عاش السوريون، بدءًا من عام 1963، تحت وطأة نظام حكم استبدادي شديد المركزية؛ ما أدى إلى حرمانهم من الممارسة السياسية التشاركية من جهة، وتركيز القوّة والموارد في أيدي سلطة ضيقة ومغلقة من جهة ثانية، وهو ما قاد بدوره إلى تنمية انتقائية غير متكافئة، وإلى توزيع غير عادل للثروة الوطنية.
بعد الثورة في آذار/ مارس 2011، بدأت تظهر أطروحات عديدة في سياق توصيف طبيعة النظام الجديد الذي يطمح إليه السوريون، بعضها يستند إلى مصالح ضيقة ومتوهَّمة لهذه الفئة أو تلك، وبعضها ينطلق في مقاربته انطلاقًا من القبيلة أو الطائفة أو الإثنية، وبعضها تقاطعت مصالحه مع سياسات إقليمية ودولية في المنطقة. ولذلك، كانت التشكيلات السياسية والعسكرية في معظمها، بعد 2011، تصبّ عمومًا في إحدى طواحين الأطروحات سابقة الذكر، في غياب نخبة ثقافية سياسية سورية تطرح مشروعًا وطنيًا ديمقراطيًا متكاملَ العناصر، نظريًا وسياسيًا.
يمكننا وضع ملاحظات رئيسة تتعلق بطبيعة “الحوار” العقيم الجاري منذ عشر سنوات حول طبيعة نظام الحكم المأمول في سورية المستقبل؛ إذ ينطلق المتحاورون معظمهم، قوى سياسية وعسكرية ومدنية… إلخ، من هويات مشوهة ومظلوميات تاريخية، ومن قناعات سائدة تستند إلى تسييس الدين والعرق والطائفة، فضلًا عن خضوع الحوار حول القضايا الإشكالية لموازين القوى الواقعية، إذ تتبدل آراء المتحاورين وممارستهم تبعًا إلى رصيدهم المؤقت من القوة الميدانية، وفي كثير من الحالات تخضع القوى السورية المتحاورة لمصالح إقليمية ودولية متنافرة.
مع ذلك، يبقى، في اعتقادي، العنصر الأهم الذي يُبقي على عقم “الحوار” الجاري، هو عدم تبلور نخبة ثقافية سياسية سورية متماسكة، وهذا يتجلى في مظاهر عدة، منها غياب الإطار المفاهيمي للحوار، فرؤى وتصورات معظم قوانا الفاعلة وسياسيينا ومثقفينا تنطلق من أرضيات أيديولوجية مغلقة أو لا تعير اهتمامًا بالثقافة والفكر، ولذلك لا تنتج إلا الشعارات والرؤى السطحية، رؤى فقيرة تفتقد إلى الفكر والاستراتيجية معًا.
هذا الفقر في الفكر والاستراتيجية يؤدي إلى حروب وعداوات وانقسامات استنادًا إلى كلماتٍ لم يجرِ أساسًا الاتفاق على دلالاتها ومضامينها، مثل: معسكر مع العلمانية وآخر ضدها، معسكر مع اللامركزية أو الفدرالية وآخر ضدها، وهكذا. لتتحول الكلمات/المفاهيم في حديثنا وخطابنا إلى شياطين أو ملائكة، من دون أن نتأمل ونفكر فيها، ومن دون الاتفاق على دلالاتها ومضامينها، لنعرف إن كنا معها حقًا أو ضدها. نبقى في حدود الشعارات والتناول السطحي والجزئي للقضايا والمفاهيم الإشكالية، ويغيب لدينا التدقيق والاهتمام بالتفاصيل؛ هناك مفاهيم كثيرة تحتاج منا فعلًا إلى إدراك وفهم بوصفها شرطًا لكل رؤية أو ممارسة سياسية صائبة، مثل مفاهيم الدولة والشعب والقومية والأمة والمجتمع المدني والإثنية، وغيرها.
