نقاط الخلاف والاتفاق بين طهران وموسكو في سورية

ترجمة: ربى خدام الجامع

نشر المجلس الروسي للشؤون الدولية بالشراكة مع معهد الدراسات الإيرانية- اليوروآسيوية ورقة بحثية تتناول نقاط الخلاف والاتفاق بين طهران وموسكو في سوريا، وتسلط الضوء على العلاقة المركبة للطرفين والتي لم ترقَ إلى درجة الشراكة الاستراتيجية الحقيقية بحسب وصف معدي البحث.
ويقدم موقع تلفزيون سوريا ترجمة البحث على أجزاء دون التدخل في تحريره لنقل وجهة نظر “خبراء” البلدين في الملف السوري كما هي.
الجزء الأول: روسيا وإيران في سوريا وما بعدها: التحديات المقبلة
لم تلق الأزمة السورية المتواصلة بظلال آثارها العميقة على سوريا وحدها، وعلى منطقة الشرق الأوسط فقط، بل أثرت في البيئة الجيوسياسية الأوسع، فقد تحولت تلك الأزمة بطرق عديدة إلى نقطة تحول بالنسبة للعلاقات الروسية-الإيرانية، حيث قربت هاتين الدولتين من بعضهما، وعززت من تواصلهما في عدة ميادين وعلى مستويات مختلفة، وخلقت فهماً أكبر وثقة أعظم بين موسكو وطهران. وعليه، لم تتحول سوريا إلى امتحان صعب بالنسبة للتعاون الروسي-الإيراني، بل أيضاً أصبحت محفزاً مهماً لتعميق هذا التعاون بشكل أكبر، ويشمل ذلك النواحي التي لا ترتبط بشكل مباشر بالنزاع السوري بحد ذاته.
فلقد كشف التفاعل بين روسيا وإيران فيما يتصل بالملف السوري عن مرونة كبيرة. إذ يرى الكثير من المحللين والسياسيين خاصة الغربيين منهم بأن هذا التفاعل مجرد تفاعل وليد الظروف، وبأنه تفاعل تكتيكي ولا يمكن أن يدوم، وأشار هؤلاء إلى أن المصالح الروسية والإيرانية في سوريا ليست نفسها، وبأن هاتين الدولتين ليستا أكثر من شريكتين، ولكنهما قوتان متنافستان أيضاً، ليس فقط في سوريا بل في كامل المنطقة أيضاً. ويتوقع مشككون أن تعتري أزمة كبرى هذه العلاقة، وهذا الأمر لم يحدث في الحقيقة.
وفي الوقت ذاته، من المبكر أن نصف تطور العلاقات الروسية-الإيرانية أنها بلغت درجة الشراكة الاستراتيجية الحقيقية، سواء في سوريا أو في أي مكان آخر. إذ هناك الكثير من العقبات قبل تحقيق تلك الشراكة، وذلك لأن المصالح الروسية والإيرانية في سوريا متداخلة لكنها لا تلتقي بشكل كامل. إذ إن مواقف الدولتين تجاه الأمن الإقليمي والإرهاب وعالم متعدد الأقطاب تتشابه إلى حد كبير، كما تتقارب توقعاتهما لمستقبل سوريا، دون أن تتطابق. وتعكس تلك الفروقات في نهجيهما اختلافات في التاريخ والثقافة السياسية، والجغرافية، وغيرها من العوامل، وإلى جانب كل تلك العوامل، من المهم أن نذكر بأن الشراكة الروسية- الإيرانية كانت مثمرة، وبأنها حققت معظم أهدافها ويمكن أن تصبح أنموذجاً للشراكة في ملفات ونواح أخرى، فلقد كسبت إيران وروسيا خبرة في محاربة الإرهاب وحماية الحكومة السورية الشرعية. ومن الضروري أيضاً تقديم وتنسيق القواعد السياسية بعد الحرب وهي مرحلة أعقد بكثير مما سبقها.
ولهذا السبب تم إعداد ورقة البحث هذه بالشراكة ما بين المجلس الروسي للشؤون الدولية ومعهد الدراسات الإيرانية- اليوروآسيوية لتظهر في الوقت المناسب ولتتمتع بأهمية مميزة. فقد شارك خبراء مبرزون من كلا البلدين في تحليل مقارن للنهج الروسي والإيراني تجاه الأزمة السورية، بهدف تحديد نقاط التقارب والتباعد بين هذين النهجين. ولم يقم أي من هؤلاء الخبراء بتقديم صورة وردية أو تغطية المشكلات القائمة أو حالات عدم الاتفاق بين موسكو وطهران، ومن جهة أخرى، لم ينجر أي من هؤلاء وراء الأحكام المسبقة أو الصور النمطية حول الانهيار الحتمي للتعاون الروسي-الإيراني في سوريا وما بعدها. وهنا لابد لنا أن نلخص بعض النتائج التي خلصت إليها هذه الدراسة وهي:
أهم التحديات والأخطار
موجة تصعيد جديدة: يشترك الخبراء الروس والإيرانيون بالرأي القائل بإن الأزمة التي تحدث في سوريا قد تجاوزت الآن مرحلة الاقتتال الكبرى، وتطورت متخذة بعداً سياسياً، ويبدي كلا الطرفين قلقه حيال ظروف معينة يمكن أن تتسبب بظهور موجة أخرى للتصعيد، ويعترف كلا الطرفين بالمشكلة الكردية، لكن في الوقت ذاته، يؤكد الخبراء الروس على أن أراضي إدلب وشرق الفرات يمكن أن تتحول إلى نقاط ساخنة قد تشهد مواجهة جديدة.
خطر الإرهاب: بالرغم من دحر قوات تنظيم الدولة بشكل كبير، إلا أن أفكار إقامة خلافة إسلامية ماتزال موجودة، وهذه الأفكار، إلى جانب مطامح بعض الدول في الشرق الأوسط، يمكن أن تحيي الأنشطة الإرهابية. ولهذا يجب أن ينظر الخبراء في روسيا وإيران إلى عملية نشر الاستقرار في المناطق المحررة على أنها هدف يحتل رتبة عالية ضمن سلم الأولويات.
تعقيد عملية إعادة الإعمار بعد الحرب: إن إعادة بناء النظام السياسي في سوريا ورفع العقوبات الاقتصادية من أهم المشكلات التي تشهدها المراحل الحالية والمستقبلية بنظر الخبراء من كلا البلدين. وقد عبر الخبراء الإيرانيون عن مخاوفهم تجاه احتمال ظهور مطالبة شعبية لتحسين ظروف المعيشة في حال استقرار الوضع في سوريا، كما أن غياب ذلك يمكن أن يثير موجة اضطرابات جديدة. في حين أكد خبراء روس على الحاجة لقيام تحرك دولي لحل المشكلة كما أكدوا على ضرورة مشاركة الدول العربية في هذا التحرك. بيد أن الجانب الإيراني يعتبر التحرك العربي مصدر قلق ويرى في دعم النفوذ العربي في سوريا تهديداً لإيران.
تحديد الأهداف: بعد مشاركتهما في الأزمة، حددت كلتا الدولتين أهدافها بشكل مختلف، إذ تتمثل الأهداف الروسية في تحويل الانتصارات العسكرية إلى عوائد سياسية واقتصادية. وفي الوقت ذاته، يستخدم الخبراء الإيرانيون عبارة دعم النظام التي تم تعريفها على أنها الاحتفاظ بهمزة الوصل الأساسية مع محور المقاومة، كما يؤكد هؤلاء على تعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين ضمن الأهداف المحورية لكل منهما.
عملية التفاوض وإعادة إعمار سوريا بعد الحرب
عملية أستانا: شدد كلا الطرفين على أهمية المفاوضات الثلاثية بين روسيا وإيران وتركيا للتوصل إلى حل فعال للمشكلة. ويراهن الباحثون الإيرانيون بشكل كبير على عملية أستانا، على اعتبار أن هذا التعاون الثلاثي لا يعتبر أحد الطرق لإدارة الأزمة السورية، بل لعله السبيل الوحيد لحلها، كما يقترح خبراء إيرانيون مشاركة الدول الأوروبية والصين بوصفها أطرافاً مهتمة بالعملية وذلك لخلق منصة يمكن من خلالها تبادل الآراء والرؤى.
مشاركة الدول الأجنبية: لا يقلل البحث الروسي من أهمية دور المفاوضات الثلاثية، بل يؤكد على أهميتها ويركز اهتمامه على المصلحة الروسية التي تتمثل بالنفوذ الروسي في المنطقة ابتداء من سوريا، دون التدخل بشكل كبير في المشكلات الإقليمية. وإذا أخذنا تلك الأسباب بعين الاعتبار، سنجد بأن القرار الأنسب بالنسبة لروسيا ضمن العملية التصالحية يتمثل بدعوة الشركاء الإقليميين للمشاركة، وعلى رأسهم الدول العربية التي يقلقها تزايد النفوذ التركي والإيراني في المنطقة، وهذا بحد ذاته قد يخلق حافزاً إضافياً للمشاركة بالنسبة لهم. وبالنسبة لمشاركة الزملاء الأوروبيين من وجهة نظر روسية، فهي غير واردة في الظروف الحالية، إلا أن التعاون على الصعيد الإنساني يمكن أن يتحول إلى حجر الأساس لقيام المزيد من التعاون.
دستور جديد: أصبحت البنية السياسية لسوريا مصدر قلق هي أيضاً بالنسبة للخبراء في كلا البلدين، إذ اتفق كل منهما على انعدام كفاءة اللجنة الدستورية السورية، ولهذا يشدد بحث أجراه خبير روسي على أن عدم مشاركة كل الأطراف في هذه اللجنة يعتبر من أهم المشكلات التي تعاني منها وذلك يعود لعدم تمثيل فئة الأكراد التي تتمتع بقوة كبيرة في تلك اللجنة خوفاً من أن يتسبب ذلك بتوتر العلاقات مع تركيا.
تغيير السلطة: يرى الخبراء الإيرانيون أنه يمكن تأجيل الانتخابات الرئاسية في سوريا المزمع عقدها في عام 2021 وفقاً لأحكام الدستور السوري الحالي، في حال عدم الخروج بدستور جديد وتبنيه، وذلك يتيح لبشار الأسد البقاء في السلطة لفترة أطول. إلا أن الموقف الروسي تجاه هذه المسألة مختلف ويعود ذلك إلى ظهور مجموعة معقدة من المشكلات التي كشفتها الأزمة الاقتصادية، فضلاً عن التدخل الدولي والضغوطات الكبيرة التي لابد وأن تؤثر على موقف دمشق، وتعمل على دفعه نحو التسوية. وفي نهاية الأمر، يعتبر الوصول إلى سوريا مستقرة نسبياً من أهم وأقصى الطموحات والمصالح بالنسبة لكل من موسكو وطهران.
