة الكبيرة عبرَ انتفاضة الجنوب العراقيّ العارمة بطابع هذا الجنوب (الشِّيعيّ)/ البصرة تحديداً، ضدّ حُكم الأحزاب الطّائفيّة في العراق، وضدّ التَّبعيّة لإيران، وانتهاءً بثورة السّودان المُستمرّة حتى الآن في العام 2019، والتي نجحت مع شقيقتِها الثَّورة الجزائريّة في الإطاحة برأسَي النِّظاميْن (عمر البشير وعبد العزيز بوتفليقة)، لكنَّ الحراك ما يزال مُستمرّاً ورافضاً لوجود أيِّ سُلطة عسكريّة انتقاليّة تُهدِّد ببقاء النِّظام العسكريّ/ الأمنيّ، وتَحُول دونَ تحقيق التَّحوُّل المدنيّ الدّيمقراطيّ الجذريّ، وهذا ما يعيه الأشقاء في السّودان والجزائر بعُمق.
إنَّ الطّابع الحربيّ للرَّبيع العربيّ في كُلّ من ليبيا واليمن وسوريّة (والذي فرضَتْهُ المُعطيات الموضوعيّة من جانبٍ أوَّل، والمُفتَعَلة من جانبٍ ثانٍ، داخليّاً وإقليميّاً ودوليّاً على ثورات هذِهِ البلدان) لم ولن يُلغي الطّابع المدَنيّ السِّلميّ الذي لا يكادُ يختفي ليعودَ ويظهَر نسبيّاً؛ بمَعنى أنَّ هذِهِ الحُروب تُؤكِّدُ كينونة الثَّورات وتحوُّلاتِها، ولا تنفيها بالدَّلالة الجدَليّة المَفتوحة على أُفُق المُستقبَل. ولذلكَ يبدو أنَّ تأثير مَخاض ثورات هذِهِ الدُّول على الدُّول العربيّة الأُخرى، هو تأثيرٌ تبادُليٌّ في الوقت نفسِهِ، وهذا الأمر ستثبتُهُ ثورتا السّودان والجزائر، وما سيتحرَّك بعدهُما عربيّاً في إطار انفتاح فَجوة التّاريخ العربيّ الثَّوريّ عبرَ جدَليّة الزَّمن الخطِّيّ الأُفُقيّ وزمانيّة تكرار الاختلاف، ذلكَ أنَّ الرَّبيع العربيّ (وفي قلبه الثَّورة السُّوريّة) يُمثِّلُ صيرورة (هُوِيّاتيّة) جيوسياسيّة ذات سمات تبادُليّة توليديّة خاصّة ومُستمرّة لطالما تحدَّثتُ عنها في غير مادّة منذ العام 2011، وأعتقد أنَّ هُناكَ انفجارات شعبيّة كُبرى قادمة في بلدان عربيّة عدّة يكادُ يصلُ فيها الاحتقان إلى ذروتِهِ، ولعلَّ هذا التَّحليل بمُستوياتِهِ كافّة يدفعُني كي أنفي قطعاً أيَّ تناقُض بينَ (وطنيّة) الثَّورة السُّوريّة، وامتداداتِها الهُوِيّاتيّة الطَّبيعيّة المُتشابِكة عربيّاً كما توهَّمَ البعض، على الأقلّ من الوجهة (النَّظَريّة والعمَليّة التَّأصيليّة)، وبمُراعاة قراءة (التَّدويل) هُنا بوصفِهِ أحد تداعيات تلاعُب الأنظمة العربيّة (الرَّسميّة) بإرادات هذِهِ الثَّورة بما تُمثِّلُهُ من خطَر مُباشَر عليهِم.
وفي هذا الإطار، عبَّرَ المُناضل الكبير رياض التِّرك (ابن العمّ) في حوارٍ أُجراه معه الأستاذ محمَّد علي الأتاسي في “جريدة القدس العربي” بتاريخ 2/9/2018، (أي بعدَ خُروِجهِ من الدّاخِل السّوريّ)، عن هُوِيّة هذا الوعاء الجَمعيّ للرَّبيع العربيّ بما هوَ وعاء مُتنامٍ ومُتكامِل وغير قابل للوأد، حيثُ قالَ نافياً فكرة هزيمة الثَّورة السّوريّة بربطِها بُعمقها العربيّ: “نعم هذه الثّورة مُنتصرة ولو هزمتْ، إذا نظرنا إليها من زاوية عمق التّحوّلات الاجتماعيّة التي تجري في منطقتنا. (…). وقوّة هذه المعركة تأتي من عمقها العربيّ وليس فقط من عمقها السّوريّ. المجتمعات العربيّة وصلتْ اليوم إلى مرحلة تحتاج فيها إلى تغيير جذريّ وعميق، تُعبّر عنه حالات الاضطّراب والانتفاضات التي تعيشها هذه المجتمعات منذ سبع سنوات. وهناك في مواجهتها ما يشبه الاستنفار الاستعماريّ من أجل منع هذه الشّعوب من أخذ زمام أمورها بيدها، وأن تكون جزءاً من العالم المعاصر، وأن تختار حكومات تستمدّ شرعيتها من صندوق الانتخاب ومن الإرادة الشّعبيّة، (…). شعوبنا اليوم هي في قلب التّاريخ، بل هي من يصنع التّاريخ. هذا مسار تاريخيّ من المُستحيل إيقافه”.
ثانياً: تحقيب هُوِيّة الثَّورة السُّوريّة بوصفِها هُوِيّة إنسانيّة/ كونيّة
لا يمكن قراءة الثَّورة السُّوريّة وتحليل أبعادِها وخُصوصيَّتِها خارج فَهْم التَّوضُّع الجيوسياسيّ لسوريّة إقليميّاً ودوليّاً، وهوَ التَّوضُّع الذي أدّى على نحْوٍ أوتوماتيكيّ إلى جعل هُوِيّة الثَّورة السُّوريّة هُوِيّة (إنسانيّة/ كونيّة)، ذلكَ أنَّ أسئلة هذِهِ الثَّورة قد انبثقتْ من عُمق أسئلة العصر، ومسَّتِ الآخرين على امتداد العالَم شكلاً ومضموناً، وقد وصفتُ ثورات الرَّبيع العربيّ في غير مَقالة بأنَّها ثورات (ما بعدَ حداثيّة)، ورُبَّما يكونُ الأدَقّ الآن تحديث قولي هذا، ووصفِها بأنَّها ثورات (ما بعدَ بعدَ حداثيّة)، حيثُ كتبْتُ في مَقالتي المُعنونة بِـ “مُراجَعة تأصيليّة لبعض مَفهومات الثَّورة”، والمَنشورة في “شبكة جيرون الإعلاميّة” بتاريخ 29/12/2016، الآتي: “إنَّ استخدامي مُصطلح (ما بعدَ الحداثة) هوَ استخدامٌ تحقيبيٌّ بحت، يُشير إلى أنَّ العرب جزءٌ من العالم الحالي الذي يمرُّ بمرحلة مُتقدِّمة من مراحِل الرّأسماليّة، هيَ مرحلة العولمة النّيوليبراليّة، ولذلكَ؛ فتوظيفي للمُصطلَح لا يعني إلحاق العرب بمَفهومات سيادة المركزيّة الغربيّة؛ بقدر ما يعني فَهم السِّياق التَّاريخيّ للثّورات العربيّة بوصفِها مُنغرِسة في عصرٍ لهُ سماتُهُ، سواءً أقبلْنا بذلكَ أم لم نقبَل، وإلّا كيفَ نُفسِّرُ الدّور العميق لثورة الرقميّات ووسائل الاتّصالات المُعاصِرة وظُهور الإنترنت والفضاء الافتراضيّ ومواقع التَّواصُل الاجتماعيّ والفضائيّات في حركيّة ثورات الرّبيع العربيّ؟.”.