اللامركزية والفدرالية من المفاهيم الحاضرة دائمًا في نقاشاتنا، خصوصًا في النقاشات التي تتناول القضية الكردية في سورية، وننقسم تجاهها إلى مؤيدين ورافضين، وشأنها شأن بقية المفاهيم لم ننتج توافقًا حول معانيها ودلالاتها، والأمر الخطر في غياب الحوار العميق هو تحولها في النقاش السوري العام إلى “رموز” تشير إلى إثنيات بعينها، تمامًا كما تشير الرموز الدينية (الصليب، الهلال… إلخ) إلى طوائف بعينها، الأمر الذي يثبِّت الانقسامات الهوياتية تجاهها، ومن ثمّ يمنع إجراء نقاش أو حوار عقلاني حولها.
اللامركزية مفهوم واسع، جوهره توزيع سلطة اتخاذ القرار على مستويات عدة، وعدم حصرها في مكان واحد، توزيع السلطة بين المركز والمستويات الحكومية والمحلية والمدنية، وهناك أنماط عديدة من اللامركزية، وكل منها يتفرع منه أنماط أخرى استنادًا إلى درجات اللامركزية ومستوياتها ومجالاتها.
يعتبر جدل المركزية واللامركزية، في الدول الطبيعية، شرطًا رئيسًا من شروط الاندماج الوطني، ويشبه جدل القانون والحرية، وجدل الدولة والمجتمع المدني، لذلك يُفترض أن يكون قبول مبدأ اللامركزية أمرًا بديهيًا في سياق بناء الدولة السورية العصرية، ليتقدم حوارنا ويصبح متركزًا على الاهتمام بالتفاصيل؛ أي البحث في مستويات اللامركزية الملائمة للحالة السورية الآخذة في التبلور تدريجًا بعد عقدٍ من الصراع.
هناك مستوى رئيس من اللامركزية يرتبط بديهيًا بطبيعة النظام الديمقراطي ذاتها، يتعلق بتوزيع السلطات بين مؤسسة الرئاسة والحكومة والبرلمان، وهناك اللامركزية الوظيفية التي تُنقل فيها بعض مهمات الحكومة إلى مؤسسات متخصِّصة تتبع لها، وهناك أيضًا اللامركزية المدنية التي تُنقل فيها بعض وظائف الحكومة وأدوارها إلى منظمات المجتمع المدني، ففي النظام الديمقراطي يُنقل الإعلام والأوقاف مثلًا إلى المجتمع المدني، ويمكن للحكومة أن تسمح أيضًا للقطاع الخاص بإدارة بعض مؤسساتها، وهناك اللامركزية الجغرافية، وفيها تتخلى الحكومة عن بعض مهماتها إلى الأقاليم الجغرافية أو المحافظات.
ويعتبر النظام الديمقراطي اللامركزي الحل الملائم لضمان أوسع مشاركة ممكنة للشعب في الحكم والسياسة، والسماح للمحافظات والأقاليم المختلفة بالإسهام في السياسة والاقتصاد، وفيه تُعطى السلطات المحلية تفويضًا كاملًا في الشؤون الخاصة بها، بحيث لا تمارس الحكومة المركزية أي نوع من التحكم أو التدخل في شؤونها الخاصة، على أن يجري تنظيم العلاقة بين المركز والأقاليم/المحافظات دستوريًا وقانونيًا.
يعتقد بعضنا أن اللامركزية تعني نسف المركزية، فيما هي لا تعني شيئًا من دون وجود المركز أصلًا، أي لا وجود أو معنى للامركزية من دون مركز تُقاس من خلاله درجة اللامركزية. وبمعنى آخر، ستجتمع اللامركزية والمركزية بالضرورة في نظام حكم واحد، لذلك قد يكون من الأجدى سوريًا التحديد الدقيق للصلاحيات التي يُفترض أن تُنقل من المركز، أو يجري التنازل عنها، لمصلحة الأقاليم والمحافظات، بدلًا من الدخول في متاهة إضافية من المصطلحات (لا مركزية مخففة، لا مركزية موسعة، لا مركزية إدارية، لا مركزية سياسية، فدرالية… إلخ)، خصوصًا أنه لا يوجد اتفاق عام حول مضامينها ودلالاتها، فضلًا عن وجود أنماط عديدة منها، متداخلة فيما بينها. هذا يعني أهمية الانتقال من النقاش العام حول الكلمات والاختلاف حولها إلى نقاش التفاصيل.
يهرب بعضنا أحيانًا من نقاش الكلمات “المخيفة” أو التي تثير شيئًا من الحساسية، مثل كلمة “الفدرالية”، عن طريق اللعب بالكلمات، مثل استخدامنا لكلمات وتوصيفات على شاكلة “لا مركزي موسَّع” التي لا تضيف ولا تقدم شيئًا، كونها كلمات عامة غير محدَّدة؛ فالفدرالية درجة عليا من درجات اللامركزية، وهي الأخرى لها درجات ومستويات عديدة. لكن من جهة أخرى، يُفترض الأخذ في الحسبان أن كثيرًا من الحلول المقترحة اليوم في سورية، تأتي في سياق الأزمة والتشظي، وفي سياق الفشل السوري العام، وفي سياق تأقلم “البعض” مع العجز والفشل. في اعتقادي، كل الأفكار قابلة للنقاش عندما تُطرح في سياق بلورة مشروع وطني ديمقراطي سوري واضح المعالم لا خارجه أو بالتضاد معه، وفي سياق التقدم خطوات موثوقة في طريقه.
مرة أخرى، بدلًا من الاختلاف حول الكلمات، لامركزية، فدرالية… إلخ، ربما يكون من الأسهل والأفضل لنا أيضًا أن نذهب في اتجاه تحديد المهمات والصلاحيات الخاصة بالمركز، أي تلك التي لا يجوز التخلي عنها أبدًا في الحالة السورية؛ لأن غياب طابعها المركزي يعني بالضرورة غياب الدولة وخراب البيدر. وهذه يمكن تحديدها، في اعتقادي، بأربع مهمات/صلاحيات أو ركائز رئيسة، تصبّ كلها في طاحونة الاعتراف بسيادة الدولة الوطنية: الأولى؛ أولوية الدستور الوطني ومؤسساته على القوانين المحلية في الأقاليم/المحافظات. الثانية؛ مركزية مهمة الدفاع (الجيش والأمن)، بمعنى وجود جيش واحد وأجهزة أمنية واحدة تتبع الدولة السورية، وتحت رقابة البرلمان السوري. الثالثة؛ مركزية السياسة الخارجية للدولة السورية المستقبلية. الرابعة؛ مهمة تحقيق التوازن والتكامل والعدل في التنمية بين المحافظات والأقاليم، بما يعني تحكّم المركز في القطاعات الاقتصادية الكبرى وإدارتها.
النظام الديمقراطي اللامركزي في سورية المستقبل شرطٌ رئيس لبناء الحكم الرشيد وتحقيق التنمية الاقتصادية، إلّا أن إرساء اللامركزية، عمليًا، ينبغي له أن يسير بالتزامن مع بناء مؤسسات السلطة المركزية ديمقراطيًا، أي ينبغي للامركزية أن تُبنى في إطار نظام وطني ديمقراطي أساسه المواطنة المتساوية، وفي ظل سلطة مركزية مستقلة وديمقراطية؛ لأن وجود مؤسّسات مركزية ديمقراطية راسخة ومستقرة، ووجود سلطة وطنية مركزية يُحتكم إليها في أحوال النزاع، سيشكل دافعًا وضامنًا لنجاح اللامركزية، خصوصًا في سياق التعافي من الصراع الداخلي، ومن دون ذلك تتحول اللامركزية، بصرف النظر عن نياتنا، إلى آلية تفتيت للجغرافيا والبشر، وللدولة الوطنية قبل ترسّخها، ما يؤدي إلى إنتاج دويلات أو كانتونات على أنقاض الدولة الوطنية، محكومة بأنماط استبدادية أشد وطأة، وأكثر تبعية للسياسات الإقليمية والعالمية، وأسوأ من حيث قدرتها على تحقيق التنمية الاقتصادية، بحكم مواردها المحدودة، فضلًا عن احتمال حدوث النزاعات البينية.
ومن البديهي التأكيد أخيرًا على أن إنشاء المحافظات والأقاليم في النظام الديمقراطي اللامركزي يكون على أساس إداري أو جغرافي، لا انطلاقًا من اعتبارات إثنية أو طائفية، ولا استجابة لتدخلات إقليمية ودولية، ولا رضوخًا لعمليات التهجير القسري التي قد يقوم بها طرف من الأطراف؛ فمن الحماقة الاعتقاد أن هذه الآليات يمكن أن تبني دولًا وأوطانًا أو يمكن أن تحفظ حقوق وكرامة موطن سوري واحد.
المصدر: المدن