منذ بداية الثورة السورية ظهرت إشكالية التمثيل السياسي لها، وتمثلت هذه الإشكالية في عملية تنازع التمثيل بين شخصيات معارضة إجتمعت في الداخل، وأطلقت جسماً أسمته هيئة التنسيق الوطني، وشخصيات معارضة إجتمعت في تركيا وأطلقت بعد عدة محاولات ماسمي في حينه بالمجلس الوطني السوري، تيمناً بالتجربة الليبية.
ولم تتح التجربة السياسية السورية، التي عانت من تصحر كبير نتيجة النظام الشمولي، الذي فرض وفقاً للمادة الثامنة من الدستور أن يكون التمثيل السياسي الشعبي معبراً عنه في مؤسسة السلطة من خلال حزب البعث، ضمن ماسمي في أدبياته بالديمقراطية المركزية. لم تتح هذه التجربة السياسية الضحلة أي إمكانية لفرز تمثيل حقيقي لقوى الثورة التي يجمع ممثلي الفعاليات التي شكلت مابعد إنطلاق الثورة، أنها كانت ثورة عفوية في إنطلاقتها ولم تستطع أي قوة سياسية احتوائها والتحكم في توجيهها.
ومع تحطم جدار الخوف الذي وصم السنوات الخمسون الأخيرة من حياتنا، وانتشار نخب أبناء الوطن في دول ذات عراقة في التجربة الديمقراطية، إضافة إلى إنغماس الشرائح المجتمعية كافة في المعرفة غير المسيطر عليها بجهاز أمني شمولي، من خلال وسائط التواصل الإجتماعي التي أتاحتها التكنولوجيا الحديثة، كل ذلك فتح المجال للحوار المجتمعي حول مشروعية أي قرار من قبل أي جهة تحاول كسب أي سلطة على المجتمع السوري المنتفض أو المهجر أو النازح.
جاء القسم الأعظم ممن تصدروا صفوف “المجلس الوطني السوري” بداية و “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة” تالياً من أحزاب المعارضة التقليدية، جاءوا حاملين معهم قناعاتهم بأنهم قادة العمل الوطني والثوري، ويفترض بالقواعد الثورية أن ترضخ لهم وتوكلهم أمرها، مادامت هذه القيادات قد أخذت رضا القوى الدولية وبعض الأطراف الإقليمية الفاعلة لإستمرار تمثيلها لمؤسسات الثورة بما تراه مناسباً.
على الرغم من كون معظم هذه الأحزاب ومعظم قواعدها، هشة وضعيفة الفعالية وبعيدة عن التأثير الجماهيري الحقيقي، ناهيك عن غيابها الكامل عن الاتحادات والنقابات المهنية التي احتكرتها عصابات النظام. لذا واجهت، مع انطلاق ثورة الحرية والكرامة، مشكلة عدم وجود مفاتيح ووسطاء بينها وبين الحاضنة الشعبية للثورة، وهذا مادفعها إلى محاولات بائسة لاحتواء الثورة عن طريق تقديم دعم مالي لبعض التنسيقيات الشبابية والترويج بتبعيتها لها أو عن طريق تشكيل تنسيقيات خلبية وتضخيم حجمها ودورها في فعاليات الثورة والادعاء أنها موجودة في قلب الثورة.
بعد هذه السنوات العشر على انطلاق الثورة السورية، اعتبر كثيرون ممن شاركوا فيها أنها انتهت، وأن ما يجري صراعٌ مسلحٌ دموي ترعاه قوى دولية وإقليمية، وأن المجموعات السلفية هي التي تسيطر حقيقة على المشهد “المضاد للنظام”، كما أن القتل والتدمير والتهجير الذي حدث أظهر ضخامة الكلفة التي ألمّت بسورية وهنا كان لا بد من إعادة تقييم لقوى المعارضة التي اعتبرت نفسها أنها ممثل الثورة، من دون أن يختارها أحد، وهي من أسهم في إيصال الوضع إلى ما نحن فيه، سواء من ناحية تضخّم دور “السلفية الجهادية” والأصولية، أو بالوصول إلى تحكّم دول إقليمية وكبرى بمسارات الوضع السوري.
فمنذ بداية إنطلاق الثورة كان واضحاً الانفصال بين المعارضة ممثلة بأحزابها التقليدية والحاضنة الشعبية، حيث كانت المعارضة غارقةً في همومها، وأزمتها بعد أن فرض استبداد السلطة وشموليتها تهميشها، نتيجة حملات اعتقال، طاولت كثيرين من كوادرها. إلا أنها محورت كل خطابها بعد الثورة عن الحرية والكرامة، أو إسقاط النظام بالتدخل “الخارجي”. وبهذا، لم تلتفت إلى الشارع، حيث كان يحتاج قيادة فعلية، وبلورة خطابٍ يعبّر عن مطالب الحاضنة الشعبية كلها، ويضمن توحيدها كلها في وضعٍ كان يجري اللعب لتحقيق شرخ عميق بينها عبر استخدام التخويف الطائفي.
وقد أدى رهان المعارضة على الخارج، وفقدانها المشروعية الحقيقة من قوى الثورة الفاعلة، إلى نقل نشاطها إلى الخارج، وتشابك أجندتها مع مصالح الدول الإقليمية، على أمل أن تسقط هذه الدول النظام وتفرضها بديلاً عنه. وبهذا، سمحت بأن تخضع الثورة لمصالح تلك الدول وسياساتها وصراعاتها. وأن تكون أداة لهذا الخارج. راهنت وظلت تراهن على أن هذه الدول هي التي ستساعدها على إسقاط النظام واستلام السلطة. وبهذا، كان واضحاً أنها لا تفهم الواقع العالمي وتحولاته، ولا مصالح الدول التي تعتمد عليها.
لذلك فإنها دفعت إلى سياسة عسكرية مضرّة من خلال ما أطلق عليه سياسة التحرير في وضع مختلّ كثيراً لمصلحة عصابات النظام، في حين أن ما كان يوازن ميزان القوى ويغيره هو قوة الحاضنة الشعبية، وليس القوة العسكرية، وهي التي أدت سياسة التحرير إلى تفكيكها، عبر الرد الوحشي الذي قامت به عصابات النظام، بتدمير كل المناطق التي ثارت، ما أفضى إلى تهجير هائل، ومن ثم حصار المقاتلين في مناطق منعزلة، أفضت إلى استسلام كثير منها. كانت خطة عصابات النظام واضحة، وتقوم على محاصرة المناطق المتمردة مقدمة لإخضاعها، وكان يبدو أن بساطة المقاتلين، أو غباء أطراف المعارضة، يوصل إلى ما تريده عصابات النظام.
يمكن القول إن المعارضة التي تصدرت المشهد السياسي كانت تنطلق من منظور يحاول استغلال الثورة لتحقيق مصالح ذاتية، بعيداً عما أراده الشعب الذي ثار يريد إسقاط عصابات النظام، فقد عمل بعضها على استغلال الثورة من أجل تحقيق “الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية”، وكان بعضها ينطلق من صراع غريزي، يريد الاقتصاص من عصابات النظام التي سحقته أو ظلمته، حتى وإنْ تحقق ذلك بالتدخل الخارجي، أو تدمير البلد. وكثيرون ممن ادّعوا المعارضة كانوا يعتقدون أن عصابات النظام آيلة إلى السقوط السريع، وعليه أن يحجز مقعداً في السلطة الجديدة، وهو أصلاً لا يعرف مشكلات الشعب، ولا يفكّر بها. وأيضاً كان هناك من يمتلك أوهاماً كثيرة عن التغيير والعالم والبديل.
لقد أثر كل ذلك على الثورة، وأوجد تعقيدات، وأضراراً، أسهمت في وصول الوضع إلى ما نحن فيه. ففي الوقت الذي عملت فيه عصابات النظام على تصفية التنسيقيات التي ضمت فئاتٍ شبابيةً وناشطين لديهم قدر من الفهم السياسي، ظهرت شخصيات معروفة بتكفير الأقليات، وبالدعوة الأصولية المغرقة، وادّعت أنها المعبّر عن الثورة، وكانت تلقى تجاوباً من أطراف معارضة وعكست ذلك في تسميات أيام الجمع لتصبّ في المحور ذاته. وفي ذات الوقت كان العمل على الأسلمة والتسليح يسمح باللعب بالفصائل المسلحة التي باتت تحتاج المال والسلاح. وقد ظهر خطر الأسلمة جلياً، بعد أن بدأت عصابات النظام خطتها، لتشكيل مجموعات سلفية إرهابية، حيث أطلق سراح “جهاديين” معتقلين، وأخذت بتنفيّذ خطة تشكيل فرع لتنظيم القاعدة، ثم “داعش”. فقد أسهمت الأسلمة في إيجاد بيئة قابلة بهذا الوجود، ومهيئة لتقبّل مجموعاتٍ تأتي من الخارج. خصوصاً أن أطرافاً متعدّدة في المعارضة الخارجية رحبت بـهذا الوجود وأيدته ودعمته. وبهذا، أصبحت المجموعات الأصولية القوة الأكبر، سواء تعلق الأمر بـ “داعش” وجبهة النصرة أو حتى المجموعات الأخرى التي لا تختلف عنها كثيراً. لقد وُجدت هذه المجموعات ونمت تحت غطاء معارضة عاجزة تنتظر من يوصلها إلى السلطة. وأخيراً، أفضى ذلك الى أن تتحكم “الدول الداعمة” بالقرار، وأن تحدّد أدوار القوى، وتكتيكاتها، وأن تستخدمها في سياساتها، بما يخدم مصالحها.
لقد كشفت ممارسات أحزاب المعارضة كما ذكر آنفاً، عن نقاط ضعف كثيرة وخطيرة تبدأ بانفصالها عن المجتمع وهشاشة علاقتها به وبضحالة معرفتها بما يعتمل داخله من تفاعلات، ناهيك عن جهل فاضح بعصابات النظام وبناه وقواه والعقل الأمني الذي يديره، ما نم عن فقر تجربتها النضالية وعن سيطرة تصورات وتقديرات نمطية سطحية على عقول معظم قادتها.