وكنتُ قد تحدَّثتُ أيضاً حديثاً يُعمِّقُ هذا المَنحى في التَّفسير انطلاقاً من تفكيك بِنية ثورات الرَّبيع العربيّ، حيثُ كتبتُ في مَقالتي المُعنونة بِـ “نحْوَ رُؤية تكامُليّة مُغايِرة لمَفهوم الثَّورة”، والمنشورة في “شبكة جيرون الإعلاميّة” بتاريخ 20/9/2016، الآتي: “إنَّ طبيعة ثورات الرّبيع العربيّ، بوصفها ثورات ما بعد حداثيّة بامتياز، قد زاد من صعوبات فَهم هذه الأحداث الكبرى والإحاطة بدلالاتها، ولا سيما حينما يلجأ كثيرٌ من الأشخاص إلى القياس الذي لا ينجو (في الأغلب) من سجن الأيديولوجيات المُسَبَّقة على ثورات قديمة عُرفت بوجود رأس هرميّ مُحرِّك لها، بعكس هذه الثّورات المُباغتة وغير المركزيّة، وعندما يعجزونَ عن تفسير الأحداث الجديدة والشّاذة والغريبة أو حتّى الغرائبيّة (إذا استعرنا المُصطلح من حقل النّقد الأدبيّ) يلجؤون إلى محمية (نظريّة المؤامرة) المريحة للأعصاب والضَّمير”.
وقد وصَفَ المُفكِّر الدُّكتور عبد الرَّزّاق عيد ثورات الرَّبيع العربيّ بأنَّها “حركات ما بعدَ الأيديولوجيا”، ويُمكنُ أنْ نقرأ ذلكَ في غير مادّة لهُ، ومنها مَقالتُهُ المُعنونة بِـ “الثَّورة السُّوريّة والأجندات الخارجيّة1″، والمنشورة في موقع “مُفكِّر حُرّ” بتاريخ 15/9/2014، حيث كتب: “الثَّورة السُّوريّة كباقي ثورات الرَّبيع العربيّ، هي ثورة شبابيّة تُمثِّل منظومة وعي ما بعد الأيديولوجيا بتعدُّد مَشاربها الدّينيّة والعلمانيّة، التي خنقتِ المجتمع السُّوريّ كما المجتمعات العربية…”.
ولهذا لا يبدو أنَّ الظَّنُّ بوجود (وطنيّة) مُغلَقة ومُتعالية للثَّورة السُّوريّة هو ظنٌّ موضوعيٌّ أو مُمكنٌ، وأعتقدُ بتهافت رُؤى مَنْ حاوَلَ نقد هذِهِ الثَّورة انطلاقاً من مُحدِّدات أيديولوجيّة تجاوَزَها العصر، وتنتمي إلى حقبة الخمسينيّات أو السِّتينيّات ذات الأفكار الشُّموليّة والمفاهيم التَّقابُليّة الحدِّيّة الثُّنائيّة كالشَّرق والغرب، أو كالإسلام والعَلمانيّة، أو كاليسار والرَّأسماليّة. وفي الوقت نفسِهِ، لم يكُنْ (التَّدويل) نقيضاً للوطنيّة بالمَعنى الهُوِيّاتيّ التَّحقيبيّ (الفَلسفيّ/ الكُلِّيّ)، وإنْ كانَ مُضادّاً لها بالمَعنى الإجرائيّ (السِّياسيّ/ الكيانيّ) الذي مارستُهُ الدُّول الإقليميّة والدَّوليّة لإجهاض الثَّورة، أو على الأقلّ لاحتوائِها، وإدارتِها.
ولذلكَ أرى أنَّ هذِهِ العُقدة المَفهوميّة للثَّورة السُّوريّة عبرَ انفتاحِها بينَ الزَّمن الخطِّيّ الأُفُقيّ وزمانيّة تكرار الاختلاف، قد مثَّلَتْ أحد أهمّ عَوامِل جذريّة هذِهِ الثَّورة وخُصوصيتِها الاستثنائيّة وكُلِّيَّتِها الوجوديّة الكونيّة، فهيَ لم تكُنْ في لحظةٍ ثورةً محلِّيّة ضدّ نظام سياسيّ قائِم في بلد مُعيَّن، فالعوامِل الجيوسياسيّة لسوريّة، ومدى تراكُب النِّظام السِّياسيّ والرَّأسماليّ العربيّ والإقليميّ والعالميّ (المُعولَم)، جعَلَ من هُوِيّة هذِهِ الثَّورة هُوِيّة إنسانيّة عالَميّة بامتياز، ليسَ لأنَّها واجهَتْ نظاماً عالَمياً مُضادّاً لها فحسب؛ بل لأنَّها أثَّرَتْ فعلاً في توازنات القوى الإقليميّة والعالَميّة، وكانت مُلهِمة لحركات ثوريّة كثيرة في دول مُختلِفة، وما زالَ باب الصِّراع الدَّوليّ على سوريّة وفي سوريّة، مَفتوحاً على مصراعيْه، وعاكِساً للصِّراع العالَميّ الشّامِل، ولن يكونَ العالَم بعد زلزال الثَّورة السُّوريّة كما كانَ قبلَها، وهذِهِ ليسَتْ مُبالَغات لأيِّ قارئٍ مُتمعِّنٍ في حركيّة الأحداث والتّاريخ العالَميّ المُعولَم الحالي، وقد كَتَبَ المعارض والنّاشط الحقوقيّ المحامي أنور البنّي في مَقالة لهُ بعنوان “الثّورة السُّوريّة.. أهمّ الثّورات في التّاريخ”، والمنشورة في “شبكة جيرون الإعلاميّة” بتاريخ 16/3/2017، مُتحدِّثاً عن التَّحوُّلات الدَّوليّة العميقة التي أحدثتْها الثَّورة السُّوريّة قائِلاً: “انقلبتْ مفهومات الاستقرار والأمن والأمان لدى كلّ الدّول والمجتمعات الغربيّة، وانكشف غطاء الكذب المستمرّ عن الإيمان بمبادئ حقوق الإنسان والقيَم الدّيمقراطيّة وقبول الآخَر لدى هذه الدّول ولدى مجتمعاتها أيضاً، وظهر التّناقض الواضح بين هذه الادّعاءات والحقيقة والواقع، وبوجهٍ خاصّ في موقفهم من الجرائم الكبرى التي ترتكب في سوريّة، وموقفهم من اللاّجئين، وابتدأ صراع كبير داخل تلك المجتمعات وبين أحزابها السِّياسيّة حول هذه الحقائق لن ينتهي خلال الأمد المنظور، ورُبّما يتطور إلى عودة انكفاء العالم إلى كانتونات ودول صغيرة منعزلة. والثَّورة السُّوريّة زلزلتْ كلّ منظومة القوانين والهيئات الدّوليّة التي أمضت البشريّة عقوداً في بنائها، واهتزّتِ الثّقة فيها وبفاعليتها بما فيها دور مجلس الأمن وصلاحيته وإمكانيته في حفظ السِّلْم العالَميّ، وبالأخصّ دور منظومة العدل الدّوليّة ومحكمة الجنايات الدّوليّة، ومبرِّرات وجود كلّ هذه الهيئات غير الفاعلة، وابتدأ البحث جدّيّاً عن استبدال هذه الآليّات، أو على الأقلّ إجراء تغييرات كبيرة فيها لتزيد فاعليتها وجدواها. (…). إنَّ انتصار الشَّعب السُّوريّ هو المفتاح ليكون مستقبل العالَم أفضل، واستمرار قمع الثّورة السُّوريّة يُظهر مستقبلاً أسود لهذا العالم.”.
ثالثاً: إشكاليّات تدويل الهُوِيّة الوطنيّة للثَّورة السُّوريّة
1) ): فِخاخ المُحاكاة المُزدَوَجة:
وقَعَتِ الثَّورة السُّوريّة بدءاً من المرحلة السِّلميّة، وانتهاءً بمرحلة التَّحوُّل إلى العسكرة، في فِخاخ مُحاكاتيْن اثنتيْن، هُما:
_ المُحاكاة الأُولى: مُحاكاة الثَّورتيْن التُّونسيّة والمصريّة، وهوَ ما عجِزَتْ عن تحقيقِهِ أمامَ عُنف القمع المُمارَس ضدَّها.
_ المُحاكاة الثّانية :مُحاكاة الثَّورة اللِّيبيّة التي تدخَّلَ (لصالِحِها ظاهريّاً) حلف النّاتو (الأطلسيّ) عبرَ ما دُعيَ (القيادة الأمريكيّة من الخلف)، وذلكَ حينما اشتدَّ عنف قمع النِّظام على الثَّورة السُّوريّة وحواضنِها الشَّعبيّة.
لعلَّ من الأشياء التي تُؤكِّد الهُوِيّة العربيّة/ العالَميّة للثَّورة السُّوريّة، لكنْ بمَنحىً تراجيديّ، هو طلَب السُّوريِّين مُساعَدة العالَم لهُم (ولاسيما الغرب) لإنقاذهِم من المَذبحة التي كانت تطالُهُم بعُنف في المَرحلة السِّلميّة، ونذكر في سياقِنا هُنا أسماء بعض جُمَع التَّظاهُرات التي كانَتْ تُعبِّر عن هذا التَّوجُّه، وذلكَ بغضّ النَّظَر عمَّن كانَ يقف وراء تسمية جُمَع التَّظاهُرات، غيرَ أنَّ مُعظَم تلكَ التَّسميات كانَتْ تحظى (نسبيّاً) بإجماع شعبيّ، كجمعة (الحظر الجويّ) التي جاءَت بعدَ سبعة أشهُر ونصف من بدء الثَّورة بتاريخ (28/10/2011)، حيثُ كانَ النّاس قد وصلوا إلى حالة من الإجهاد واليأس الفادِح من تغيير سياسات النِّظام بفعل آلة العنف والقتل والقمع المُمارَسة ضدَّهُم، وفي الإطار نفسِهِ، أتَتْ تظاهُرات جُمعة (التَّدخُّل العسكريّ الفوريّ/ التَّدخُّل الدَّوليّ) بتاريخ (16/3/2012)؛ أي بعدَ سنة كاملة تماماً من بدء الثَّورة السُّوريّة، لتُظهِرَ تراجُعاً مَلحوظاً في حجم نقاط التَّظاهُر وعددها، حيثُ نحا الموضوع مَنحى الأخذ والرَّد بينَ حواضِن الثَّورة ونُخبِها، وكانَ هُناكَ من يرفضُ التَّدخُّلَ الدَّوليّ تحت أيَّةِ ذريعةٍ كانَتْ، في حين رأى كثيرون أنَّ إيقاف حمّام الدَّم ورفع السِّكِّين عن رقبة النّاس أولويّة وطنيّة وأخلاقيّة وإنسانيّة لشعبٍ مُهدَّد وجوديّاً رُفِعَ ضدَّهُ شِعار واحد مُطلَق: “الأسد أو نحرق البلد”، ذلكَ أنَّ الغريقَ لا يسألُ عن أهداف المُنقذ. ويبدو أنَّ عنف النِّظام قد قادَ هُويّة الثَّورة وتحوُّلاتِها إلى مثل هذا المأزق المأسويّ بينَ خياريْن أحلاهُما مرٌّ، هُما الدِّفاع عن وطنيّة الثَّورة واستقلاليتِها الهُوِيّاتيّة، والحاجة الأخلاقيّة والوقائعيّة/ الوجوديّة إلى التَّدويل الذي بدا أنَّهُ لم يعدْ من المُمكن تحاشيهِ؛ ولا سيما إذا وسَّعنا (بيكار) المَشهد أكثَر، وفهمْنا حجم انفتاح سوريّة جيوسياسيّاً بوصفِها أصبحتْ في تلكَ المرحلة فَجوةً رخوةً وهشّةً أمامَ التَّدخُّل الخارجيّ (لا لصالِح الثَّورة طبعاً) كما تأكَّدَ بعدَ مُرور المزيد من الوقت.
:(2) فِخاخ ثُنائيّة (أصدقاء/ أعداء) الشَّعب/ الثَّورة السُّوريّة:
يبدو أنَّ “الهُوِيّة الوطنيّة للثَّورة” قد وجدَتْ في لحظة يأس قاسية، أنَّ مُحاكاة الثَّورة اللِّيبيّة التي دعَمَها حلف الأطلسيّ، قد يمنَحُها (لهذِهِ الهُوِيّة الوطنيّة الثَّوريّة) خلاصاً عالَميّاً عبرَ تحقيق إمكانيّة التَّعيُّن بوصفِها ثورةً ناجحة، لكنَّ الثَّمن العميق الذي دفعَهُ السُّوريّون المَدفوعون ببراءة إلى الاستنجاد بالغرب، لم يشفَع لهُم، بل كانَ دليلاً على سُوء قراءة حقيقة موقف النِّظام الرَّأسماليّ العالَميّ السَّلبيّ (بدءاً من رأسِهِ الأمريكيّ، وانتهاءً بذيلِهِ الرّوسيّ) من الثَّورة السّوريّة، ومن كامِل الرَّبيع العربيّ. وبدا من الجليّ، رويداً رويداً، أنَّ كُلّ ما كانَ يُعقَدُ من اجتماعات تحتَ عنوان “أصدقاء الشَّعب السُّوريّ” لم يكُنْ هدفُهُ سوى التَّمويه وتمرير الوقت وإدارة الصِّراع الدَّمويّ وإجهاض الثَّورة وحُلْم التَّغيير، أو تحجيم هذا التَّغيير على أقلّ تقدير، وذلكَ على حساب مَصلَحة السُّوريِّين الغارقين في المَذبحة، وعلى حساب تضحياتِهِم الهائِلة.