مشكلة اللاجئين: تختلف آراء الخبراء حول مسألة حل أزمة اللاجئين، إذ يرى الخبراء الإيرانيون بأن حل هذه المشكلة في المستقبل القريب أمر مستحيل نظراً للوضع الحالي لظروف البلاد وما تمر به. في حين يعتقد الخبراء الروس بأن مسألة إعادة اللاجئين ضرورية حتى يستعيد الاقتصاد السوري عافيته. وفي الوقت ذاته، لا ينكر الخبراء المشكلات المحتملة التي يمكن أن تظهر عند تنفيذ هذه العملية.
تقييم التدخلات الخارجية
تركيا: يهتم كلا الجانبين بتركيا بشكل استثنائي ويقلق كل منهما حيال تمدد نفوذ هذه الدولة. وفي الوقت ذاته، كلاهما يدرك أهمية تركيا كشريكة في التعاون الثلاثي فيما يتصل بدعم عودة سوريا إلى سابق عهدها. إذ يؤكد الخبراء الروس على أن ضم إدلب وعدم كفاية الإجراءات التي تتبعها تركيا لمعالجة الإرهاب والمتطرفين، ومن المحتمل أن يكون السبب في ظهور هؤلاء بما أن تركيا ترغب في توسيع نفوذها أثناء عملية التفاوض.
الولايات المتحدة الأميركية: يشدد الخبراء من كلا البلدين على الدور الأميركي في النزاع وفي المنطقة عموماً، فقد ورد بأنه بالرغم من سحب الجنود الأميركيين من سوريا الذي تم الإعلان عنه في عام 2018، ماتزال الولايات المتحدة تدعم القوات الكردية وقوات سوريا الديمقراطية. فيما يفترض الخبراء الروس بأن الولايات المتحدة لم تعد مهتمة في الوقت الحالي بالتوصل إلى حل للنزاع السوري، وقد يكون ذلك سبباً لوصول العملية التفاوضية إلى طريق مسدود. في حين يعتقد الخبراء الإيرانيون بأن الأنشطة التي تمارسها الكتلة الأميركية-الإسرائيلية هي مجرد وسيلة للضغط على طهران، وهنالك أمثلة على ذلك نجدها في الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي الإيراني، واغتيال الجنرال سليماني، ومحاولات تمديد الحظر المفروض على إيران، والغارات الجوية الإسرائيلية على مواقع إيرانية في سوريا، وغير ذلك. وكل تلك العمليات تعتبر بمثابة استفزازات الهدف منها هو جر إيران ومنطقة الشرق الأوسط برمتها إلى تصعيد الأزمة الإقليمية. وبحسب ما أورده خبراء إيرانيون، فإن طهران على استعداد لمقاومتهم والالتزام بموقف الصبر الاستراتيجي الذي سمح لها في الوقت الحالي بتجنب النزاع الذي يطبخ على نار هادئة. كما بوسع إيران القيام بعمليات أكثر حزماً في حال واصلت الولايات المتحدة سياسة الضغوطات القصوى معها.
إسرائيل: إن الفرق الكبير في الآراء يتجلى في موقف كلا الجانبين تجاه مشكلة إسرائيل. إذ يؤكد الخبراء الروس على أن روسيا تقوم بإجراء مفاوضات مع إيران وتركيا من جهة ودول شرق أوسطية بينها الحلفاء التقليديون للولايات المتحدة من جهة، وإسرائيل واحدة من بين تلك الدول الحليفة. وهذا ما يتيح لروسيا مواصلة لعب دور الوسيط النزيه في المنطقة، وذلك لحفاظها على مسافة واحدة من كل الأطراف ولحياديتها تجاه العناصر الفاعلة الإقليمية الأساسية. أما الخبراء الإيرانيون فيعتبرون مشكلة إسرائيل المشكلة الوحيدة في العلاقات الإيرانية-الروسية تجاه سوريا، وقد استشهد هؤلاء بالغارات المتكررة التي شنتها القوات الجوية الإسرائيلية على مواقع سورية، والتي حدثت نتيجة لإهمال أو تغاض من قبل الجانب الروسي، ما أدى لظهور تخمينات معينة ضمن مجتمع الخبراء في إيران. وفي الوقت ذاته، تؤكد إيران على امتناعها عن حل خلافاتها مع إسرائيل خلال عملية التفاوض الساعية لحل النزاع.
الأهمية الإقليمية: يعترف كلا الطرفين بأن الأزمة السورية تمثل مشكلة مهمة بالنسبة لكل دول شرق المتوسط وشمال أفريقيا. وتتمثل أهداف إيران وروسيا بما ينسجم مع المواقف التي ذكرناها آنفاً من خلال لعب دور الوسيط في المنطقة وتحويل النجاحات العسكرية في سوريا إلى مكاسب سياسية واقتصادية بالنسبة للاتحاد الروسي ودعم النظام الصديق في سوريا، بشكل يسمح بتعزيز مواقفه في المنطقة وذلك بالنسبة لإيران.
إن هذه الدراسة المشتركة بين مؤسستين بحثيتين من روسيا وإيران لا تشمل كل أبعاد التفاعل الروسي-الإيراني في سوريا وحول سوريا بالتفصيل. وذلك لأن هذا الموضوع الواسع والجدلي يحتاج إلى بحث ودراسة مركزة بشكل أكبر وإلى المزيد من النقاش بين الباحثين الروس والإيرانيين. إذ لسوء الطالع، لا يمكن لهؤلاء الباحثين أن يتواصلوا مع بعضهم إلى ضمن مستوى محدود حتى اليوم، ولهذا اعتمدوا في هذا البحث بشكل أساسي على مصادر غير مباشرة وعلى آراء متحيزة أحياناً وصلتهم من الغرب.
ولهذا يفضل تطوير المسار المتواضع الحالي الثاني للحوار بين كلا البلدين إلى حد كبير، ليس فقط فيما يتصل بسوريا، بل أيضاً فيما يتصل بأبعاد مهمة أخرى تتعلق بالعلاقات الثنائية، بالإضافة إلى أفكار وتوقعات روسيا وإيران تجاه النزعات والتوجهات والتحديات والفرص على المستوى الإقليمي والدولي، ففي نهاية الأمر يعتبر الحوار المفتوح والصريح شرطاً مسبقاً لا غنى عنه لإقامة علاقة تعاون ناضجة. لذا فإننا نأمل أن يفضي هذا البحث المختصر إلى شيء عملي، حتى ولو كان مجرد خطوة متواضعة في هذا الاتجاه.
الجزء الثاني: وجهة نظر إيرانية بالقضية السورية: الحل في أستانا
على مدار سنوات طويلة، اشتهر الشرق الأوسط بحكوماته التي تقوم ببيع النفط لتشتري السلاح. وخلال العقود الأخيرة، أضيفت صفة الإرهاب والتطرف لهاتين الصفتين التقليديتين. إذ إن الإحساس بانعدام الأمن المتجذر في هذه المنطقة، والمرتبط بعدم حل قضية النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي خلق تربة خصبة لنمو الإرهاب والتطرف بسبب التدخل اللامسؤول للقوى الغربية، خاصة في السنوات القليلة الماضية.
وخلال العقود الأخيرة الماضية، تميز الشرق الأوسط بسمة واضحة عن غيره من المناطق، وتتمثل بتنوع واختلاف المقاربات والمناهج التي تتصل برسم وتحديد مستقبل المنطقة بالاعتماد على كل الأدوات الصلبة والناعمة المشروعة منها وغير المشروعة.
وهكذا أخذت كل العناصر الفاعلة من قوى العالم الكبرى مثل الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا وكذلك القوى الإقليمية مثل إيران وتركيا وإسرائيل والسعودية، بل حتى الجماعات المقاتلة الكبيرة في المنطقة (التي يفوق عددها عدد دول المنطقة بعدة أضعاف) تبذل أقصى ما بوسعها لزيادة نصيبها من السلطة في هذه المنطقة بين الحكومات الإقليمية.
واليوم، وبعد الثورة الإسلامية في إيران (أي بعد أكثر من أربعة عقود)، التي غيرت علاقات القوة بناء على قواعد الحرب الباردة في المنطقة، تقدم هذه الثورة مخططاً جديداً للتيارات السياسية في المنطقة، إذ بعد المخطط الجدلي القائم على التدخل الذي طرحه الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش (قبل عقدين من الزمان) لخلق ما يعرف بشرق أوسط أكثر ديمقراطية وازدهاراً، أصبحت المنطقة تواجه رغبة تركية واضحة بتوسيع نطاق سلطتها وقوتها في المنطقة، إلى جانب رغبة السعودية (وبعض حلفائها) في الحفاظ على النظام السابق، ورغبة الكرد بتشكيل دولة مستقلة، ورغبة الجماعات المتطرفة بإحياء الخلافة الإسلامية. وبالإضافة إلى كل ذلك هنالك رغبة إسرائيل التي تسعى لفرض السلام على الفصائل الفلسطينية ونشر الاستقرار في الأراضي المحتلة، ورغبة روسيا بتأمين وضمان مصالحها الأمنية في المنطقة ولعب دور أكثر فاعلية في علاقات القوى الإقليمية. ونجم عن المجابهة بين تلك المناهج والمقاربات حتى الآن نزاع مسلح، ونمو للتطرف، ونزوح ملايين البشر في العراق وأفغانستان وسوريا واليمن، وظروف اقتصادية مزرية في الكثير من الدول.
وبالرغم من أن هذه المناهج المتضاربة تجعل أي أزمة في المنطقة مقلقة ومزعجة، فإن هنالك قضيتين على الأقل من المحتمل أن يكون لهما تأثير مباشر على التطورات التي ستحدث في الشرق الأوسط مستقبلاً، أولهما مستقبل التطورات في سوريا، وثانيهما مستقبل التوتر بين إيران والولايات المتحدة.
الأزمة في سوريا: التحديات ما تزال خطيرة
أتت أولى ردات الفعل الإيرانية تجاه التطورات في سوريا متناقضة، إذ من جهة أولى، أبدى قادة إيران دعمهم بشكل عام ومن حيث المبدأ للتطورات التي حدثت في الدول العربية بين عامي 2010-2011 (فيما يعرف داخل إيران باسم الصحوة الإسلامية)، ومن جهة ثانية، كانت هنالك علاقات استراتيجية بين إيران وسوريا، إلا أن تحول الاحتجاجات في سوريا من اضطرابات سياسية إلى نزاع مسلح وظهور الدعم الصريح بالسلاح من قبل بعض الدول في المنطقة التي تعادي نظام الأسد لم يدع مجالاً للشك بأن سوريا تحولت إلى مكان خصصته تلك الدول لتحقيق أهدافها ومطامحها.
وبعد مرور تسع سنوات على بداية الأزمة السياسية في سوريا، تحسن موقف إيران في تلك الدولة وبشكل عام في ظل توازن القوى الإقليمية مقارنة بما كان عليه موقفها خلال السنوات الأولى من الأزمة. إذ بالرغم من ظهور مخاوف كثيرة حيال المستقبل، اختفت الخطوط الحمراء التي دفعت إيران من أجلها أثماناً سياسية واقتصادية وعسكرية باهظة حتى تبقى في سوريا وتحافظ عليها، فلم تعد موجودة. كما أن حكومة الأسد ما تزال تواصل عملها، بعدما ظلت صلة الوصل الرئيسية ضمن محور المقاومة. وكذلك بقيت المراقد الشيعية المقدسة في سوريا والعراق آمنة بعيداً عن تهديد تنظيم الدولة، وأصبح بوسع إيران الوصول براً إلى شرق المتوسط وذلك عبر فتح معبر البوكمال-القائم الحدودي. إذ إن تلك إنجازات مهمة بالنسبة لإيران، ولكن الأهم هو الحفاظ عليها مستقبلاً.
ما تزال الأزمة السورية بعد مرور عقد من الزمان تقريباً بعيدة كل البعد عن الاستقرار الكامل، وذلك لأن بعض أجزاء سوريا ما تزال بأيدي جماعات رهنت حياتها لمحاربة الحكومة المركزية، وبوجود شيء من الدعم الإقليمي والدولي لتلك الجماعات، من غير المرجح لها أن تفكر بالانسحاب أو التراجع بكل بساطة.
في حين ظلت المناطق التي يسيطر عليها الكرد مثار خلاف بالنسبة للعلاقات الكردية مع تركيا وكذلك لعلاقاتهم مع الحكومة المركزية (نظام الأسد) في ظل مستقبل مجهول. ولعل المشكلة الأعقد من ذلك هي مشكلة أكثر من عشرة ملايين لاجئ سوري يعيشون إما في دول الجوار أو نازحين في الداخل السوري. ولهذا لا بد أن يراعي أي حل لمستقبل سوريا قبل كل شيء الطريقة التي يمكن للاجئين من خلالها العودة إلى بيوتهم، إلا أن واقع سوريا يجعل اللجوء إلى هذا النوع من الحلول أمراً مستحيلاً في المستقبل القريب. لذا يتعين على إيران وروسيا، حتى ذلك الحين على الأقل، بوصفهما داعمتين للحكومة المركزية في سوريا، أن تعالجا هذين التحدين الكبيرين:
يتمثل التحدي الأول بكيفية إعادة بناء النظام السياسي السوري، إذ لا توجد رؤية واضحة لتحقيق ذلك حتى اليوم، كما أن فترة الأسد الرئاسية ستنتهي في عام 2021، ومن الصعب جداً بالنسبة له البقاء في السلطة.
وبالرغم من بذل جهود كبيرة حتى الآن ضمن عملية أستانا وما بعدها، وبرغم الدعم الذي قدمته الأمم المتحدة لتشكيل اللجنة الدستورية السورية، يبقى من الصعب، بل من المستحيل في بعض الأحيان، أن نخرج بآلية ترضي الجميع. فبعض الفاعلين يرغبون بتحقيق أمور على طاولة المفاوضات لا يمكن لهم تحقيقها في ساحة الحرب. ولهذا السبب، من المحتمل أن تكون الجولة التالية من المفاوضات السياسية خلال السنة المقبلة صعبة ومرهقة كالنزاعات العسكرية. وبالنسبة لروسيا، التي تجاهلت الأسد في الماضي بالنسبة لبعض الملفات، أصبح رحيل الأسد واستبداله بشخصية لا تعاني من أي من مشكلاته، مع حفظ الإرث الذي سيخلفه الأسد، خياراً أفضل بالنسبة لها. إلا أن ذلك بالطبع ليس بالأمر اليسير، إذ لا يوجد بديل للأسد يمكن الوثوق به، وثمة فرق واضح بين عملية أستانا وعملية جنيف من حيث شرعية إحداهما بالنسبة لصياغة دستور جديد، إذ من الصعب التوصل إلى اتفاق حول دستور جديد حتى ضمن عملية أستانا. كما أنه بعد مرور عشر سنوات تقريباً على الحرب الأهلية أصبحت البنية العرقية-الدينية المتنوعة عائقاً أمام التوصل لاتفاق حول أهم مبادئ وأسس التعايش السلمي في الداخل السوري.
وبالرغم من عدم وجود شخصية ثقة كالأسد بالنسبة لإيران، فإنه لا شك أنه لم يعد بوسع الأسد البقاء في السلطة للأبد، هذا أولاً، وثانياً، لقد دعمت إيران من حيث المبدأ دوماً فكرة قيام اتفاق وطني في سوريا. ولهذا السبب، تواصل إيران التعاون بشكل بناء مع عملية أستانا، كما تواصل الجهود لتشكيل لجنة دستورية. وإذا لم تتأثر عملية صياغة دستور جديد بالمحن أو بالدعاية أو بالضغوط الخارجية، فمن غير المحتمل للقوى الموالية للأسد أن تحصل على حصة كبيرة من السلطة عند اعتماد أكثر الطرق ديمقراطية. وثمة احتمال آخر يرجح بأنه في حال فشلت اللجنة بالتوصل إلى نتيجة حول دستور سوريا الجديد مع نهاية عام 2020، عندها قد يتم تأجيل الانتخابات بموجب المادة 87 من الدستور الحالي، وستواصل الحكومة الحالية عملها إلى أن تعقد انتخابات، أو يمكن إجراء انتخابات جديدة بموجب الدستور الحالي. وفي تلك الحالة، يمكن لبشار الأسد أن يترشح لولاية جديدة مدتها سبع سنوات، بالرغم من اعتراض المعارضين بل حتى الكثير من حلفائه على ذلك.
وبالنسبة لإيران، لا تمثل الحكومة السورية كل شيء بكل تأكيد، وذلك لأن تجربة العمل في الشرق الأوسط علمت قادة إيران بأن لعب دور فاعل في التطورات الإقليمية يحتاج إلى وجود خيارات متعددة. ولهذا كان الوجود الاستشاري لإيران في سوريا على مدار السنوات الماضية بمثابة فرصة لإيران للخوض بشكل فاعل ضمن التجمعات الدينية والاجتماعية المتنوعة، ولبناء إمكانيات تهدف إلى منع ظهور مراكز خطر معادية لها. وإلى أن يحل السلام في سوريا بشكل كامل، سيتم القضاء على كل التيارات الإرهابية، وستتوسع سيطرة الحكومة المركزية على كامل الأراضي السورية، وسيظل تفاعل إيران مع تلك المجموعات أداة من بين الأدوات التي تستخدمها إيران لضمان أمنها القومي.
وبما أن عملية أستانا لم تأت نتيجة مطالبة كل القوى والقوات المؤثرة في التطورات التي تحصل في سوريا، ويشمل ذلك السعودية، والولايات المتحدة، وبعض جماعات المعارضة، لذا فإن أي حكومة مستقبلية يتم رسمها ضمن هذه العملية ستظل تتعرض للضغوط والعداء من قبل تلك القوى على الأغلب. ولهذا السبب، يتعين على الدول الضامنة لعملية أستانا أن تحتفظ بأدوات الدعم لديها من أجل الحكومة الجديدة.
إن التحدي الثاني الذي تواجهه سوريا خلال السنة المقبلة يتمثل بالمشكلات الاقتصادية التي سببتها الحرب، إلى جانب العقوبات، ناهيك عن غياب الكفاءة وتفشي الفساد. إذ بعد بداية الحرب، أصبحت مصادر دخل الحكومة السورية محدودة للغاية، فقد تعرضت الكثير من مراكز الإنتاج إما للتدمير أو الإغلاق بسبب عدم توفر المواد الأولية وغير ذلك من المشكلات. لذا فمع وجود استقرار نسبي للوضع السياسي والأمني، لابد أن تزداد المطالبة بتحسين ظروف المعيشة، وفي حال عدم تلبية الاحتياجات الأساسية للناس، عندها يمكن أن تخرج احتجاجات جديدة في البلاد.
ولسوء الطالع، ما تزال سوريا تواجه عقبات عديدة بالنسبة لعملية إعادة الإعمار، وذلك لأن الدول القادرة على الاستثمار في عملية إعادة الإعمار بسوريا ترفض القيام بذلك لأسباب سياسية، والدول التي ترغب بالقيام بذلك لا تتوفر لديها الإمكانيات اللازمة لإعادة إعمار سوريا. وفي الوقت ذاته، تحاول بعض الدول استغلال قضية إعادة الإعمار لكسب تنازلات سياسية. وتواجه سوريا اليوم أيضاً مشكلات بسبب العقوبات المفروضة عليها، فخلال الشهور الماضية، تم فرض حزم عقوبات أميركية جديدة على 39 مسؤولاً ومؤسسة سورية بموجب قانون قيصر مما صعب على البلاد مهمة العودة إلى الوضع الاعتيادي. كما استهدفت العقوبات الأجانب الذين يقدمون أي دعم مالي أو مادي أو فني كبير للحكومة السورية، إلى جانب التلويح بفرض عقوبات متنوعة على كل من يوافق على المشاركة بعملية إعادة إعمار المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية. وبما أن جميع المعاملات المصرفية بين المؤسسات السورية والبنوك تخضع للعقوبات الأميركية منذ سنوات، لذا يبدو أن هذه العقوبات تستهدف مجال عمل هؤلاء المسؤولين الذين يمكنهم لعب دور جدي في مستقبل سوريا، سواء في الانتخابات أو في صياغة دستور للبلاد.
وبالرغم من أنه بعيد دخول العقوبات حيز التنفيذ، قام النائب الأول للرئيس الإيراني مباشرة بالإعلان عن أن إيران لن تتوانى عن اتخاذ أي إجراء للحد من الضغوط التي تتعرض لها سوريا، بيد أن الوضع الاقتصادي لإيران بعد عودة فرض العقوبات الأميركية إلى جانب سياسة الضغوط القصوى التي تمارسها الولايات المتحدة على إيران لم تترك أي فسحة للمناورة بالنسبة لسوريا. فالجمهورية الإسلامية الإيرانية، على الرغم من اهتمامها بالتدخل في سوريا بشكل أكبر من الناحية الاقتصادية، فإن إمكانياتها محدودة ولا تسمح لها بلعب دور فاعل في عملية إعادة إعمار سوريا نظراً للعقوبات وللمشكلات الاقتصادية التي تعاني منها إيران في الداخل. إلا أن التعاون الاقتصادي بين إيران وسوريا حقق زخماً أكبر على مدار السنوات الماضية، حيث تم التوقيع على اتفاقية تعاون اقتصادي استراتيجي طويلة الأمد بين البلدين في مطلع عام 2020 أثناء زيارة قام بها النائب الأول للرئيس الإيراني إلى دمشق. وخلال تلك الزيارة، أتيحت الفرصة لمجموعة من رجال الأعمال والصناعيين الإيرانيين لدراسة النواحي التي بوسعهم من خلالها دخول الأسواق السورية بشكل أكثر فاعلية.
