عرضت روسيا على سوريا صفقة تؤدي الى إزالة المشاكل القائمة بين سوريا وإسرائيل ترعاها موسكو وتقوم على تنازلات من الطرفين من أجل تفاهمات متبادلة تشمل إقناع إيران بتخفيض حجم تواجدها العسكري، بالذات حول دمشق، وبذلك تكون طرفاً رابعاً في صفقة التفاهم الروسي- الإيراني- السوري- الإسرائيلي. فموسكو تريد استخدام الوضع الراهن لتحسين ظروفها داخل سوريا بعدما اتضح لها ان عملية “استانا” التي تضم روسيا وتركيا وإيران- للتفاهم في سوريا اصطدمت بالحائط نتيجة تدهور العلاقة الروسية- التركية بالذات بين الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان. وروسيا ترى ان في وسعها ان تلعب لعبةً جديدة في الشرق الأوسط عبر البوابة السورية أساسها عزل تركيا وتخفيض النفوذ الإيراني في سوريا بترتيبات أمنية تُرضي إسرائيل وتفتح باباً جديداً تُمسك موسكو بمفاتيحه الأساسية، يتطلّب، من وجهة نظر موسكو، التمسّك ببقاء الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة.
الرسالة الأساسية التي نقلها وزير الخارجية السوري الجديد فيصل المقداد الى نظيره الروسي سيرغي لافروف في زيارته لموسكو هذا الأسبوع هي ان الرئيس الأسد يريد استعجال الأمور speed up the process الى ترتيبات ضرورية للاستقرار في سوريا. وبحسب مصادر مطّلِعة على أجواء اللقاء المُهم، اتفق الطرفان على انعدام اللغة المشتركة واستحالة التوصل الى صفقة مع تركيا حول ادلب حتى ولو بذلت موسكو قصارى جهدها. وبالتالي، اتُفق على أن ادلب باتت “وجع رأسٍ” لا مناص من اقتلاعه منتصف عام 2021.
هذا يتطلّب قراراً روسياً استراتيجياً لن يكون سهلاً أبداً نظراً للعلاقات المُتوتِّرة بين موسكو وأنقرة في أكثر من ملف ومكان بالرغم من انفراجٍ هنا ورسالة وديّة هناك. فقرار حسم ادلب عسكرياً يشكّل مشكلة كبيرة جداً لموسكو. أما دمشق فإنها تدفع الى الاستعجال في هذا الحسم العسكري بدون أخذ تركيا في الحساب لأنه مصيري للنظام ولسوريا.
رأي روسيا وسوريا، كما نقلته المصادر المطّلِعة على أجواء اللقاء بين لافروف ومقداد، هو ان “استانا” باتت عملية لا حاجة اليها الآن بعدما تعدّاها الزمن- أقلّه بشقّها التركي. هذا يترك العلاقات الروسية- الإيرانية- السورية في مكانٍ جديد ويضع الحديث في لغةٍ ومرتبةٍ مختلفة، لكنه لا يخفي ولا ينفي المعضلة التركية الكبيرة للثلاثي في سوريا.
الرسالة الأخرى الفائقة الأهمية التي حملها المقداد الى موسكو تمحورت حول ديمومة بشار الأسد مهما كانت الظروف داخل سوريا وحولها. فالأسد لن يترك السُلطة مهما حصل إذ انه ليس راغباً ولا جاهزاً للرحيل تحت أي ظرف كان. انه مقتنع بأن مستقبل سوريا السياسي مبني حصراً حول الأسد مهما حاصرته الضغوط المحلية والدولية. وهو جاهز للقاءات مع المعارضة في جنيف ولكن ليس لإبرام صفقة المشاركة في السلطة مع المعارضة. يرضى بتغيير هيكلي structure عبر البرلمان أو الانتخابات طالما حصيلته تكون بقاء الأسد عنصراً حاسماً في السلطة.
هذه هي رسالة بشار الأسد الذي قد يقوم بزيارة الى موسكو مطلع العام المقبل. ما يريده ويتمناه من موسكو يرتكز أولاً على اعتباره حجراً رئيسياً ومركزيّاً في استقرار سوريا، وثانياً، انه يريد من روسيا أن تحضّ الدول العربية على تغيير نهجها وموقفها وسلوكها نحو سوريا وأن تتأقلم مع بقاء الأسد حجر أساس.
الرسالة الأساسية التي بعثها الرئيس السوري عبر المقداد الى روسيا هي: يجب عدم خسارة فرصة فرض الاستقرار في سوريا (والاستقرار لغة تحلو تقليدياً لروسيا) وذلك عبر تغيير طفيف في النظام السياسي وتوسيع أرضية الدعم للأسد داخل سوريا ومن خارجها.
في الموضوع الإيراني، نقلت المصادر الوثيقة الاطلاع ان الموقف الذي حمله المقداد هو ان التعاون السوري- الإيراني سيستمر وسيزداد “لأن إيران باتت شريكاً حقيقياً وشريكاً ثابتاً”، إنما ليس بعيداً عن التنسيق مع موسكو. بكلام آخر، تنوي دمشق أخذ رأي روسيا دائماً وبصورة متماسكة عندما يتعلق الأمر بما تريده الجمهورية الإسلامية الإيرانية في سوريا، وهي لن تنفذ مئة في المئة المطالب الإيرانية تلقائياً قبل استطلاع المواقف الروسية منها.
الرسالة الروسية التقليدية التي سمعها المقداد من لافروف هي ان موسكو مستمِرّة في تقديم الدعم العسكري والاقتصادي لسوريا وهي مُتمسِكة بالأسد. الجديد فيها هو ان روسيا مستعدّة لإبرام صفقة تزيل المشاكل ما بين سوريا وإسرائيل وهي جاهزة لخطوات في هذا الاتجاه قريباً. ولأن موسكو تفهم تماماً مدى النفوذ الإيراني في سوريا والعلاقة العضوية بين النظامين في دمشق وطهران، ترى ان من الضروري ان تكون إيران جزءاً من الصفقة بصورة أو بأخرى.
وعليه، ولأن لدى روسيا أوراق ثمينة يمكن لها ان تستخدمها للتأثير على المواقف الإيرانية مثل صفقات الأسلحة ودورها المهم في مصير الاتفاقية النووية JCPOA، ينوي وزير الخارجية الروسية القدير في استخدام الأوراق الثمينة أن يطلب من إيران تخفيض حجم وجودها العسكري بالذات حوالى دمشق كي يكون في إمكان روسيا رعاية التفاهمات السورية- الإسرائيلية- الإيرانية.
فالقرار في موسكو هو نفض القلق من وضع روسيا في سوريا والانتفاض على فكرة التلقّي لاستبدالها بفكرة المبادرة لاستخدام سوريا كمدخل لدور بنّاء لروسيا داخل سوريا وفي الشرق الأوسط.
ليس واضحاً ان كانت الأفكار الروسية المتعلّقة بإسرائيل وتفاهماتها المُحتملة مع الأسد وإيران قد تمت مناقشتها مُسبقاً بتفاصيل مع الأطراف الإسرائيلية المعنيّة. إنما معالم الفكرة الأساسية لا بد أن بحثتها روسيا مع إسرائيل قبل عرضها على سوريا.
أدوار الجمهورية الإسلامية الإيرانية داخل سوريا قد يُمليها مصير العلاقة بينها وبين إدارة الرئيس الأميركي المُنتخب جو بايدن. فعلى ضوئها تُقرّر إسرائيل هامش التفاهمات بينها وبين طهران، والعكس بالعكس. إنما الرعاية الروسية لتفاهمات سورية- إسرائيلية- إيرانية تبقى ذات أهمية. فموسكو تبحث عن لغة مشتركة مع إدارة بايدن، والرسالة المعنيّة بالسياسة الخارجية التي سعى فلاديمير بوتين أن يبعثها أثناء مؤتمره الصحفي المطوّل هذا الأسبوع كان عنوانها: الاعتدال واعتزام روسيا أن تبحث عن وتلعب أدوار بنّاءة في مواجهة مشاكلها العديدة.
أثناء الدائرة الافتراضية الأخيرة لهذا العام لقمة بيروت انستيتيوت في أبو ظبي طغى مصير العلاقة الأميركية- الإيرانية على مصير الشرق الأوسط واختلفت الآراء حول تسلسليّة التفاوض وكيفية استخدام أوراق النفوذ مثل مصير العقوبات الأميركية على الجمهورية الإسلامية الإيرانية. شارك في الحلقة خمس نساء من صنّاع القرار في المؤسسات الفكرية العريقة هن: السفيرة تاتيانا غفولر، لينا الخطيب، إلي جيرانمايا، فلورانس غاوب، وكارين يونغ.
غفولر انتقدت سياسة فرض العقوبات الأميركية “بالذات على روسيا بسبب الوضع في أوكرانيا” ودعت الى التعاون بدل العقاب. جيرانمايا دعت الى تلبية حاجة إيران الى “جهود عاجلة” من إدارة بايدن لإثبات عزمها على رفع العقوبات من أجل تحقيق “استقرار رشيق” swift stabilizationللصفقة النووية ضمن أسلوب المرحلتين بحيث تنصب المرحلة الأولى على المسألة النووية ثم على ضوئها تتحوّل pivot المفاوضات الى المسائل الأخرى ومن بينها “جهود نزع الفتيل” de-escalation efforts.
رأي لينا الخطيب اختلف كليّاً إذ دعت الى استخدام الاتفاقية النووية “كجزرة متدلّية” الى حين انتهاء عملية المفاوضات التي يجب أن تشمل برنامج الصواريخ والمسائل الإقليمية، واعتبرت ان عام 2020 أسفر عن تغيير راديكالي في الضغط على إيران بسبب سياسة الضغوط القصوى “التي يجب أن تبقى مستمرّة” لأنها ستُعيد إيران الى الطاولة الديبلوماسية. رأيها ان “إيران وحلفاءها في المنطقة ليسوا في تلك الدرجة من الارتياح التي يودّون لنا أن نعتقد” لأن سياسة العقوبات أضعفتهم جدّيّاً مشيرة الى أثر العقوبات الواضح في سوريا.
فلورانس غاوب اعتبرت “ان الديبلوماسية الأوروبية لا قيمة لها بدون الدعم الأميركي” في مختلف المسائل بما في ذلك اتفاقية JCPOA، “ولا أعتقد ان لنا دوراً حاسماً في اللعبة الشرق أوسطية” في هذا المنعطف.
كارين يونغ توقعت أن “تمضي ادارة بايدن باستخدام أدوات العقوبات التي شاعت في إدارة ترامب لأنها ستجدها ذات فاعلية”، كما لفتت الى الانتخابات الإيرانية المُرتقبة في حزيران (يونيو) واعتبرت ان الستة أشهر الأولى من إدارة بايدن لن “تجد النجوم، بالضرورة، بمحاذاة الديبلوماسية الجيدة”.
المصدر: النهار العربي