لم يكُنْ للثَّورة السُّوريّة أصدقاء حقيقيّون، وكُلّ ما تمَّ من تصريحات أو تحرُّكات أو اجتماعات كانَ يصبُّ في إطار الدَّعم الوظيفيّ المدروس لِـ (إدارة الأزمة) بهدف احتواء الثَّورة من جانبٍ أوَّل، والانتقال بعدَ ذلكَ إلى تحطيم سوريّة (الدَّولة والمُجتمَع) من جانبٍ ثانٍ، وهوَ الأمر الذي يتحمَّلُ مَسؤوليتَهُ القانونيّة والسِّياسيّة والوطنيّة النِّظام أوَّلاً وأخيراً، من دون أنْ نُعفي المُعارَضة ممّا ينبغي أنْ تحملَهُ من أوزارٍ وأخطاءٍ فادحة في فَهِم الموقف الإقليميّ والدَّوليّ، والتَّقصير الهائِل في القدرة على إدارة استراتيجيّات الثَّورة!!.
كَتَبَ المُعارِض والكاتب نبيل ملحم في مَقالتِهِ “الثَّورة السُّوريّة والمُستحيلات السَّبعة” المَنشورة في مَوقِع “كُلُّنا سُوريّون” بتاريخ 23/10/2017، الآتي: “المستحيل الخامس: وهو ما تأتَّى من استراتيجيّة قيادة النِّظام الرّأسماليّ العالميّ (أمريكا تحديداً) تّجاه الرّبيع العربيّ عموماً؛ لأنَّ جوهر هذه الاستراتيجيّة يقوم على تفريغ الرّبيع العربيّ من مضمونه التَّحرريّ عبر احتوائه أوَّلاً، ثم حرف مساره ومجراه ثانياً، (…). ولقد كان وصول شرارة الرَّبيع العربيّ إلى السّاحة السُّوريّة، ومواجهة النِّظام البربريّة للرَّبيع السُّوريّ، فرصة مناسبة للإدارة الأمريكيّة ولحلفائها في المنطقة حتى تضع سدّاً وجداراً أمام امتداد حريق الرَّبيع العربيّ”.
ولم يكُنْ البُعد المأسويّ للثَّورة السُّوريّة مُتوقِّفاً على فقدان الأصدقاء؛ إنَّما على عُمق العداء وجذريتِهِ من قبَل مُعظَم الأطراف كُلٌّ حسب مصالِحِهِ وحساباتِهِ، حيثُ أدّى خداع أمريكا وحلف الأطلسيّ لروسيا في مجلس الأمن باستصدار قرار التَّدخُّل في ليبيا في العام 2011 إلى نشوء موقف روسيّ شديد التَّعنُّت يهدف إلى حماية النِّظام السُّوريّ (كما حدَثَ عبرَ استخدامِهِ الفيتو مراراً وتكراراً في مجلس الأمن)، وذلكَ انطلاقاً من مَصالحَ روسيّة مُتعدِّدة، إنْ فيما يتعلَّق بحفاظِها على مكسب وصولِها إلى المياه الدّافئة على المتوسِّط، أو بخشيتِها من تمدُّد الثَّورات إلى مُحيطِها الجيوسياسيّ (والذي يُشكِّلُ المُسلمون جزءاً كبيراً منه)، أو في تجاذباتِها مع الغرب بشأن أوكرانيا وشبه جزيرة القرم ومَسألة الدِّرع الصّاروخيّة وقضيّة العقوبات الأمريكيّة/ الغربيّة عليها، وأخيراً، بما يرتبطُ نوعاً ما بعقدة الدَّولة/ الأُمّة الإمبراطوريّة التي تُعشِّشُ في مُخيِّلة المافيا الرُّوسيّة الحاكِمة.
لم يكُنْ للثَّورة السُّوريّة أصدقاء حقيقيّون، وكُلّ ما تمَّ من تصريحات أو تحرُّكات أو اجتماعات كانَ يصبُّ في إطار الدَّعم الوظيفيّ المدروس لِـ (إدارة الأزمة) بهدف احتواء الثَّورة من جانبٍ أوَّل، والانتقال بعدَ ذلكَ إلى تحطيم سوريّة (الدَّولة والمُجتمَع) من جانبٍ ثانٍ
وفي الإطار نفسِهِ، تعيَّنَ الموقف الإيرانيّ من الثَّورة السُّوريّة انطلاقاً من مُحدِّدات قديمة تعود إلى بدايات انقضاض الخميني على الثَّورة الإيرانيّة والسَّيطرة على السُّلطة في العام 1979، حيثُ ورثَ من جانبٍ أوَّل الدَّور الوظيفيّ المُحدَّد (أمريكيّاً وغربيّاً وإسرائيليّاً) الذي كانَ يُمارِسُهُ الشّاه كشرطيّ المنطقة، لكنْ مع العمَل على تمديد هذا الدَّور وتوسيعِهِ لمَا هوَ أبعد من حُدودِهِ بالاستفادة من الغِطاء الضِّمنيّ الأمريكيّ والغربيّ المَسكوت عنه، وضمنَ مشروع تغلغل مُنظَّم تحت قناع تصدير الثَّورة الإسلاميّة/ الشِّيعيّة، وولاية الفقيه، إلى الدُّول العربيّة، وهوَ الأمر الذي يُضمِرُ حُلماً إمبراطوريّاً آخَر وجدَتِ الثَّورة السُّوريّة نفسَها ضحيّةً لهُ أيضاً، والذي استكمَلَ فرضَ الدّائِرة المُغلَقة على حُلم التَّغيير السُّوريّ باستكمال الأدوار الأخرى لتركيّا ودول الخليج العربيّ، وهيَ المَسألة التي تبدو أشبه بسيمفونيّة تناقُضات وصراع إرادات قوى تلتقي على نهش لحم الثَّورة السُّوريّة بمُبارَكة أمريكيّة مَدروسة من بُعد، حيثُ التقى الأتراك والخليجيّون على فكرة مُواجَهة النُّفوذ (الإيرانيّ/ الشِّيعيّ) عبرَ أدوات (إسلامويّة)، وهوَ تفكيرٌ ظنَّ الخليجيّون أنَّهُ يضمنُ من جانبٍ أوَّل وقفَ التَّمدُّد الإيرانيّ، ومنعَ تمدُّد الرَّبيع العربيّ إلى بلدانِهِم من جانبٍ ثانٍ، مع التَّأكيد على تشابُك مصالِح جميع الأطراف الإقليميّة والدَّوليّة حول فكرة محو المِحور الهُوِيّاتيّ السِّياسيّ التَّحرُّريّ (الوطنيّ) الرَّئيس للثَّورة السُّوريّة، ومنح الصِّراع تلكَ الصَّبغة الطّائفيّة الزّائِفة، وهو أصلاً الأمر الذي كانَ يصبُّ في صلب سياسات النِّظام السُّوريّ، وكانَ يُمثِّلُ بُؤرة مُخطَّطاتِهِ ومُؤامراتِهِ التي اشتغلَ عليها في مُواجَهة الثَّورة.
:(3) الفخّ الإسرائيليّ:
لم يكُن القرار الأمريكيّ/ الإسرائيليّ المُعلَن بطرد الوجود العسكريّ الإيرانيّ من سوريّة مُرتبِطاً في لحظة بمصالِح الثَّورة أو الشَّعب السُّوريّ؛ إنَّما على العكس من ذلكَ، فالدَّور الوظيفيّ لإيران قد أنجَزَ في سوريّة والوطن العربيّ ما لم تكُن تحلم أمريكا وإسرائيل بإنجازِهِ عبرَ عشرات أو مئات السِّنين، وأعني بذلكَ تفتيت النَّسيج الاجتماعيّ السُّوريّ والعربيّ عبر تجذير شرخ الصِّراع الشّيعيّ/ السُّنِّيّ الزّائف الذي كانت إيران رأس حربتِهِ في العراق ولبنان واليمن، وتحديداً في مُواجَهة الثَّورة السُّوريّة.
وهناك نقطة ليسَتْ سهلة على الفَهْم والتَّفسير لدى الكثيرين في إطار (بروبوغاندا) أكاذيب محور المُمانَعة والمُقاوَمة، وأقصد بذلكَ تحليل دلالات الضَّربات الإسرائيليّة المُستمرّة ضدّ المَواقِع الإيرانيّة وأذرعِها الميليشياويّة، وفي مُقدِّمتِها حزب الله، فمنذُ بدأَتْ إسرائيل بضرب قواعد النِّظام وإيران، كانت (وما زالتْ) تُمارِسُ دوراً مُزدوجاً:
(1): تحمي النِّظام وإيران مَعنويّاً، وتُضفي عليهِما شرعيّة كاذِبة بوصفِهِما نظاما مُمانَعة ومُقاوَمة ليُكمِلا مهمَّتَهُما في تدمير سوريّة، ومَنع التَّحوُّل الدِّيمقراطيّ الأصيل فيها.
:(2) تعي على المَدى المُتوسِّط أو الطَّويل نسبيّاً أنَّ رحيلَ النِّظام أو ترحيلَهُ أصبَحَ مَسألة وقت، لذلكَ لا تُريدُ أنْ تُبقِي في سوريّة أي سلاح استراتيجيّ يُهدِّدُها عندَ مجيء نظام جديد مُستقبَلاً؛ لهذا هيَ عمِلَتْ وما زالتْ تعمَلُ بمَنهجيّة دقيقة على تنظيف سوريّة عسكرياً. ويكفي أنْ نتذكَّر أنَّ نتنياهو كانَ وراء إقناع أوباما بصفقة تسليم السِّلاح الكيماويّ الذي يملكُهُ النِّظام مُقابل عدم توجيه ضربة عسكريّة لهُ بعدَ قيامِهِ بالضَّربة الكيماويّة الأكبَر للغوطة في 21 آب/ أغسطس 2013.
لقد عجزَ الكثيرونَ عن فَهْم التَّرابُط الوظيفيّ المُعقَّد بينَ النِّظام السُّوريّ وإسرائيل، فمنذ استيلاء النِّظام على السُّلطة قدَّمَ مَعالِمَ دورِهِ الوظيفيّ بوصفِهِ رأسَ حربةٍ لتبريد جبهة الجولان، واحتواء المُقاومة في سوريّة والمنطقة، وضرب مُنظَّمة التَّحرير الفلسطينيّة.
فضلاً عن ذلكَ، قدَّمَ النِّظام أوراق اعتمادِهِ إلى الغرب وإسرائيل بوصفِهِ السَّدّ المنيع في وجه أيِّ مدٍّ إسلاميّ يُهدِّدهُما، مُستثمراً في (الإسلاموفوبيا) خارجيّاً وداخليّاً، ومُخترقاً الأقطاب الإسلاميّة نفسها لتفتيتِها في مكانٍ هُنا، أو توظيفِها في مكانٍ هُناك، وترويض الأقطاب الأقلَّويّة (ولا سيما الطّائِفة العلويّة) وترهيبها وترغيبها في آنٍ معاً.
لم يكُن تصريح ابن خال الرَّئيس السُّوريّ رامي مخلوف في حوارِهِ مع صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكيّة بتاريخ 12/5/2011، مُفاجئاً للإسرائيليّين أنفسِهِم أو للغربيّين الذين فهِموا الرِّسالة بعُمق، بقدر ما كانَ مُفاجئاً للكثيرين من السُّوريّين!، حيثُ قال فيه ما معناه: “إنَّ أمن إسرائيل من أمن سوريّة”، وقال في الحوار نفسِهِ ما معناه أيضاً: “السَّلفيون هم البديل عن النِّظام “، ولذلكَ كانَ هناكَ قصور نخبويّ وشعبيّ تاريخيّ في فَهْم صلة النِّظام الرَّسميّ العربيّ على نحْوٍ عام بإسرائيل، ومدى تلازُم أو وَحدة مَسارَي الكفاح الثَّوريّ من أجل الخلاص من أنظمة الاستبداد العربيّة، ومن الاحتلال الإسرائيليّ لفلسطين والأراضي العربيّة في آنٍ معاً، وهوَ التَّلازُم الذي يمنح الثَّورة السُّوريّة وثورات الرَّبيع العربي بُعداً هُوِيّاتيّاً آخَرَ، رُبَّما كانَ مَسكوتاً عنهُ أو غامضاً لعُقودٍ طويلة في أذهان الكثيرين. ولهذا كانَ الشِّعار الأشهر الوارد في منشور وضعَهُ المُناضل والمُفكِّر الفلسطينيّ السُّوريّ الرّاحل سلامة كيلة في بدايات الثَّورة السُّوريّة، والذي كانَ (أي هذا الشِّعار) -إلى جانب نشاطه الثَّوريّ الجذريّ- من أهمّ أسباب هلَع النِّظام منه واعتقالِهِ وترحيلِهِ من سوريّة، حيثُ يرد في هذا المنشور: “من أجل تحرير فلسطين، نريد إسقاط النظام “(يُمكنُ الاطِّلاع في هذا الإطار على مَقالة الباحث ناجي الخطيب المنشورة في موقع “رمّان” بتاريخ 29/3/2019، والمُعنونة بِـ: من أجل تحرير فلسطين، نريد إسقاط النظام).
وهكذا، يبدو أنَّهُ من المُستحيل فَهْم مآل الثَّورة السُّوريّة، وآفاقِها الهُوِيّاتيّة المُستقبليّة بينَ الزَّمن الخطِّيّ الأُفُقيّ وزمانيّة تكرار الاختلاف، من دون فَهْم آفاق الصِّراع العربيّ/ الإسرائيليّ، ولا سيما بما يُحكَى عنهُ الآن بخصوص “صفقة القرن”، والتي كانَ من بدايات انعكاساتِها العمَل على مُحاوَلة ابتلاع الثَّورات عبرَ وصفة تمزيق المنطقة إثنيّاً وطائفيّاً، مُروراً بنقل السَّفارة الأمريكيّة إلى القدس، وانتهاءً بالاعتراف الأمريكيّ بالجولان أرضاً إسرائيليّة.