كل الآمال معلقة بعملية أستانا
منذ بداية عام 2017، عندما أثمرت جهود التعاون الإقليمي في إدارة الأزمة السورية، ونتج عن ذلك محادثات ثلاثية بين إيران وروسيا وتركيا حملت اسم عملية أستانا، تم تحقيق إنجازات مهمة في إدارة النزاعات والحد من النزاعات العسكرية في سوريا، إذ لم يسهم ذلك في عودة الأمن للكثير من المناطق في البلاد وحسب، بل أيضاً أصبحت كل الافتراضات حول عدم ظهور أي فرصة للتعاون في هذه المنطقة موضع تشكيك.
وهكذا لم يكن التعاون بين إيران وروسيا وتركيا أحد الطرق الممكنة لإدارة الأزمة السورية، بل لعله السبيل الوحيد للقيام بذلك. إذ تتمتع هذه الدول الثلاث بإمكانيات ومصالح في المنطقة، لذا من غير الممكن ولا المنطقي تجاهلها أو إقصاؤها. وبالطبع هنالك دواع وأسباب بالنسبة لهذه الدول-تتجاوز إدارة الأزمة السورية- دفعتها نحو هذا التعاون الثلاثي الموسع، غير أن القضية السورية حالياً تمثل السبب الأهم لقيام حوار استراتيجي فيما بينها. والشيء الواعد بالنسبة لهذا التعاون هو ما ينجم عنه من مصالح مهمة واستراتيجية بالنسبة لتلك الدول الثلاث، في حين أن غياب التعاون بينها يمكن أن يعود عليها بعواقب استراتيجية وخيمة.
وبما أن الأسباب الأيديولوجية المتمثلة بالصداقة والعداوة قد اختفت منذ حقبة ما بعد الحرب الباردة، لذا أصبح التعاون الاستراتيجي بين الدول القائم على تحقيق منفعة استراتيجية أو منع حدوث خسارة استراتيجية هو الأساس. وبالنسبة لإيران وروسيا وتركيا، فإن التعاون على إدارة الأزمة السورية يمثل فرصة لكسب منفعة استراتيجية ولتجنب خسارة استراتيجية في الوقت ذاته. ويصح الأمر نفسه بالنسبة للتعاون بين إيران وروسيا في سوريا، ولكن يبدو أنه بعد الحادثة التي وقعت في 24 تشرين الثاني من عام 2015، عندما قامت تركيا بإسقاط طائرة مقاتلة روسية بأن العلاقات بين البلدين قد بردت لفترة قصيرة، وعندها أدركت تركيا أهمية هذه القضية، ويعود ذلك للعواقب الوخيمة التي ستترتب على قطع العلاقات والتي ستضر باقتصاد كلا البلدين من جهة، واعتقاد القادة الأتراك بأن الإصرار على تنحي بشار الأسد وإبعاده عن المشهد السياسي السوري لم يتسبب باستمرار الحرب وانعدام الاستقرار في هذه الدولة وفي كامل المنطقة فحسب، بل أيضاً ساعد الكرد على توسيع مجال سيطرتهم السياسية والعسكرية، خاصة في المناطق المجاورة لتركيا، من جهة أخرى، وكل ذلك مهد الطريق أمام إطلاق عملية تعاون ثلاثية الأطراف لإدارة الأزمة السورية.
هذا ويعتبر التعاون بين إيران وروسيا وتركيا نموذجاً فريداً من نوعه بالنسبة للتعاون بين القوى الإقليمية خلال حقبة ما بعد الحرب الباردة. فلا أحد ينكر بأن تلك الدول الثلاث تلتزم بمبادئ وتسعى لتحقيق أهداف مختلفة، إلا أن جميع تلك الدول تقبلت لحسن الحظ فكرة عدم قدرة أي منها على تجاهل الأخرى. والأهم من ذلك، أنها اتفقت على أن تصعيد النزاع والعداوة فيما بينها لا بد أن تدمر وبصورة عملية المصالح المحدودة التي تؤمنها حالة التعاون. فتاريخياً، وخلال القرون القليلة الماضية، لم تفض الخلافات والعداوات بين تلك القوى الثلاث وهي إيران وروسيا والإمبراطورية العثمانية إلا للتخلف عن ركب الأمم في مجال التطور الصناعي والاقتصادي.
لذا طالما بقي مثلث إيران-روسيا-تركيا متساوي الأضلاع، فيمكننا أن نتوقع من تلك الدول الثلاث أن تولي الاهتمام ذاته تجاه مواصلة التعاون. وحالياً، يركز التعاون الإيراني-الروسي بشكل أكبر على المصالح السياسية، في حين يعتمد التعاون الروسي-التركي بشكل أكبر على المصالح الاقتصادية. أما التعاون بين إيران وتركيا، فبالرغم من الاختلافات الكثيرة الواضحة بينهما إلى جانب وجود تفاعلات اقتصادية موسعة بين الطرفين، فإن هذا التعاون يقوم على الفرضية التي تقول بأن تحويل التنافس إلى نزاع لن يفيد أي طرف.
وهذه السمات المرتبطة بكل ضلع من أضلاع هذا المثلث بطريقة متوازنة، تمثل الحد الأدنى من الأسباب التي تدفع لمواصلة هذا التعاون، لكنها لا تنهي الخلافات بين تلك الأطراف. إذ خلال السنوات الماضية، اتبعت تركيا سياسة خارجية طموحة وعدوانية على المستويين الإقليمي والدولي، وسعت بكل فخر لتحقيق مصالحها في مناطق مختلفة، بدءاً من القوقاز وحتى سوريا والعراق وليبيا، بل حتى في خليج فارس. بيد أن العملية العسكرية التركية على سوريا (في تشرين الأول 2019) لم تقابل بمعارضة كبيرة من قبل إيران وروسيا، بل إن دعمها للجماعات الموجودة في إدلب أدى إلى وقوع مواجهة بين إيران وروسيا وتركيا بعد ذلك ببضعة أشهر. ففي مطلع شهر آذار، صدر بيان عن المستشارية الإيرانية في الشمال السوري يشتمل على تحذير للقوات التركية ومطالبتها بوقف قصف المواقع الإيرانية. وقد شدد ذلك البيان على أن القوات الإيرانية تلقت أوامر من قادتها بضبط النفس وعدم الرد على الجنود الأتراك ضمن مجال الرمي. وقبل يومين من وقوع تلك الاشتباكات، قتل 33 جندياً تركياً كانوا قد خرجوا من مواقعهم ورافقوا (الفصائل) وذلك في غارات جوية شنتها سوريا (نظام الأسد) على أطراف محافظة إدلب.
وبالرغم من كل ما جرى فإن ذلك لم يؤدِّ إلى حدوث انفصال كامل بين تركيا وروسيا وإيران، إذ على الرغم من تهديدات أردوغان بالانسحاب من عملية أستانا، فإن القمة السادسة التي جمعت تلك الدول الثلاث عقدت في الأول من تموز لتوضح بأن عملية أستانا ما تزال على قيد الحياة، وبأنها قد تصبح الحل لتلك المشكلات.
الدور السلبي لإسرائيل
إن الدور الغامض لإسرائيل في الأزمة السورية، منذ بدايتها حتى اللحظة، يمكن معالجته بشكل أفضل وبدقة أكبر مستقبلاً، ولكن ثمة مشكلة واضحة على الأقل بالنسبة للمحللين الإيرانيين وهي أن إسرائيل تمثل النقطة السوداء الوحيدة في العلاقات الإيرانية-الروسية بالنسبة لسوريا.
إذ منذ وجود القوات الروسية في سوريا، استهدف الجيش الإسرائيلي وبشكل متكرر بعض القواعد العسكرية للجيش السوري (قوات النظام)، أو التي تعود للميليشيات الحليفة له وذلك عبر غارات جوية أو صاروخية. وحتى الآن، قتل عدد كبير من قوات “الجيش السوري” أو القوات التابعة لحلفائه، كما تم تدمير الكثير من المرافق. ففي إحدى تلك الهجمات التي استهدفت قاعدة “تي فور” في حمص بسوريا (في نيسان 2018) قتل سبعة جنود إيرانيين على الأقل. كما أن الهجمات الإسرائيلية على سوريا أضرت بالقوات الروسية الموجودة هناك أيضاً. فالحادثة التي تم فيها استهداف طائرة روسية بالخطأ من قبل الدفاع الجوي السوري، وأدى ذلك إلى مقتل 14 جنديا روسيا، بحسب ما نقله مسؤولون عسكريون روس، أتت نتيجة عملية مخادعة نفذتها طائرات حربية إسرائيلية في الأراضي السورية.
وعقب تلك الحادثة، أعلنت روسيا عن تسليم سوريا منظومة إس-300 لدعم دفاعاتها الجوية ورفع مستوى الدقة لديها. ومع ذلك تواصلت الغارات الجوية الإسرائيلية على قواعد عسكرية سورية خلال الأشهر التالية، ولم تتمكن منظومة إس-300 من التصدي لتلك الهجمات بشكل فعال. ولهذا دفعت هذه الحوادث الكثير من المحللين الإيرانيين إلى الاعتقاد بأن الضربات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية تنفذ بسبب تساهل من قبل روسيا، إذ ذكر حشمة الله فلاهات بيشيه الذي كان وقتئذ يشغل منصب رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني في مقابلة أجريت معه بأن: “الدفاعات الجوية التي تضم منظومة إس-300 الروسية المقامة في سوريا قد تعطلت خلال الهجمات الإسرائيلية على البلاد. وهنا لا بد من توجيه انتقاد حاد لروسيا، لأنه إذا كانت منظومة إس-300 الروسية تعمل بشكل جيد، عندها لن يتمكن النظام الصهيوني من تنفيذ هجمات في الأراضي السورية بهذه السهولة”.
ولا يمكن عزو دقة تلك التخمينات لأي سبب، إلا أنه لا يمكن التقليل من أهمية مخاوف المحللين الإيرانيين في الوقت ذاته. ولمعالجة بعض تلك المخاوف، سعت إيران لدعم إمكانيات الدفاع الجوي السوري بشكل مباشر. إذ بحسب تقارير نشرت بعد زيارة اللواء محمد باقري قائد أركان القوات المسلحة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى سوريا في مطلع تموز من هذا العام، أصبح بإمكان إيران نشر عدد من نظم الدفاع الجوي المحلية وهي خورداد3 وخورداد15 وبافار 373 ضمن الجيش السوري (قوات النظام). إذ تم إسقاط الطائرة الأميركية المسيرة غلوبال هوك باهظة الثمن بواسطة خورداد 3 في حزيران من عام 2019 بالقرب من مضيق هرمز في الخليج الفارسي.
وفوراً عقب الإعلان عن نبأ إبرام الاتفاقية العسكرية بين إيران وسوريا، حاول بعض الدبلوماسيين الغربيين تأويل ذلك على أنه إشارة لروسيا ودليل على تصدع العلاقة بين إيران وروسيا في سوريا. إذ في حال اعتبرت الغارات الجوية الإسرائيلية على سوريا نتيجة لتساهل أو حتى ضوء أخضر من قبل روسيا، فإن الاتفاقية العسكرية بين إيران وسوريا يمكن أن تفسر في ضوء ذلك. إلا أنه بالرغم من وجود بعض الاختلافات في المنهج والتطبيق، فلا يوجد سبب للفصل بين إيران وروسيا في سوريا، وذلك لأن هذا الفصل لا بد أن يعود بعواقب وخيمة لا تمحى آثارها على كل الطرفين. وثمة شيء آخر لا بد من ذكره هنا، وهو أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية قد حاولت حتى اليوم أن تبعد عملية إدارة الأزمة في سوريا عن تأثير النزاعات الإقليمية بين إيران وإسرائيل، وهذا ما جعل المسؤولين الإسرائيليين يسيئون فهم بعض الملفات بل وينتهكونها، وهذا لا بد وأن تترتب عليه عواقب خطيرة في حال استمراره.
أستانا
من الصعب الحفاظ على النظام والأمن بصورة دائمة في الشرق الأوسط، وإنها لفكرة خاطئة تلك التي ترى بأن تفاعل القوى الكبرى كما حدث خلال حقبة الحرب الباردة يمكن أن يرسم ويعزز قواعد النظام في هذه المنطقة. ناهيك عن أنه لا يمكن تجاهل أي عنصر من العناصر الفاعلة في الشرق الأوسط، ولهذا لا يسعنا إلا أن نقول ونؤكد بأن معركة الرغبات في الشرق الأوسط لا بد أن تستمر لفترة غير معلومة. ولهذا السبب، لا يمكن اعتبار مشكلات الشرق الأوسط بأنها مشكلات تتصل بالعتاد، كما لا يمكن حلها عبر هندسة المساعي ضمن مشروع كمشروع الشرق الأوسط الكبير.
كما أن خطر الإرهاب لن يبارح الشرق الأوسط طيلة السنوات القادمة بكل تأكيد، إلا أن إنشاء تنظيم الدولة الإسلامية ما هو إلا محاولة فاشلة بالنسبة لمن هندس هذا المشروع. ومن غير المحتمل أن تتمكن أي مجموعة في المستقبل القريب من تجنيد شباب من مختلف بقاع العالم والسعي لتحقيق أهدافها عبر الترويع والتخويف كما سبق لتنظيم الدولة أن فعل. ولكن حتى مع استئصال شأفة تنظيم الدولة بشكل كامل، لا يمكن استبعاد قوتين مؤثرتين عن هذه المنطقة، وهما فكرة إحياء الخلافة الإسلامية في بعض أجزاء المجتمع السني، وثانيهما فكرة تنافس القوى الإقليمية على مد مجال نفوذها. ففي لحظة ما، قامت هاتان القوتان بتمهيد الطريق لصعود تنظيم الدولة، ولهذا بوسعهما خلق مشكلات جديدة في المستقبل أيضاً.
ومع زيادة احتمال وقوع مواجهة في الشرق الأوسط، لم يتبق مكان يتسع للتفكير الإيجابي، غير أن القضاء على تنظيم الدولة في الكثير من المناطق بالعراق وسوريا أعاد الحياة إلى سابق عهدها في تلك المناطق، وهكذا أصبحت فكرة إعادة الإعمار تحتل أعلى درجة ضمن سلم الأولويات هناك. وفي حال عدم القيام بعملية إعادة الإعمار بشكل ملموس وواقعي في هذه المناطق، عندها ثمة احتمال كبير لظهور اضطرابات جديدة.
ولسوء الحظ، وفي ظل هذه الظروف، تحاول الولايات المتحدة فرض العديد من العقوبات على دول مثل إيران وسوريا (نظام الأسد)، وهذا لا يخلق حالة ركود سياسي واقتصادي في المنطقة فحسب، بل أيضاً يهيئ مناطق جديدة لتشهد حالة تصعيد الأزمات الموجودة في المنطقة. إذ إن العقوبات الأميركية الجديدة على سوريا أدت إلى هبوط قيمة العملة السورية، مما أدى إلى إفقار الشعب، ومن المتوقع أن تسبب تلك العقوبات مزيد من المشكلات للاقتصاد اللبناني الذي يعاني من أزمة هو أيضاً، وذلك لأن الاقتصاد اللبناني يرتبط بشكل تقليدي بالاقتصاد السوري، ولهذا لا بد من أن يعاني لبنان أكثر من أي دولة أخرى بسبب هذه العقوبات. كما أن تصعيد الأزمة الاقتصادية في لبنان يمكن أن يغرق البلاد مجدداً وبكل سهولة في بحر انعدام الاستقرار على المستوى السياسي.
وفي ظل الوضع الراهن، يأتي بصيص الأمل الوحيد بالنسبة للتطورات الإقليمية عبر مواصلة عملية أستانا بالرغم من كل المشكلات والعقبات القائمة. فإيران وروسيا وتركيا ثلاث قوى إقليمية مؤثرة يمكنها أن تحدث التغيير في المنطقة في حال قامت بحشد إمكاناتها معاً. إذ خلال السنة الماضية، كان أمام تركيا أكثر من مبرر للانفصال عن صيغة التعاون الثلاثي مع إيران وروسيا، لكنها لحسن الحظ بقيت بالرغم من الاختلافات القائمة بين تركيا وروسيا من جهة، وبين إيران إلى حد ما من جهة ثانية وذلك حول الوضع في إدلب والشمال السوري وغير ذلك من القضايا، وذلك لأن لدى قادة تلك الدول الثلاث رغبة بمواصلة تلك المحادثات الثلاثية.
وفي الوقت ذاته يمكن القول بأن السعي لتوسيع هذا التعاون الاقتصادي الثلاثي لن يسهم في تعزيز الحوار السياسي وحسب، بل أيضاً لا بد أن يخلق فرصاً جديدة أمام تلك الدول الثلاث. ويمكن اعتبار التعاون الثلاثي في مجال الطاقة وإنشاء منطقة تجارة حرة بين إيران وتركيا والاتحاد الاقتصادي الأوراسي ضمن مجالات التعاون بين تلك الدول الثلاث.
ومن هنا يتضح لنا بأنه يتعين على روسيا وتركيا وإيران بوصفها دولاً ضامنة لعملية أستانا أن تجري مزيدا من المحادثات الجدية حول قضية إعادة الإعمار، بالإضافة إلى قيامهم بحل المشكلات السياسية. ففي ظل الوضع الحالي، يبدو أنه لا مفر من عقد مؤتمر دولي يضم كل الدول ذات المصلحة، وبينها الصين وأوروبا، حتى تتم مناقشة قضية إعادة إعمار سوريا. وبالطبع يمكن لهذا المؤتمر في بدايته ألا يتعدى كونه مجرد منتدى لتبادل الآراء دون أن يكون الغرض منه استقطاب رؤوس الأموال. كما ينبغي مراعاة نهج التعاون الذي انتهجته إيران وروسيا وتركيا بالنسبة للتسوية السياسية للأزمة السورية والذي يقوم على مبدأ التعاون في المجالات المشتركة والتفاوض والمساومة على المناطق المتنازع عليها، وذلك في مجال إعادة إحياء الاقتصاد.
الجزء الثالث: وجهة نظر روسيّة بالقضية السورية: نحتاج إلى حكومة مستقرة
بعد مرور ثماني سنوات على المرحلة العسكرية الفعلية، يتجه النزاع السوري نحو المرحلة السياسية. ففي الوقت الذي انحسرت فيه شدة العمليات العسكرية وأصبح نطاقها محدوداً، مايزال خطر التصعيد العسكري في إدلب وشرق الفرات قائماً. وبصرف النظر عن هذا الخطر، هنالك العديد من العوامل التي تجعل عملية نشر الاستقرار والقيام بعملية مصالحة وطنية في سوريا غاية في الصعوبة، ويأتي على رأسها العقوبات الأميركية والأوروبية، وغياب التمويل اللازم لعملية إعادة الإعمار، وتدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي في هذه الدولة، والتوتر بين إيران والولايات المتحدة وكذلك بين تركيا والولايات المتحدة، وعدم القيام بإصلاحات سياسية وعسكرية/أمنية بوسعها أن تساعد على قيام مصالحة وطنية، وظهور كوفيد-19 وغير ذلك من الأمور والعوامل الأخرى. كما أن المواقف التي سيضمنها الفاعلون الإقليميون والدوليون والمحليون عند تسوية النزاع السوري في نهاية المطاف لابد وأن تؤثر وبشكل كبير على هندسة وتشكيل بنية أمنية جديدة في المنطقة.
ولهذا تبحث هذه الدراسة في التحديات والأخطار التي ماتزال قائمة في سوريا وكيف يؤثر كل ذلك على روسيا وسياستها، كما تناقش هذه الدراسة أفق التسوية السياسية السورية وعملية إعادة الإعمار فيها، وما هو مأمول من موسكو لتعزيز دورها في البنية الأمنية الجديدة للمنطقة، وشراكتها مع إيران وتركيا.
أهم التحديات والأخطار
بالرغم من دخول النزاع في سوريا مرحلته النهائية وتحوله نحو المجال السياسي، إلا أنه ماتزال هناك عقبات تقف في طريق استكمال المرحلة العسكرية. فاليوم تظهر قضيتان رئيسيتان بالنسبة للمجال العسكري، أولهما أن محافظة إدلب تخضع بشكل كبير لسيطرة جماعة تحرير الشام، ولجماعات متطرفة أصولية مثل حراس الدين، إلى جانب الجيش التركي. ثانياً: تخضع المناطق الواقعة شرق الفرات لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية التي يهيمن عليها الكرد وتتلقى الدعم من قبل الجيش الأميركي، إلى جانب منطقة التنف على الحدود مع الأردن والتي تحتلها القوات الأميركية. ويمكن أن نلخص هذه القضية بوجود القوات الأجنبية في سوريا، وعليه يصبح وجود القوات التركية والأميركية غير قانوني في سوريا. وعلاوة على ذلك، هنالك القضية التي تتصل بالغارات الإسرائيلية على أهداف إيرانية أو موالية لإيران في الداخل السوري، وسببها تزايد الوجود العسكري الإيراني في سوريا.
أما من الناحية السياسية، فهناك ثلاثة تحديات كبرى، أولها عدم قدرة اللجنة الدستورية السورية على البدء بعمل بناء يدفع نحو عملية سياسية في سوريا، ويعود ذلك لعدم إبداء كل من دمشق ومعارضتها لأن نوع من أنواع المرونة. أما التحدي الثاني فيتمثل بغياب أي تقدم في عملية المصالحة بجنوب سوريا وتجميد المحادثات بين الكرد ودمشق. ويتلخص التحدي الثالث بغياب عملية إعادة إعمار شاملة من شأنها المساهمة في نشر الاستقرار في البلاد على المستوى الاقتصادي والسياسي. لذا، ودون التوصل إلى حل وسط مناسب مع كل تلك الأمور والقضايا بين كل الأطراف المعنية، يصبح التحرك بشكل أكبر نحو تسوية النزاع ونشر الاستقرار في سوريا ضرباً من المستحيل.
ولهذا تواجه روسيا في سوريا التحديات الخطيرة والكبيرة التالية:
الوصول إلى اتفاق خاص بالمرحلة النهائية مع تركيا في إدلب وشمال سوريا التي تحتلها القوات التركية بحكم الأمر الواقع، إلى جانب الاتفاق الخاص بالمناطق الواقعة شرق الفرات والتي يسيطر عليها الكرد، والسعي للمحافظة على ذلك الاتفاق.
البدء بعملية إعادة الإعمار وإنعاش الاقتصاد لسابق عهده في سوريا بالتعاون مع الدول العربية في المنطقة التي تدخلت بهذا الملف (وكذلك بالتعاون مع الدول الأوروبية في أحسن الأحوال).
المحافظة على الوضع الراهن على الأقل، أو العمل لإيجاد أرضية مشتركة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حول سوريا في أحسن الأحوال وذلك لدفعها لرفع أو تخفيف العقوبات ولإطلاق عملية إعادة الإعمار.
تفعيل العملية السياسية والمصالحة داخل سوريا ويشمل ذلك الكرد السوريين.
ضمان تنسيق العمل بين دمشق وطهران دون تخريب مبادرات موسكو ومشاريعها مثل عمل اللجنة الدستورية.
تحويل النجاح العسكري إلى عوائد اقتصادية ومكاسب سياسية.
إلى أن يتم تحقيق هذه الأهداف، ستواصل موسكو استثمارها في سوريا دون أن تحصل على أية فوائد اقتصادية حقيقية ودون أن تلوح فرصة لعرض وإظهار قصة النجاح التي حققتها أمام العالم كله. وبعيداً عن كل ذلك، تعمل المشكلات العسكرية التي لم يتم التوصل إلى حل بشأنها في كل من إدلب وشرق الفرات على زيادة التصعيد بين روسيا وتركيا والولايات المتحدة والكرد، وإيران ودمشق، كونها تتعارض مع مصالح موسكو.
إن التحدي الاستراتيجي بالنسبة لروسيا اليوم يتمثل بإيجاد طريقة لتحويل نجاحها العسكري في سوريا إلى نجاح سياسي واقتصادي في هذه الدولة وفي المنطقة عموماً. إذ يبدو هذا الهدف بعيداً عن الواقع دون عقد اتفاقية شاملة مع العناصر الفاعلة الكبرى التي تدخلت هي أيضاً في هذا الملف.
الجمود في إدلب
لقد تبين بأن اتفاقية إدلب التي أبرمتها روسيا مع تركيا في أيلول 2018 لا يمكن تطبيقها بشكل عملي وذلك مع فشل تركيا في فصل “الإرهابيين” عن المعارضة المعتدلة. وبالنتيجة، ومع نهاية عام 2019، سيطرت هيئة تحرير الشام على ما يزيد على 90% من مساحة إدلب (ولكن في عام 2020 ضعفت سيطرتها عليها بسبب الاقتتال الداخلي وخروج جماعة حراس الدين من بين صفوفها). بل حتى البروتوكول الملحق الذي تم التوقيع عليه في الخامس من آذار عام 2020، قد فشل حتى اليوم بتنفيذ ما تنص عليه البنود الأساسية للاتفاق، فلم يتم إنشاء منطقة آمنة بعمق 20 كلم على طول طريق إم4 الدولي حتى الآن، وذلك لأن الطريق غير آمن، ولم يفتح أمام عبور المدنيين، إلى جانب وجود الجماعات الإرهابية والمتطرفة في المنطقة العازلة جنوب طريق إم4 والذي من المفترض أن يسيطر عليه الجيش السوري (قوات النظام) الذي تدعمه روسيا، بالإضافة إلى تعرض البنية العسكرية السورية والروسية إلى هجمات مستمرة من قبل المناطق التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام، ويشمل ذلك الهجمات المتكررة على الدوريات العسكرية المشتركة بين روسيا وتركيا، لذا فإن هذه المسألة قدمت المبرر لموسكو ودمشق للقيام بعمليات عسكرية محدودة تستهدف “الجماعات الإرهابية” في جنوب إدلب على مدار مدة تجاوزت السنة. وفي الوقت ذاته لا تسعى روسيا للقيام بعمل عسكري واسع النطاق في إدلب، لأن ذلك من شأنه أن يزيد التوتر مع تركيا.
وبفضل اتفاقية إدلب التي أبرمها بوتين وأردوغان في 5 من آذار 2020 في موسكو، وضعت روسيا وتركيا قواعد الاشتباك في إدلب، والتي سمحت لهما حتى الآن بتجنب أي تصعيد كبير مثل الذي حصل في خريف عام 2019، وشتاء عام 2020. إذ لحسن الحظ، اكتشف الطرفان طريقة لتجنب تلك المخاطر، بالرغم من أنها غير مستبعدة بشكل نهائي.
وبالنسبة لتركيا، فإنها أيضاً تعارض فكرة القيام بعمل عسكري واسع النطاق في إدلب، لأن ذلك سيدمر العلاقات مع روسيا وسيتسبب بظهور موجة جديدة من اللاجئين السوريين الذين سيعبرون الحدود التركية. وفي الوقت ذاته، فإن تركيا غير مستعدة لحل مشكلة هيئة تحرير الشام وغيرها من العناصر المتطرفة في إدلب، وهذا يعني بصورة أساسية عدم تنفيذ اتفاق الخامس من آذار مع روسيا. إذ منذ بدء عام 2020، قامت تركيا بحشد 15-20 ألف جندي في محافظة إدلب وأكثر من 5 آلاف وحدة عتاد عسكري، وهذا يكفي لحل مشكلة “الإرهابيين” هناك. إلا أن أنقرة ماتزال غير راغبة بالقيام بذلك، كونها ترغب بحفظ نفوذ أكبر من موسكو واستخدام إدلب كورقة للمساومة في الصفقات التي تتصل بشمال شرق سوريا وليبيا. والأهم من ذلك أن أنقرة وبحكم الأمر الواقع قامت بضم شمالي إدلب، إذ ابتداء من شهر أيار/حزيران من عام 2020 أصبحت الليرة التركية العملة الرئيسية في تلك المنطقة، كما أخذت تركيا تستثمر في عملية إعادة إعمار المنطقة، وكذلك في المساعدات الإنسانية وفي تطوير البنية التحتية هناك طوال أشهر، لذا من الصعب أن نصدق بأنها يمكن أن تتخلى عن هذه المنطقة بسهولة.
بالإضافة إلى قيام محاولات مؤخراً لإعادة تصنيف هيئة تحرير الشام وذلك عبر صرف الانتباه عنها والتركيز على جماعة أكثر تطرفاً وهي حراس الدين التي فكت ارتباطها بهيئة تحرير الشام في عام 2018، على أمل أن تقوم العناصر الأكثر تطرفاً في هيئة تحرير الشام بالانضمام أخيراً إلى حراس الدين، مما يجعل الأولى أكثر اعتدالاً بحيث يمكن أن تندمج أخيراً بين صفوف المعارضة السورية الموالية لتركيا والتي تعتبر جزءاً من العملية السياسية. وبالرغم من أن روسيا عارضت بكل صراحة إعادة تصنيف “الإرهابيين”، إلا أن هذه العملية تمثل فرصة سانحة أمام موسكو حتى تواصل مساومتها لأنقرة فيما يتصل بشمال شرق سوريا والقضية الكردية.
يمكن القول إن الوضع في إدلب قد وصل إلى مرحلة الجمود عملياً وبصورة أساسية، إذ ترغب روسيا وكذلك النظام السوري باستعادة إدلب وخاصة طريق إم4 الدولي، مع تجنب قيام عملية عسكرية واسعة النطاق، وذلك لأن فتح طريق إم4 سيعيد ربط حلب باللاذقية وشرق سوريا، وهذا بحد ذاته ضروري ولازم لعودة الأنشطة الاقتصادية والتجارية في هذه الدولة لسابق عهدها.
وبحسب ما ذكره مسؤول روسي رفيع تحدث إلينا شريطة عدم الكشف عن هويته، فإن خطة موسكو كانت تقوم على استعادة السيطرة على طريقي إم4 وإم5 الدوليين، لإغلاق ما تبقى من مناطق في إدلب وتحويلها إلى مشكلة تركية.
وفي الوقت ذاته، دفعت الهجمات العسكرية المتكررة التي تنطلق من المناطق التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام في إدلب على مناطق تسيطر عليها دمشق وعلى أهداف عسكرية روسية، كلها دفعت موسكو للرد باستخدام القوة. إذ بالرغم من أن روسيا لا تسعى لخلق أي توتر مع أنقرة كونها شريكاً مهماً في عملية أستانا (والتي لابد وأن تفقد الكثير من شرعيتها في حال خروج تركيا منها)، ولأنها تسيطر على جزء كبير ومهم من المعارضة السورية والفصائل المسلحة، كما أنها ماتزال تجري محادثات مع الولايات المتحدة بخصوص المناطق التي يسيطر عليها الكرد، فضلاً عن أن العلاقات الثنائية بين روسيا وتركيا التي تتطور يوماً بعد يوم (إذ تم تنفيذ مشاريع مهمة مثل خط الغاز التركي المعروف باسم ستريم، إلى جانب بناء مصنع أكويو للطاقة النووية، وتسليم منظومة إس-400).
ثم إن النزاعين في سوريا وليبيا أصبحا متلازمين منذ السنة الماضية، ولهذا أصبحت السياسة التركية اليوم في إدلب السورية أو في شمال شرق سوريا مرهونة بتطورات الأمور في ليبيا، حيث تلعب روسيا دوراً مهماً هي أيضاً، ولهذا السبب لم تتحول إدلب إلى مجرد قضية منفصلة عن النزاع السوري، بل تحولت إلى قضية تتصل بشرق الفرات وليبيا، وهذا يتطلب قدراً كبيراً من ضبط النفس لابد لموسكو وأنقرة أن تلتزما به لضمان عدم تصعيد الوضع، بما يسمح لكلا الطرفين بلعب دور أكبر في هذا السياق.
وبالنسبة لتركيا، فإنها تريد أن تحافظ على نفوذها في إدلب حتى تتمكن من استخدامها كورقة للمساومة في عقد اتفاق مع موسكو ودمشق حول القضايا التي تتصل بكرد سوريا أو حول ليبيا. وفي النهاية يبدو الوضع وكأن كلا الطرفين يختبر حدود الآخر، بما يجعل الأمور تقف بشكل متوازن على شفير التصعيد. فرفض أنقرة لاتخاذ خطوات عملية في إدلب نجم عنه وضع متقلقل في منطقتي تل رفعت ومنبج بشمال حلب، وظهور مناطق يسيطر عليها الكرد وتوسع نفوذهم نحو شرق الفرات والتقارب بينهم وبين الولايات المتحدة.
إذ بحسب ما ذكره دبلوماسيون روس رفيعو المستوى، مايزال خيار عقد اتفاقية مبادلة بين موسكو وأنقرة حول إدلب ومنبج وشمال شرق سوريا مطروحاً على الطاولة.
وهكذا أصبح كل ما يقال اليوم هو إنه من غير المرجح قيام مواجهة كبيرة بين روسيا وتركيا من أجل إدلب. وفي الوقت ذاته، يتطلب التنفيذ العملي لاتفاق 5 من آذار حول إدلب الالتزام بنهج حذر وحازم من قبل روسيا.
الوضع المتقلقل في شرق الفرات
من التحديات الكبرى التي تواجه روسيا في سوريا الوجود الأميركي في المناطق التي يسيطر عليها الكرد شرق الفرات. إذ بالرغم من إعلان الولايات المتحدة في كانون الأول من عام 2018 عن سحبها لكامل قواتها من سوريا، إلا أن هذه الخطوات لم تتخذ على الإطلاق، بل إن الولايات المتحدة استبقت عدداً محدوداً من قواتها في المنطقة الشرقية بسوريا حتى يقوم هؤلاء بحراسة حقول النفط التي تخضع لسيطرة قسد. وبذلك ضربت واشنطن ثلاثة عصافير بحجر واحد، حيث يعمل الجيش الأميركي هناك كقوة ردع ضد أي هجوم عسكري تركي ضد قسد، وضد توسع قوات النظام أي ضد سيطرة روسيا على المنطقة الشرقية في البلاد، وضد الوجود الإيراني المتزايد.
فالواقع المتمثل بوجود الكثير من القوى الخارجية والمحلية على الأرض في المنطقة الشرقية في سوريا، وهي إيران وتركيا وروسيا والولايات المتحدة، والجيش السوري، والكرد، والقبائل العربية، يجعل من هذه المنطقة الأكثر تعقيداً في الملف السوري. إذ حتى الآن لم تتمكن كل هذه القوى الفاعلة الكبرى من تغيير الوضع الراهن في تلك المنطقة لصالح أي منها، وهذا ما يجعل فكرة القيام بأي عملية ضمن هذه البيئة أمراً غاية في الصعوبة أمام الجميع.
لا أحد يدري إلى أي مدى ستلتزم الولايات المتحدة بشكل جدي بدورها كقوة ردع بالنسبة لكل الأطراف الأخرى في سوريا. إذ حتى الآن تتلخص المخاوف الكبرى لواشنطن في سوريا بضمان تأمين الكرد، ومنع تركيا والنظام السوري من القيام بعمليات عسكرية ضد الكرد، وإبقاء إيران تحت السيطرة، وتحويل سوريا إلى عبء بالنسبة لروسيا. وهذا يثقل على كل الأطراف بشكل طبيعي، لاسيما بالنسبة للأتراك، الذين يعتبرون قوات وحدات حماية الشعب الكردية التي تسيطر على قسد بمثابة تنظيم إرهابي يشكل خطراً على أمن تركيا. إذ إن الدعم الأميركي الذي يقدم للكرد ورفض الولايات المتحدة تنفيذ كل ما طلبته تركيا منها بخصوصهم، وضع أنقرة في موقف شائك، فهي لا تريد أن تقوم بعملية عسكرية واسعة النطاق ضد قسد لأسباب وجيهة، كما أن أنقرة تبحث عن حل يحفظ ماء وجهها ويسمح لها بمعالجة القضية الكردية بشكل فعال دون أن ينفر ذلك الولايات المتحدة منها أكثر. ويرى البعض بأنه ماتزال خلافات حادة قائمة بين تركيا والولايات المتحدة، وهذه الخلافات تعيق قيام تسوية فعالة بينهما في شمال شرق سوريا، وهذا يضر بالسياسة الروسية هناك بشكل طبيعي.
وثمة قضية مهمة أخرى في مناطق شرق الفرات تصدرت الواجهة قبل سنة وهي خطر عودة تنظيم الدولة، فلقد استغلت فلول تنظيم الدولة الخلافات والتوتر القائم بين العناصر الفاعلة فقامت بشن هجمات عقدت بيئة العمليات بشكل أكبر.
واليوم يبدو أن كلاً من روسيا وتركيا والولايات المتحدة ليس لديهم جميعاً خطة ثابتة حول ما سيفعلونه في سوريا، ناهيك عن عدم توصلهم إلى اتفاق بشأنها. ولهذا يتسبب الوضع المتقلقل في إدلب والدور التخريبي الذي تلعبه الولايات المتحدة في مناطق قسد بتعقيد التحركات التركية-الروسية في سوريا. إذ بالرغم من أن المحادثات بين الجيشين الروسي والتركي حول إدلب وشرق الفرات ماتزال جارية، إلا أنهما لا يمكنهما إلا أن تبقيا الوضع الراهن على حاله. كما أن الصفقات الروسية والتركية مع الولايات المتحدة حول المنطقة الشرقية في سوريا لم تأت بنتيجة جوهرية. وذلك لأن سوريا ليست أولوية بالنسبة للولايات المتحدة في الوقت الراهن على أية حال، ومن غير المحتمل أن تصبح أولوية بالنسبة لإدارة بايدن، مما يضعف الأمل بتحقيق أي تقدم في هذا الملف.
ومن الواضح بأن كل الأطراف المعنية بحاجة للتوصل إلى اتفاق بشأن المناطق التي يسيطر عليها الكرد، بيد أن الجميع يحاول أن يخمن شكل ونوع تلك الاتفاقية، وستبقى هذه المهمة إحدى أكثر المهام التي تنطوي على تحديات كبيرة بالنسبة لكل العناصر الفاعلة التي تدخلت بهذا الملف طوال الأشهر القادمة.
اللجنة الدستورية
مضى على تشكيل اللجنة الدستورية السورية أكثر من سنة غير أنها لم تحقق أي تقدم حقيقي على المسار السياسي، ويستثنى من ذلك الاجتماعات العديدة التي عقدت في جنيف. إن عدم قدرة هذه اللجنة على القيام بمهامها يعتبر عقبة كبرى أمام دفع العملية السياسية نحو الأمام والمضي بها قدماً بما أن صياغة دستور جديد للبلاد يعتبر من القضايا الأساسية التي لابد من حلها. كما أن دمشق ظلت ترفض القبول باللجنة الدستورية وبالمعارضة طوال فترة طويلة، إلا أن الوضع تغير خلال السنة الماضية، عندما أصبحت دمشق تعاني تحت وطأة ضغوطات اجتماعية واقتصادية ومالية وإنسانية كثيرة ترتبت على تسع سنوات من الحرب، ناهيك عن العقوبات الغربية القاسية، وقد تفاقمت كل تلك الأمور بسبب الأزمات الأخيرة التي ظهرت في لبنان فضلاً عن انتشار جائحة كوفيد-19. كل ذلك من المحتمل أن يجعل دمشق ألين وأميل للقبول بالتسويات. كما أن الوضع الإقليمي يتغير هو أيضاً، وقد أدى ذلك لقيام مصالحة جزئية بين الإمارات وسوريا، ويعود أحد أسباب تلك المصالحة لتنامي النفوذ التركي في سوريا وبين صفوف المعارضة السورية. إذ بوسع الإمارات والسعودية التأثير على جزء من المعارضة السورية في تلك اللجنة بهدف الحد من النفوذ التركي الذي دفعهم للتقارب مع دمشق بشكل تلقائي. ويرى البعض بأن الأسد قد يبدي اهتماماً أكبر بالعملية السياسية، ولابد للضغوطات التي تمارسها موسكو أن تلعب دوراً في جعل السلطات السورية أكثر رغبة بالتفاوض.
وفي الوقت ذاته، تفتقر اللجنة الدستورية إلى مشاركة كل الأطراف، بما أن تركيا تعارض بشدة مشاركة الكرد فيها. إذ بالرغم من أن تشكيل اللجنة الدستورية يعتبر بداية طيبة على أية حال، إلا أنه من الصعب أن نتخيل أنها ستتمكن من التوصل إلى حل سياسي شامل ودائم لتلك البلاد بمفردها، إذ دون معالجة القضية الكردية إما عبر إشراك الكرد باللجنة أو عبر عقد اتفاق بينهم وبين دمشق، لابد وأن تكون كل محاولات إطلاق عملية سياسية دائمة ومستمرة في سوريا محكومة بالفشل.
وإنه لتحد كبير بالنسبة لروسيا أن تجعل العملية السياسية شاملة وناجحة في نهاية الأمر، فقد حاولت موسكو خلال تحركاتها الأخيرة أن تردم الهوة بين الجناح السياسي لقسد، والذي يمثله مجلس سوريا الديمقراطي، وبعض جماعات المعارضة السورية المقربة من موسكو، والتي يمكن أن تسمح بإحياء المحادثات بين الكرد ودمشق وأن ترسل إشارة واضحة لتركيا بأن الكرد لا يمكن إقصاؤهم من التسوية السياسية. ولكن على أية حال، مايزال الطريق طويلاً، ومايزال كل ذلك يقف كتحد كبير ومهم جداً.
عملية إعادة الإعمار
تعتبر عملية إعادة الإعمار وإنعاش الاقتصاد السوري، وإعادة بناء القوى العسكرية والأمنية وغيرها من المؤسسات، ورفع العقوبات الأميركية، واستقطاب الأموال الأجنبية، وإيجاد السبيل الأنسب لقيام مصالحة وطنية من أهم القضايا التي تواجهها روسيا في سوريا. وهنا يحق للمرء أن يتساءل لماذا ترغب روسيا بالاهتمام بكل هذه المشكلات بالغة التعقيد ولم لا تترك الأمر للسوريين حتى يقرروا ذلك، ورداً على ذلك السؤال نقول: هنالك أسباب مهمة عديدة تدفع روسيا للقيام بذلك.
أولها إنه من الضروري بالنسبة لروسيا استعراض قصة نجاحها أمام العالم، بما يعكس فشل النهج الغربي في النزاعات التي قامت في العراق وليبيا وأفغانستان واليمن وغيرها.
ثانياً، لقد استثمرت روسيا الكثير في سوريا، لذا لابد لها من جني الفوائد الاقتصادية وذلك على شكل عقود مختلفة، مع تمكين وصولها إلى الموارد، وفسح المجال لها للتنقيب عن النفط الصخري والغاز قبالة الساحل السوري. وللاستفادة من كل ذلك، تحتاج موسكو أن تعود سوريا إلى سابق عهدها على المستوى الاقتصادي.
ثالثاً: لقد قامت روسيا بتأمين قاعدتين عسكريتين في سوريا، وتحديداً في اللاذقية وطرطوس، ولهذا ستحتفظ بوجود لها هناك على الأقل خلال الخمسين سنة القادمة. ولتحويل وجودها العسكري والاقتصادي في هذه الدولة إلى أصول وليس لعبء، تحتاج موسكو لوجود حكومة مستقرة، ومؤسسات فاعلة، بما أن ذلك يمنع البلاد من الانزلاق والعودة إلى حالة الفوضى. ويمكن لذلك أن يتحقق في حال خضعت الحكومة والأجهزة العسكرية والأمنية إلى تغييرات معينة، وكذلك في حال رفع العقوبات الأميركية، وانطلاق عملية إعادة الإعمار الاقتصادية بمشاركة الدول المانحة.
وطوال الأشهر الماضية، كانت روسيا تحاول إقناع الشركاء الأوروبيين بالتعاون معها لإعادة اللاجئين ولإطلاق عملية إعادة الإعمار الاقتصادية. إذ إن الأوروبيين غير راغبين حتى الآن بالتعاون معها في هذه القضايا دون قيام دمشق بإصلاحات سياسية، ومخاوفهم مشروعة بكل تأكيد، إذ لا توجد ضمانات لقيام حياة طبيعية في حال عودة اللاجئين إلى بلدهم، كما أن الوضع الاجتماعي والاقتصادي الذي يمكن أن يحفزهم على العودة بات مزرياً، ناهيك عن المساعدات الإنسانية المحدودة والإشكالية التي يمكن أن تصلهم. وقد يتعرض اللاجئون للاضطهاد أو قد يتم اعتقالهم بكل بساطة في حال عودتهم. إذ بحسب ما ذكره السيد أمين عواد مدير المكتب الإقليمي في منطقة شرق المتوسط التابع للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين والذي ألقى خطاباً في مؤتمر الأمن الدولي الذي عقد بموسكو في عام 2019، فإن 80% من 5.5 ملايين لاجئ سوري يرغب بالعودة بمجرد أن تتم تلبية تلك الشروط، ويشمل ذلك تأمين سكن لهم وفرص عمل، وتأمين أمنهم وسلامتهم على المستوى الشخصي والقانوني. فيما أعرب 12% منهم عن استعداده للعودة إلى سوريا على الفور. كما أن هنالك الكثير من حالات الاعتقال والاضطهاد والتجنيد الإجباري في الجيش ومصادرة الأملاك وغيرها وكلها موثقة. وهذه المخاوف ومصادر القلق المشروعة هي التي دفعت دول الاتحاد الأوروبي لرهن أي تعاون مع روسيا والسلطات السورية بتحسين الظروف أمام عودة اللاجئين وبتنفيذ دمشق لإصلاحات.
بيد أن ذلك خلق عقبة كبيرة أمام موسكو في محاولتها إقناع الشركاء الأوروبيين بفكرة التعاون. إذ بالإضافة لكل ما سبق، أصبح الاتحاد الأوروبي اليوم مشغولاً بمشاكله الداخلية، لذا فإن القضايا التي تتصل بسياسته الخارجية وبالتحديد بالشرق الأوسط وسوريا، لم تعد تحتل موقع الصدارة ضمن سلم أولوياته. بيد أن تدهور الوضع الإنساني والاجتماعي والاقتصادي في سوريا قد يهدد بزعزعة الاستقرار في المنطقة، وهذا لابد وأن يدفع روسيا ودمشق والاتحاد الأوروبي إلى تغيير مواقفهم، ليصبح كل منهم أميل لتقديم تنازلات حتى يلتقي الجميع عند نقطة في منتصف الطريق، أو ليتفقوا على الأقل حول قضية حساسة مثل تسليم المساعدات الإنسانية. إذ منذ تموز 2020، لم يعد بوسع المساعدات الأممية أن تصل إلى سوريا إلا عبر معبر حدودي واحد ظل مفتوحاً أمامها، ألا وهو معبر باب الهوى، والذي سيتم إغلاقه على الأرجح في تموز من عام 2021. ولهذا ينبغي لروسيا والاتحاد الأوروبي أن يتعاونا سوية على خلق آلية ضبط مشتركة لضمان وضع شروط شفافة بالنسبة لعملية تسليم المساعدات الإنسانية وتوزيعها في مختلف أنحاء سوريا. ويمكن لذلك أن يتحول لأول خطوة على طريق بناء الثقة بينهما والذي قد يؤدي بدوره إلى قيام المزيد من التعاون حول سوريا بين الاتحاد الأوروبي وروسيا.
ينبغي على موسكو أن تستعين بدبلوماسيتها وبالمسار الثاني لقنوات التواصل حتى تبقى في تواصل دائم مع الشركاء الأوروبيين والسوريين، وهي تحاول إيجاد الحلول والتسويات ومقارنة مصادر القلق بالنسبة للاتحاد الأوروبي ودمشق، فهذا سيتيح لها أن تعرف إلى أي درجة يبدي الأطراف استعدادهم لخفض سقف مطالبهم والقبول بشيء أقل مما يطلبونه في الوقت الحالي. إذ تجد موسكو اليوم نفسها في موقف محرج، فقد كان الأجدر بها أن تحد من النفوذ الممارس على دمشق، في الوقت الذي يرى فيه الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والقوى الإقليمية بأنها ترفض أن تمارس ضغوطات على الأسد، هكذا بكل بساطة.
وحالياً يبدو أن موسكو تركز على استقطاب الدول العربية، لاسيما الخليجية منها، نحو مشروع إعادة إعمار سوريا، إذ بالرغم من أن العملية معقدة إلى حد ما، إلا أنها شهدت تطورات إيجابية، منها إعادة فتح سفارتي الإمارات والبحرين في دمشق، ومنتدى الأعمال الذي شاركت فيه سوريا والإمارات في أبوظبي، وزيارة علي مملوك أرفع استشاري أمني لدى بشار الأسد للرياض في أواخر عام 2018. إذ إن ذلك أكد رغبة القوى الخليجية في ضمان مصالحها ونفوذها في سوريا. وبالرغم من أن السعودية ماتزال تعارض فكرة المشاركة بشكل علني وصريح في عملية إعادة إعمار سوريا بل حتى في إعادة دمج سوريا ضمن العائلة العربية، إلا أنها تدرك ضرورة الحد من خسائرها وضمان شيء من النفوذ لها في تلك البلاد. وعلاوة على ذلك، تبدي كل من السعودية والإمارات مخاوفهما تجاه تعاظم النفوذين الإيراني والتركي في المنطقة، وترغب كل منهما بإبقاء هذين النفوذين تحت السيطرة في سوريا. وهكذا، وعبر الاستعانة بأدواتهما المالية والمشاركة في عملية إعادة الإعمار، يمكن لهاتين الدولتين ألا تفسحا سوى هامش ضيق لإيران وتركيا في سوريا، وذلك ضمن المجال الاقتصادي.
كما أن رفع العقوبات الأميركية، وخاصة قانون قيصر، عن سوريا يعتبر أحد أهم القضايا التي أثرت بشكل كبير على مشاركة الجميع في عملية إعادة إعمار سوريا، ويشمل ذلك دول الخليج والاتحاد الأوروبي.
هندسة بنية أمنية إقليمية جديدة
منذ عام 2011 بدأت عملية التحول الكبرى في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تسير على قدم وساق. ولهذا لابد وأن تلعب القضية السورية وطريقة تسويتها دوراً مهماً في تحديد البنية الأمنية الجديدة للشرق الأوسط والتي بدأت ملامحها تظهر اليوم، وذلك لأن كل العناصر الفاعلة الكبرى الإقليمية والدولية منها، أي تركيا وإيران والعراق والسعودية وروسيا والولايات المتحدة والإمارات وإسرائيل والأردن ولبنان، كلها تدخلت في السياق السوري بطريقة أو بأخرى. كما أن نتائج الحرب السورية والصراع على النفوذ والسلطة بين العناصر الفاعلة التي تدخلت في هذا الملف سترسم ملامح المنظومة الأمنية التي تشكلت حديثاً في هذه المنطقة. ويتفق الكثير من الباحثين على أن العمليات التي شابها الاضطراب والتشوش والتي نشهدها اليوم في عموم الشرق الأوسط تعتبر خير دليل على قرب ولادة نظام عالمي جديد.
وبالرغم من أن روسيا اختارت تعزيز علاقاتها مع العناصر الفاعلة الإقليمية التي تتمتع بإمكانيات وقدرة أكبر على التأثير في الوضع القائم على الأرض، إلا أن الأساس المنطقي الذي تقوم عليه سياستها الإقليمية يعتمد على تجنب المبالغة في التدخل بشكل فعلي في المنطقة، والذي يترتب عليه كلفة عالية جداً. إذ يرى كثيرون بأن روسيا استعانت بالقوة الخشنة في الغالب الأعم لتحقيق أهدافها في سوريا. إلا أن موسكو بحاجة للخروج بصيغة يمكنها من خلالها تحويل تلك النجاحات إلى عوائد اقتصادية ونفوذ سياسي في كامل المنطقة على المدى البعيد. فإذا تمكنت روسيا من تحقيق النجاح في هذا المضمار، فلابد وأن تضمن لنفسها لعب دور مؤثر في البنية الأمنية الإقليمية التي بدأت تظهر منذ فترة قريبة.

المصدر: المجلس الروسي للشؤون الدولية/ موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى