يُعتقد على نطاق واسع، في أوساط المتخصصين والباحثين في الحركات الجهادية الإسلامية، أن التصنيفات التي تم التذكير بها مؤخراً، من جانب السلطات الأميركية، حيال تنظيم “هيئة تحرير الشام” الناشطة في إدلب، لن تُغيّر بصورة نوعية من طبيعة العلاقة التي حكمت الطرفين في السنوات الثلاث الأخيرة، وهي علاقة مُلتبسة للغاية، لكنها دون شك، ليست علاقة حرب، كما أنها ليست علاقة “سلام كامل”. وهي علاقة قد تتضمن منعطفات أخرى من التعاون غير المعلن بين الطرفين.
فأن تُذكّر الخارجية الأميركية بالمكافأة التي سبق أن أصدرتها قبل سنتين، مقابل الإبلاغ عن مكان زعيم هيئة “تحرير الشام”، أبو محمد الجولاني، وأن تدرج تنظيمه ضمن الكيانات ذات “مصدر القلق الخاص” حيال الحريات الدينية، في تقريرها الأخير، لا يعني بالضرورة أن واشنطن بصدد تصفية الجولاني مثلاً، أو شن عمل عسكري ضد تنظيمه، بل ربما على العكس. على الأقل في المدى القريب والمتوسط. ذلك أن هيئة “تحرير الشام”، أثبتت قيمة نوعية بالنسبة لكثير من اللاعبين الإقليميين والدوليين، حيال ملفين هامين، ضبط الجهاديين في المنطقة التي تسيطر عليها، والإمساك بملف المهاجرين منهم، الذين لا تريد دولهم، عودتهم.
إلا أنه في الوقت نفسه، فإن تلك المؤشرات الصادرة مؤخراً عن السلطات الأميركية، تؤكد أن مستقبل الهيئة على المدى البعيد، ما يزال مجهولاً. فواشنطن أكدت خلال الأسابيع القليلة الفائتة، مرتين، أنها لم تقبل بعد بإعادة تدوير الهيئة، وأنها لم تنس أن أبرز قيادات الهيئة، وعلى رأسهم الجولاني نفسه، هم من الجيل الثاني الذي نشأ وتربى بعض رجاله على يدّ أشرس فروع تنظيم القاعدة في العالم، حينها، بزعامة أبو مصعب الزرقاوي في العراق، والذي من رحمه وُلد تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق”، الأب الشرعي لـ “داعش”، والأب الشرعي أيضاً لـ تنظيم “جبهة النُصرة”، الذي حاول الجولاني إعادة تدويره مراراً، على أمل تنظيفه من تهمة كونه تنظيماً “قاعدياً”، في نواته الصلبة. على الأقل، أمام الرأي العام الدولي، وتحديداً، الغربي والأميركي بالذات.
حالة الالتباس في طبيعة العلاقة بين الأميركيين و”هيئة تحرير الشام”، مزدوجة، إذ يبدو هذا الالتباس، لدى طَرَفي العلاقة. فالخارجية الأميركية ذاتها التي أصدرت مؤخراً تصنيفات تذكّر بأن “تحرير الشام” تنظيم إرهابي من وجهة نظرها، هي ذاتها التي أطلق مبعوثها الخاص السابق، لسوريا، جيمس جيفري، تصريحه الملفت، في شباط الفائت، حينما قال إن الهيئة تركز على محاربة نظام الأسد، وأنه لم تُسجل للهيئة أي تهديدات على المستوى الدولي منذ زمن، وأنها تريد تقديم نفسها كمجموعة معارضة وطنية تضم مقاتلين، لا إرهابيين. في التصريح ذاته، أشار جيفري حينها إلى أن واشنطن لم تقبل بهذا الادعاء، بعد. لكن الرسالة من ذلك التصريح كانت جليّة لكل المتابعين. فواشنطن لا ترى “تحرير الشام”، خطرة، في المدى القريب والمتوسط. وهي ليست ضمن أولويات واشنطن لاستهداف الحركات الجهادية المتطرفة.
ما يزيد هذا الالتباس، تعقيداً، أن ضربات التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، التي استهدفت قيادات جهادية متطرفة، طوال العام 2020، كانت في معظمها بعيدة عن مقار وقيادات هيئة “تحرير الشام”، وكانت تستهدف خصومها، من التنظيمات الأكثر تطرفاً، وفي مقدمتها تنظيم “حراس الدين”، في الوقت نفسه، الذي كانت فيه الهيئة تشن حملات اعتقال لبعض قيادات تلك التنظيمات. وهو أمر بدا للكثير من متابعي تطور الحركات الجهادية في سوريا، وكأن “تحرير الشام”، وواشنطن، تحاربان في نفس الخندق. زاد على هذا الالتباس، الظهور العلني المتكرر لزعيم الهيئة، الجولاني، في أكثر من مناسبة، في إدلب، وفي أوساط الجمهور، في حين كانت قيادات التنظيمات الأخرى، تتخفى، ولا يُعرف مكانها مطلقاً، الأمر الذي أوحى بأن الجولاني لا يخشى التصفية على يدِ الأميركيين، رغم أنه على قائمة المستهدفين، رسمياً، منذ 2013، بوصفه “إرهابياً عالمياً”، حسب التصنيفات الأميركية ذاتها.