الدَّور الوظيفيّ لإيران قد أنجَزَ في سوريّة والوطن العربيّ ما لم تكُن تحلم أمريكا وإسرائيل بإنجازِهِ عبرَ عشرات أو مئات السِّنين، وأعني بذلكَ تفتيت النَّسيج الاجتماعيّ السُّوريّ والعربيّ عبر تجذير شرخ الصِّراع الشّيعيّ/ السُّنِّيّ الزّائف الذي كانت إيران رأس حربتِهِ في العراق ولبنان واليمن، وتحديداً في مُواجَهة الثَّورة السُّوريّة.
ترجم علاء الدّين أبو زينة في جريدة “الغد الأردنيّة” مقالة بتاريخ 11/10/2018، بعنوان: “تفكيك شيفرة مخطط بايبس، ترامب وكوشنير المُسمّى بِـ (صفقة القرن)” للأكاديميّ والعالِم المُختصّ في القانون الدوليّ والباحث في الشّؤون الدّوليّة ريتشارد فولك منشورة في مجلّة “فورين بوليسي جورنال” بتاريخ 12/9/2018، وممّا جاء فيها حولَ كيفيات التَّفكير بتصفية القضيّة الفلسطينيّة: “الأسوأ من تبجُّح ترامب الطَّنّان هو أنَّ هناك على ما يبدو منطقاً خبيثاً يكمن خلف هذا الاقتراح المجنون الذي ينبع من المُخيِّلة الصّهيونيّة المُتطرِّفة لدانيال بايبس. وكان بايبس، قد نشر قبل بضعة أشهر، عبرَ (منتدى الشَّرق الأوسط)، دعوة إلى اعتناق ما سمّاه بِـ (الجانب المُنتصر). وقد أدركَ بايبس، المُفكِّر الذّكيّ والمُدرَّب، السَّبب في فشل مسار أوسلو الدُّبلوماسيّ بشكل ذريع كوسيلة لإنهاء الصِّراع الفلسطينيّ _ الإسرائيليّ عبرَ المفاوضات. وأرفق استنتاجه بتأكيد تاريخيّ أنَّ الصِّراعات المُطوَّلة بين الأعداء العرقيّين نادراً ما تنتهي بالتَّسوية أو الوفاق. إنَّها تنتهي بانتصار على أحد الجانبين، وقبول الطَّرف الآخَر بالهزيمة”..
ويستكملُ الكاتب قائِلاً: “بهذا الفَهم، تصبح الأحجية السِّياسيّة التي ينبغي حلَّها بالنِّسبة لبايبس عندئذٍ من طبقتين: كيفَ يتمُّ إقناع الحكومة الأميركيّة بالتَّحوُّل عن جهدها الدِّعائيّ الفاشل للتَّفاوض على حلّ، إلى نهج يساعد إسرائيل نتنياهو على النَّجاح في فرض حلّ؛ وبعد ذلك، كيفَ تتمُّ مُمارَسة ضغط إضافيّ كافٍ على الوضع الفلسطينيّ على الأرض وعلى الصَّعيد الدَّوليّ، حتّى يواجه قادتهم الواقع ويتخلّوا عن مطالبهم السِّياسيّة مرَّةً وإلى الأبد، ويصبحوا قانعين بما سيُعرَضُ عليهم عندئذٍ من التزام بالتَّحسين الاقتصاديّ لظروفهم فحسب. (…).ولنُفكِّر في الخُطوات التي اتّخذتها الولايات المتّحدة على مدار الأشهر الثّمانية الماضية، وسيظهر نمط يمكن تصوُّر أنَّه يسعى إلى تطبيق اقتراح بايبس عن (الجانب المُنتصر :(نقل السّفارة الأميركيّة من تلّ أبيب إلى القدس، ومُهاجمة الأمم المتّحدة، بما في ذلكَ الانسحاب من مجلس حقوق الإنسان بسبب تحيِّزه المناهض لإسرائيل؛ وتجميد، ثم قطع المُساعدات الماليّة الأساسيّة عن عمليات وكالة الأمم المتّحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيّين (أونروا) في غزّة والضِّفة الغربيّة؛ وإغلاق مكتب منظّمة التّحرير الفلسطينيّة في واشنطن؛ وغضّ الطّرف عن جرائم إسرائيل ضدّ الإنسانيّة التي ارتكبتها ردّاً على (مسيرة العودة العظيمة) عند سياج غزّة؛ وتوجيه التَّهديدات للمحكمة الجنائيّة الدّوليّة؛ ومنح مُبارَكة ضمنيّة للتَّوسُّع المُتسارع للمُستوطنات الإسرائيليّة غير الشَّرعيّة (التي تجاوز مُستوطنوها مُسَبَّقاً 600.000.”).
يبقى السُّؤال مفتوحاً وقابِلاً لمُناقشة غنيّة جدّاً حول صلة “صفقة القرن” بالمآل الذي سلكتْهُ وتسلكُهُ الثَّورة السُّوريّة، وآفاقِها وآفاق ثورات الرَّبيع العربيّ، وكيفيّات تعامُل (النِّظام الرَّسميّ العربيّ) مع ضغوط النِّظام الرَّأسماليّ العالَميّ، ولا سيما الضَّغط الأمريكيّ من جانبٍ أوَّل، وضغط الشُّعوب العربيّة المُحتقِنة هُنا، والثّائِرة هُناك من جانبٍ ثانٍ، في مُحاوَلة بائِسة ويائِسة من هذِهِ الأنظِمة المُتهالِكة لتقديم التَّنازُلات، وتمرير “صفقة القرن” مُقابل إجهاض الثَّورات، وبقائِها على الكراسي؟!
وهُنا تأخذ الثَّورات العربيّة، في اعتقادي، خُصوصيتَها الاستثنائيّة، وهُوِيَّتَها التَّحرُّريّة الإنسانيّة المُزدوجة في صراعِها ضدَّ الاستبداديْن المحلِّيّ والإسرائيليّ/ الرَّأسماليّ العالَميّ.
رابعاً: الفخّ الأصليّ (انحلال بِنية النِّظام، والتَّدويل بوصفِهِ احتلالاً)
كانَ الفخّ الأصليّ الذي واجهتْهُ الثَّورة السُّوريّة نابِعاً من موقف النِّظام السُّوريّ العدائيّ جذريّاً منها، وقرارَهُ النِّهائيّ بمُواجهتِها بأقصى حُدود القمع، عبرَ آليّات عُنف السُّلطة المَنهجيّ، وهيَ التي تستولي على مُقدَّرات الدَّولة بأكملِها، والتي وظَّفَتْها لصالِح مُحاوَلة وأد الثَّورة، حيثُ انطلَقَ النِّظام السُّوريّ أوَّلاً من مُستوى نقد تعامُل النِّظاميْن التُّونسيّ والمصريّ مع ثورتيْهِما بوصفِهِ تعامُلاً ناعِماً يفتقدُ إلى القبضة الحديديّة الكافية لإجهاض الثَّورتيْن، وهذا ما أرادَ النِّظام تجنُّبَهُ في مُواجَهة الثَّورة السُّوريّة كما كانَ يظنُّ؛ واضِعاً في حُسبانِهِ ثانياً مُحاكاةً مُتكامِلةً للأحداث الدَّمويّة في أواخِر السَّبعينيّات وبداية الثَّمانينيّات، والتي أنهاها على نحْوٍ حاسِم بمجزرة حماه في العام 1982، لكنَّ عجزَهُ عن الحسم كما كانَ يتوهَّمُ، هوَ الأمر الذي فتَح باب (التَّدويل) ثُمَّ (الاحتلالات) على مصراعيْه، حيثُ استدعَتِ السُّلطة الحاكِمة الإيرانيّين والرّوس على نحْوٍ مُباشَر، واستدعتْ الآخَرين على نحْوٍ غير مُباشَر.
كتبتُ في مقالتي المُعنونة بِـ “(استشرافات) ثوريّة (أو ما يُشبه لوحة بانوراميّة)”، والمنشورة في “شبكة جيرون الإعلاميّة” بتاريخ 24/12/2017 تحليلاً يتعلَّق بانحلال بِنية النِّظام، قلتُ فيه: “لم يعد خافياً على أحد التَّفكُّك الهائل في بنية النِّظام، ولا سيما في الجانب العسكريّ، وإن كان يحتفظ بكتلة مُتماسِكة نوعاً ما حول دمشق، وفي بعض مناطق ما يسمّيه بِـ (سوريّة المفيدة)، لكنَّ قوَّته العسكريّة فائضة العنف قد اهترأت في الحقيقة، منذ أواسط العام 2012، وكاد يسقط أكثر من مرّة لولا جرعات التَّدخُّل الإيرانيّ المُتتالية، ثم التَّدخُّل الروسيّ الكبير منذ أيلول 2015 بعد إخفاق الإيرانيّين في حمايته، لتتحوَّل قدراته الحربيّة إلى قدرات ميليشياويّة صغيرة وتابعة لقوى الاحتلال المختلفة، ولا سيما بعد نضوب خزّانه البشريّ إلى حدٍّ بعيد، وخروج قراره (السِّياديّ) من يده، فضلًا عن أن تفكُّكه لا يقف عند الجانب العسكريّ، فهو يعيش على أكسجين الدَّعم الاقتصاديّ أيضاً، في ظلّ أزمات مرعبة تعصف بالدّاخل السُّوريّ، ولا تستثني البيئات المُؤيِّدة المُحتقنة معيشيّاً، على أن لا ننسى أن هذه المعطيات جميعها تضع مستقبله بين التَّرحيل الكامل أو التَّرحيل الجزئيّ على طاولات الصَّفقات الإقليميّة والدَّوليّة، وبوجهٍ خاص بعد قرب استنفاد ورقة (داعش) ومحاربة الإرهاب، وعجزه ليس فقط عن إعادة عقارب السّاعة إلى الوراء؛ ولا عن إعادة سيطرته على كامل الجغرافيا السُّوريّة؛ إنَّما كذلك قصوره الفادح في إدارة المناطق الموجودة تحت سلطته في ضوء تعفُّن الهياكل الإداريّة والأمنيّة وفسادها، وتحوُّل النُّفوذ في محاور كثيرة إلى قوى ميليشياويّة تعمل لصالحها الخاصّ”، ويبدو أنَّ شتاء العام 2018/ 2019 بما انطوى عليه من أزمات سياسيّة واقتصاديّة هائِلة يُثبتُ صحَّةَ تحليلي هذا.
لقد جرَّ النِّظام برعونة أوهامِهِ في استعادة السَّيطرة على كامل البلاد، وسحق الثَّورة، صيرورة التَّدويل والاحتلالات المُتعدِّدة على نحْوٍ غير مَسبوق تاريخيّاً، وقد كَتَبَ المُناضل والمُفكِّر ياسين الحاج صالح في مَقالتِهِ المُعنونة بِـ “سوريّة والتَّحوُّل الأجنبيّ”، المنشورة في موقع “الجمهوريّة” بتاريخ 14/7/2018 الآتي: “طوَّرَ النِّظامُ الذي لم يعرض أيّ تسوية سياسيّة على معارضيه طابعاً أجنبيّاًّ جدّاً، فصار مركزُ التّفكير والقيادة فيه إيرانيّاً، وصار يتصرَّف كقوّة قتل لا يجمعها جامعٌ بالمقتولين. البراميل وقصف طوابير الخبز وبِدءُ استخدام السِّلاح الكيماويّ، مُؤشراتٌ على قفزة في الكراهيّة من قبل مركز التّفكير والتّقرير الجديد، قفزة في (الأجنبيّة) كذلك.”، ويستكملُ في المَسألة نفسِها قائِلاً: “أثناء الثَّورة تفوَّقَ النِّظام على نفسه، على نحو يتجسّد بخاصّة في صناعة التَّعذيب المُنظَّمة في المقرّات الأمنيّة، مثلما كشف عنها ملفّ سيزار، وتقارير مركز توثيق الانتهاكات ومنظّمات حقوق سوريّة ودوليّة. ويتلاقى وفود أجانب من إيران ولبنان والعراق وأفغانستان وغيرهم، مع تنامي أجنبيّة المحليّين بالذّات: أعني أجنبيّة المشروع، تحويل الجمهوريّة إلى حكم سلطانيّ مُحدَّث، يدوم (إلى الأبد) على نحْوٍ يقتضي استعباد عموم السّوريّين سياسيّاً. قادَ هذا التّلاقي إلى وضع لا نعرف نظائر له في عالم اليوم، تحويل سوريّة إلى محميّة أجنبيّة، إيرانيّة روسيّة، مع الإسفار عن وجهٍ طائفيٍّ بالغ الفجور. تصريحات الرّوس المُتكرِّرة، بما في ذلكَ على لسان وزير الخارجيّة لافروف، عن رفض قيام حكم سنِّيّ في سوريّة (لم يُعترَضْ عليها قطّ لا من قبَل النِّظام، ولا من قبَل مثقَّفي الدّولة الباطنة العضويّين و(مُعارضي المُعارَضة)، واكتسحت الرَّمزيات الشِّيعيّة الفضاء العامّ في دمشق (الشِّيعة في سوريةّ نحو نصف بالمئة من السُّكّان)، بما في ذلكَ طقوس اللَّطم في سوق الحميديّة، وصولاً إلى أغانٍ تهين الرُّموز الدِّينيّة السُّنّيّة. العراقيّ الذي توعَّد في أيّار من هذا العام بـ (حرق الشّام) مُستخدماً رمزيّات كلاميّة وطقوسيّة شيعيّة تصرَّف كممثِّل لقوّة احتلال، ربّما مُتجاوِزاً حُدود ما يُناسب أن يُقال علناً، لكنْ ليسَ فيما قاله ما يتجاوزُ منطق احتلال أجنبيّ على معرفةٍ بتكوين العميل المحلِّيّ وهواه”..
يبقى السُّؤال مفتوحاً وقابِلاً لمُناقشة غنيّة جدّاً حول صلة “صفقة القرن” بالمآل الذي سلكتْهُ وتسلكُهُ الثَّورة السُّوريّة، وآفاقِها وآفاق ثورات الرَّبيع العربيّ، وكيفيّات تعامُل (النِّظام الرَّسميّ العربيّ) مع ضغوط النِّظام الرَّأسماليّ العالَميّ
لعلَّ من أكبَر المَقولات الهزليّة المُتداوَلة باستسهال واختزال وتلفيق مَقولة (انتصار النِّظام)، والتَّرويج لها، ولا يعني تفكيك أكذوبة هذِهِ المَقولة أنَّ الثَّورة قد انتصرَتْ حتّى هذِهِ اللَّحظة بالمَعنى العيانيّ السِّياسيّ المُباشَر، لكنَّها بالتَّأكيد لم تُهزَم، ولنْ تُهزَم، ولذلكَ قالَ المُعارِض والمُفكِّر الدُّكتور برهان غليون في حوار لهُ مع هشام أبو مريم بعنوان “نظام الأسد انحلّ ولم يعُدْ له وجود”، نُشِرَ في موقع “الجزيرة نت” بتاريخ 16/3/2018 الآتي: “لم تعد المَسألة في نظري مَسألة ثورة ونظام؛ إنّها اليوم مَسألة وجود سوريّة نفسها في ما وراء الثّورة والنِّظام. ما يمكن أن نقوله في هذا المَجال هو أنَّ سوريّة لن تعود وتبعث من موتها ما لم تتحقَّق أهداف الثَّورة السُّوريّة أو الأساسيّ منها، وفي مُقدِّمة ذلك تفكيك النِّظام الذي يعتبر المسؤول الأوَّل عن موتها وتدميرها وتشريد شعبها، لا لهدف سوى الاستمرار في حكمها ونهبها واستعباد سكّانها. الثَّورة ليست المعارضة السِّياسيّة الضَّعيفة، ولا الفصائل المُقاتلة التي لم تعرف كيف تُوحِّد نفسها وتُنظِّم جهودَها لتحقيق الانتصار العسكريّ الذي كان في مُتناول اليد، ولكنَّها الشُّعلة التي تنير اليوم بمبادئها وقيم الحُرِّيّة والكرامة التي حملها قلب وروح كلّ سوريّ وعقله. الثَّورة لا تُهزَم، لكنَّها تتحوَّل إلى خميرة لتحوُّلات عميقة لا تقومُ المجتمعات من رميمها إلاّ بتحقيقها؛ فمن المستحيل أنْ يكونَ بعدها مثل ما كانَ قبلها. من يعيشُ نزعه الأخير، بل نهايته الحتميّة، وهذا ليسَ كلاماً إنشائيّاً، هو النِّظام الذي تحوَّلَ من سُلطة متماهية مع الدَّولة، هو والمافيات المُلتفّة حوله، إلى فريق من المُرتزقة، مثله مثل المجموعات الأخرى، مُجنَّد في خدمة أهداف الدُّول المُحتلَّة التي لم تأتِ لإنقاذه، كما صرَّحَ أحد مسؤوليها الإيرانيّين، وإنما لتجنيده في مشاريعهم الطّائفيّة والجيوسياسيّة.”.
لكنَّ الذي ينبغي أنْ أُشيرَ إليه بدقّة أنَّ مَقولة نهاية النِّظام، وأنَّ سوريّة باتَتْ بلداً مُحتلّاً لا تنفي تلازم الصِّراع مع بقايا النِّظام ومع القوى (المُحتلَّة) الحليفة له بغضّ النَّظَر عن أجنداتِها ومَوازين قواها في الوقت نفسِهِ؛ أي إنَّ الأمر لا يُعفينا من تلازم مَسارات الصِّراع وتشابُكِها المُعقَّد، وهُنا أستحضرُ مَقولة المُعارض والكاتب غسّان المفلح التي كرَّرها في أكثَر من مَنشور له على صفحتِهِ في الفيس بوك، كمنشوريْه بتاريخ 27/8/ 2018، و4/9/2018، والتي يقولُ فيهما إنَّ الاحتلال الفعليّ لم يكُنْ لسوريّة بقدر ما كانَ للثَّورة السُّوريّة، ولذلكَ كَتَبَ في مَقالة لهُ بعنوان “الثَّورة السّوريّة التي انتصرَتْ”، المنشورة في موقع “إيلاف” بتاريخ 15/12/2017 الآتي: “الثَّورة السُّوريّة هزمَتِ النِّظام سِلميّاً بكلّ ما تعني هذه الكلمة من مَعنىً، لكنَّ الذي حدَثَ بعد العام 2011 كانَ احتلالاً للثَّورة السُّوريّة”..
إنَّ من أهمّ تحدِّيات الثَّورة السُّوريّة الآن، والسُّوريّين على نحْوٍ عامّ، يتعلَّقُ بالقُدرة على اللَّعب على التَّناقُضات بينَ قوى (التَّدويل والاحتلال)، وهو الأمر الذي يحتاج إلى إعادة نظَر جذريّة في واقع القوى السِّياسيّة والعسكريّة السُّوريّة وكينونتِها الحاليّة، وهذا حديث مُرتبط جذريّاً بالهُوِيّة الوطنيّة للثَّورة، فالمِحوريّ يرتبطُ بالحفاظ على ذلكَ الخيط الرَّفيع لِـ (وطنيّة) الحُلْم الثَّوريّ السُّوريّ وخُصوصيّة الهُوِيّة الثَّوريّة السُّوريّة بينَ الزَّمن الخطِّيّ الأُفُقيّ وزمانيّة تكرار الاختلاف، وهو الأمر الذي يعني في صُلب ما يعني وَحدة مَسارَي الصِّراع بينَ الدِّفاع عن الهُوِيّة التَّحرُّريّة الدّيمقراطيّة للثَّورة من جانبٍ أوَّل، والدِّفاع عن الهُوِيّة التَّحريريّة الاستقلاليّة من قوى التَّدويل والاحتلال من جانبٍ ثانٍ، وقد دعا المُعارض الدُّكتور بدر الدّين عرودكي في مَقالةً بعنوان “مُواجَهة احتلال سوريّة أوَّلاً”، نُشِرَتْ في “شبكة جيرون الإعلاميّة” بتاريخ 6/9/2018 إلى التقاء كُلّ السُّوريِّين على فكرة النَّظَر إلى جميع القوى المَوجودة على الأرض السُّوريّة بوصفِها قوى احتلال، ليكونَ ذلكَ مدخلاً (وطنيّاً) جامِعاً إلى مُقاوَمتِها، ولا سيما إذا سلَّمنا أنَّ النِّظام باتَ تابعاً هامشيّاً للآخَر/ المُحتلّ، حيثُ “لم يعدْ (…) سوى دمية يُحرِّكها متَى يشاء وكيفَ يشاء، كُلّما احتاج إلى ضرب من (الشَّرعنة)”..
المصدر: حكاية ما انحكت