وإن كانت تجري في أيامنا هذه محاولات حثيثة من أطراف عدة لإيجاد جسم سياسي جديد، يفترق عن كيانات ومنصات المعارضة التي تتصدر المشهد السياسي، والتي تدعي تمثيل السوريين وثورتهم والدفاع عن مطالبهم في الخلاص من نظام الاستبداد الأسدي. وأُطلقت في سياق ذلك مبادرات كثيرة، إلا أنه، وفي ظل تعذّر عقد مؤتمر وطني عام، فقد تشكلت مجموعات نقاش على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، وفي مختلف الدول التي يوجد فيها السوريون، وإن كان بعض المبادرين يعتبر أن الكيانات والمجموعات السياسية التي يسعون إلى تشكيلها لا تطرح نفسها بديلاً أو منافساً لأي كيان أو مجموعة معارضة أخرى، وأن مجموعتهم تخاطب الشعب السوري أولاً، والقوى الإقليمية والدولية ثانياً.
لكن الإشكال المستحكم في معارضتنا السورية، هو أن كياناتها السياسية لم تحتكم إلى المؤسساتية والعمل الجماعي، وكانت الفردية والشللية عنواناً لعملها وممارساتها غير الديمقراطية، حتى أنها لم تقدم أي جردة حساب أو وقفة تأمل لأدوارها طوال السنوات الماضية، بالرغم من كل الهزائم والانكسارات. والمؤسف هو أن بعض الشخصيات التي لعبت أدواراً سلبية ومعطلة، أخذت تطالب بضرورة المراجعة النقدية، بعد استقالتها من التشكيلات السياسية المعارضة نتيجة انتهاء دورها وفوات صلاحيتها. بينما كان المطلوب منها القيام بنقد ذاتي وتحليل دقيق وعميق وشامل، بغية تحديد مواطن الخلل والضعف وأسباب العجز، ومعرفة الحيثيات والتأثيرات التي أسهمت في الهزائم والانكسارات، ثم البدء في عملية إعادة بناء جديدة.
إننا نعتقد بأنه في آذار/مارس 2011 كانت بداية الحراك الثوري في سورية، حراك عجلته أحداث الربيع العربي، لكنها لم تخلقه، ولم تصطنعه، كان الحراك الثوري في آذار/مارس تطوراً في مستوى الحركة الشعبية المعارضة، وإن كانت عصابات النظام وحلفائه قد تمكنت في النهاية من إجهاض هذه الثورة، والتي هي في حقيقتها حلم بحياة ديموقراطية، تسود فيه إرادة الشعب، ويملك الوطن وأبناؤه إرادتهم الحرة المستقلة لا يعيقها عائق، وتسترد الأمة كلها حقوقها المادية والثقافية والروحية، وبما ينسجم مع مسارها التاريخي الطبيعي. وإن كنا نقر بأنه تم مرحلياً إجهاض هذا الحلم والتطلع، ودفع الانسان السوري ثمناً باهظاً وغير مسبوق، وجنى ثماراً مرة جداً، تمثلت في تمزيق وتدمير للأرض، والشعب، والنسيج الاجتماعي، وتهجير من الوطن لم يسبق له مثيل، وظهر واضحاً أن كل القوى العالمية التي لها مصالح في وطننا، وكل المكونات والبنى والايديولوجيات التي تعيش على حالة الضعف التي كنا نعيشها، أرادت أن تجعل مواجهتها لهذه الثورة معركة حاسمة ونهائية.
إلا أنه باعتبار هدف الثورة هو تحقيق التغيير السياسي، والانتقال من حكم الأسرة والعشيرة والمافيا، إلى حكمٍ يخضع لإرادة الشعب، والمعبّر عنه بصندوق الاقتراع، كما أصبح عليه معيار الحكم الصالح في هذا العصر. وبالتالي يختصر الهدف الرئيس بتحقيق التغيير الديمقراطي، فلا بدّ من وجود قوى سياسية حقيقية تأخذ مشروعيتها من الوطنية السورية، فالديمقراطية لا تعيش في الفراغ، وتحتاج إلى قوى فعلية تمارسها وتلعب لعبتها. ونظراً لإنعدام ذلك فيما هو قائم على الساحة السورية كونها لا تمتلك بذور التشكل الديمقراطي بحكم تاريخية التكوين، فلا يبقى لنا سوى أن نعول على جيل الشباب الذي كسر حاجز الخوف وامتلك المعرفة غير المقيدة بأغلال الرقيب، هذا الجيل يفترض به أن ينفض غبار الشعور بالهزيمة، ويمتلك زمام المبادرة ويتجاوز المؤسسات الصورية ليعيد صياغة هياكل الثورة التي سيبنى بها سورية المستقبل مستفيداً من عثرات الأجيال التي نمثلها.
المصدر : صحيفة اشراق