لكن هذا الالتباس في رؤية الأميركيين لـ “تحرير الشام”، يصبح أقل تعقيداً، إن راجعنا تصريحات جيمس جيفري الأخيرة، التي قدّم فيها جردة حساب لأداء واشنطن في الملف السوري، خلال إدارة الرئيس الأميركي المنتهية ولايته، دونالد ترامب، وصاغ تصوراته لمستقبل ذلك الأداء، خلال عهد الرئيس الجديد، جو بايدن. إذ تغيب “تحرير الشام”، عن أولويات أميركا في سوريا، على المدى القريب والمتوسط. حيث تحتل إيران المرتبة الأولى باعتبار أن إخراجها من سوريا، هو أبرز الأولويات الأميركية في الساحة السورية. لكن في الوقت نفسه، يقدّم جيفري في قراءته لمستقبل الحل في سوريا، إشارة غير مشجعة حيال “تحرير الشام”، حينما يتحدث عن تسوية مأمولة مع روسيا وتركيا، تقضي بخروج الجميع من سوريا، بما فيهم الأميركيون، على أن يتعاون الجميع “الإقليمي والدولي”، ضد “الإرهاب”. وما دامت “تحرير الشام”، ضمن تصنيفات الخارجية الأميركية، كتنظيم “إرهابي”، فهذا يعني، أن الرؤية الأميركية على المدى البعيد، ما تزال ترى أن “تحرير الشام”، ليست مؤهلة لأن تكون لاعباً محلياً، من المقبول استمراره في الداخل السوري، حينما يكون التوصل لتسوية نهائية للأزمة السورية، ممكناً. لكن حتى الوصول إلى تلك التسوية النهائية، يبدو أن وجود “تحرير الشام”، أمر مرغوب أميركياً، من زاويتين، فهي ضمانة لمحاربة الجهاديين الأكثر تطرفاً وضبط الساحة الجهادية في مناطق سيطرتها، كما أنها ورقة ضرورية لإعادة استنزاف الروس والإيرانيين ونظام الأسد، مجدداً، كي يتم منعهم من “النصر النهائي” في سوريا، إن فشلت مساعي التسوية، وفق الرؤية الأميركية نفسها.
هذا الالتباس في موقف صنّاع القرار بواشنطن، حيال “تحرير الشام”، بين المدى القريب والمتوسط، وبين المدى البعيد، نجد التباساً مقابلاً له، أكثر تعقيداً، لدى قادة الهيئة أنفسهم. وفي مقدمتهم، زعيمها، الموصوف بالبراغماتية العالية. فالجولاني، لا يريد خسارة الشرعية الجهادية، وفق تعبير المتخصصين، وفي نفس الوقت، يسعى للحصول على صك براءة من “الإرهاب” لدى الغرب ذاته، الذي تشكل مقارعته، أبرز مصادر “الشرعية الجهادية”، لدى الجمهور الجهادي، من ممولين ومجندين محتملين، وداعمين. وطالما أن “الأُمنية الطالبانية”، تداعب آمال الجولاني، بصورة متزايدة، منذ أن تمكنت تلك الحركة الجهادية من انتزاع موقع النديّة مع واشنطن في اتفاق الدوحة الأخيرة، فإن مساعيه للتحول إلى “طالبان سوريا”، ستبقى تتزايد، ما دام الأميركيون لا يبدون أي تغيّر عملياتي في سياستهم تجاه الهيئة، المصانة من أي استهداف نوعي لها، من جانبهم. في الوقت نفسه، الذي سيعمل فيه الجولاني على رأب الفجوات المتزايدة في “مشروعيته الجهادية”، عبر تقديم نموذجه الجهادي، المحلي، بوصفه أكثر عقلانية وعملية، من نظرائه ممن ما يزالون يصرّون على السير على خطى مؤسسي “القاعدة” الأوائل، باعتبار الغرب، العدو الأول للمسلمين. كما سيحرص الجولاني أيضاً على استمرار إحكام سيطرته كقوة أمر واقع، إدارياً وأمنياً وعسكرياً، واقتصادياً، في إدلب.
وما دامت التسوية النهائية بين الكبار في الساحة السورية، ما تزال مُعلّقة، سيبقى ذلك الالتباس الظاهر في العلاقة بين واشنطن و”تحرير الشام”، قائماً على حاله. الأمر الذي يعني أن “تحرير الشام” من أبرز الأطراف التي لا تملك مصلحة حقيقية في حصول تسويات نهائية للصراع في سوريا، بين الفاعلين الإقليميين والدوليين، على أرضها.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا