هل النِسوية جيدة للرجل؟

  رحاب منى شاكر

أسامة العاشور (1960) معتقل سياسي سابق. درس الهندسة الزراعية، وحصل على دبلوم في الصناعات الغذائية من جامعة حلب. عمل سابقاً كمدير جودة في شركة غولف مولر. شارك في فعاليات ربيع دمشق وانضم للثورة السورية فور انطلاقتها. نِسوي سوري وعضو في عدة منظمات نِسوية. انتُخِبَ في 2019 في لجنة التنسيق والمتابعة لشبكة المرأة السورية. كما انتسب للحركة السياسية النِسوية فور تأسيسها. لجأ إلى ألمانيا، ويعمل مع الصليب الأحمر الألماني لمساعدة اللاجئين السوريين والعرب.  أجرت رحاب منى شاكر هذا الحوار معه.

ماذا كنت تعمل قبل 2011 يا أسامة؟ وأين أودت بك دروب الثورة والحرب؟

ولدتُ في حلب، وعشتُ شطرًا من يفاعتي وشبابي في مدينة الحسكة. دخلتُ كلية الزراعة في جامعة حلب عام 1977. ولكني تخفيتُ قبل إنهاء دراستي فيها بسبب ملاحقتي أمنيًا أواخر العام 1981، واعتقلتُ عام 1982. خرجتُ من السجن بعد ستة عشر عامًا ونيف عام 1998. وتخرجتُ من الجامعة عام 1999 وقد سمح لي مجموع علاماتي بتسجيل دراسات عليا في علوم الأغذية، وفي الوقت نفسه تقدمت لوظيفة مراقب جودة في أحد أهم معامل الصناعات الغذائية في حلب. وقتها قال لي المدير الذي قابلني بعدما أخبرته أني سجين سابق ومحروم من الحقوق المدنية: «في السجن الطويل لو كنتَ أينشتاين لنسيتَ ما تعلمته، ولكني أحترم أصحاب المبادئ، لذلك سأعطيك هذه الفرصة». وكانت بداية حياتي المهنية الحقيقية التي تحولت مع الوقت إلى شغف، لأصبح بعدها مديرًا للجودة في الشركة نفسها في حلب (ولاحقًا في فرعها الآخر في تركيا). وأثناء هذه الرحلة القلقة التي امتزج فيها السياسي بالمهني، تزوجتُ عام 2005، ولَديَّ بنتان يافعتان.

أما بالنسبة للشق الثاني من سؤالكِ، وأين أودت بي دروب الثورة والحرب، فلم يتسنَ لي المشاركة في أول مظاهرة في حلب في جمعة العزة 25/3/2011، ولكني شاركتُ بالعديد منها فيما بعد. كما شاركتُ في تنسيقيات المدينة والجامعة لتفعيل الحراك السياسي السلمي 2011. ومع تزايد وصول النازحين من درعا وحمص وإدلب والريف، اشتدّت الحاجة لتأمين الدعم الإغاثي، فشاركتُ في  إنشاء «مبادرة أهالي حلب» لتوفير الخدمات الأساسية لأهالي المدينة المنكوبة، وتجهيز أماكن الإيواء، وتأمين مواد الإغاثة للنازحين والمتضررين، وإصلاح البنية التحتية التي كانت أهدافًا للقوى المتصارعة لكسر إرادة المجتمع ومقاومته، حيث تحولت موارد الماء والكهرباء والأفران وتوزيع الخبز إلى أدوات حرب. وازدادت وتيرة المظاهرات لتُتوَّجَ ببركان حلب في 30 حزيران 2011، بالتوازي مع الخروج التدريجي للريف الحلبي من سيطرة النظام. وفي الشهر التاسع شاركتُ في تأسيس «أحفاد الكواكبي» لإعطاء زخم أكبر للعمل المدني والسياسي والإعلامي والإغاثي. وفي الشهر السادس 2012 شاركتُ في تأسيس منظمة بلد بالتنسيق مع الهلال الأحمر السوري. وقد قُصِف منزلنا العائلي الذي كنا نسكن فيه من قبل النظام بعد دخول الجيش الحر إلى حلب الشرقية في تموز 2012، فاضطررنا إلى النزوح المتكرر. ولكن بالمقابل، توسَّعَ موضوعيًا هامش الحراك السياسي والمظاهرات اليومية في المناطق المحررة من سيطرة النظام. ففي منتصف آب 2012 شاركتُ في  اللجنة التحضيرية لمؤتمر حريتان للقوى المدنية، والذي أقر تحويل التنسيقيات إلى مجالس محلية متوافق عليها من قبل الأهالي، والعمل على إعادة تأهيل البنى التحتية وجمع وتوزيع المساعدات الطبية والإغاثية. وفي أيار 2013 اعتُقِلت من قبل الأمن السياسي في حلب على خلفية نشاطي المدني والسياسي، وأفرج عني بعد حوالي شهرين في تموز 2013. انتقلتُ بعدها إلى ريف حلب في الوقت الذي كانت تتمدد فيه التيارات الإسلامية. وبعد اعتقال واغتيال عدد من الناشطين المدنيين والإعلاميين السوريين والأجانب من قبل داعش، أصبح الوضع غير آمن للناشطين المدنيين، فانتقلتُ إلى تركيا لألتحق بعائلتي التي سبقتني إلى هناك قبل اعتقالي، وبقيتُ فيها عدة أشهر، ثم سافرت إلى ألمانيا. هناك عملت كمتطوع في الصليب الأحمر لمساعدة اللاجئين، وشاركت في نشاطات تنسيقية فرانكفورت دعمًا للثورة، بالإضافة إلى نشاطي المدني والسياسي في التجمعات الوليدة بعد الثورة، ونشاطي النِسوي كعضو مؤسس في شبكة المرأة السورية وعضو الحركة السياسية النِسوية.

ماذا كانت دوافعك الشخصية والعامة لانخراطك في العمل السياسي؟

لا يعيش الإنسان إلا داخل مجتمع، والإنسان بطبعه حيوان سياسي حسب أرسطو، لأن ما يميز البشر هو القدرة على التنظيم السياسي بشكل مغاير  للتنظيم العائلي. وإن نشوء المدينة-الدولة يعني أن الإنسان قد حاز إلى جانب حياته الخاصة نوعًا آخر من الحياة، وهي الحياة السياسية. وكل مواطن ينتمي إلى نظامين مختلفين من الوجود، أحدهما خاص (العائلة)، والثاني عام (المدينة – الدولة). وفي المدينة هناك الآغورا (الجمعية العمومية التي تضم الرجال الأحرار، تم استثناء العبيد والنساء)، حيث تُمارَس السياسة التي يُمنَع فيها استعمال العنف الجسدي أو الإكراه بأي أسلوب -كما يحدث في الحرب- لإجبار الطرف الآخر على قبول فكرتك أو الاقتناع بها؛ هذا هو جوهر السياسة. من سوء حظنا كسوريين أن سيطر على سوريا منذ عام 1963 نظام ديكتاتوري قمعي ألغى السياسة من المجتمع، وجَرَّمَ الحوار، وصَادرَ المجتمع المدني، ورفض كل دعوات الإصلاح السلمي والمتدرج والآمن التي طرحتها المعارضة الديمقراطية، بل وضع أصحابها في السجون ولفترات مديدة حفاظًا على سلطته وفساده وامتيازاته.

على المستوى الشخصي كنتُ في يفاعتي المبكرة قارئًا نهمًا للأدب العربي والعالمي، مما عمَّقَ حسي الإنساني والتطلع إلى الحرية عبر فضاءات أوسع من البيت والمدرسة للمشاركة. كما انعكست الرغبة في إثبات الذات تمردًا مبكراً على الظلم ورفض التنميط حيثما أتيح لي ذلك، كرفض اللباس الموحد والحلاقة الإنكليزية والمشاركة في مسيرات تمجيد القائد. وقد قاومتُ الانتساب الإجباري إلى إتحاد الشبيبة والإتحاد الوطني وحزب البعث. كنا مجموعة من الأصدقاء، انحازَ أغلبنا في نصف السبعينات الثاني إلى الماركسية عبر مسار أول وجدانيّ، تجلّى بالتضامن مع مدرس اللغة العربية الذي فصِل تعسفيًا من التدريس، وحوِّل إلى مديرية الزراعة، ومدرس العلوم الطبيعية الذي اعتقل أمامنا مرات بسبب رفضه حضور الاجتماع الصباحي وسماع نشيد البعث و ترديد شعاره، باعتبارهما رمزان حزبيان خاصان وليسا رموزًا وطنية عامة. ومسارٌ ثانٍ فكري، بعد قراءتي لبعض الكتب الفلسفية والتراثية ومتابعة المجلات الفكرية والسياسية وبعض من كتابات ماركس وأنجلز ولينين وبليخانوف وتروتسكي، وتوصلت تدريجًا إلى أن كل فرد يجب أن يكون حرًا في أن يقرر مساره في الحياة، وهو بحاجة إلى الحرية الشخصية لتطوير قدراته وإمكاناته، وهذا يتطلب سيادة القانون باعتبارها شرطًا أساسيًا للحد من السلطة التنفيذية، واحترام حقوق الإنسان والديمقراطية، وخلق الثروة ومحاربة الفقر، وتطبيق شكلٍ ما من العدالة الاجتماعية.

وهل تذكر اللحظة بالضبط التي رفعت فيها طلب الانتساب إلى حزب العمل الشيوعي في شبابك؟ هلّا حكيت لنا تفاصيلها كي تتكون لدينا صورة أفضل؟

تبلورت رؤيتي للماركسية النقدية من خلال اطّلاعي على أفكار غرامشي وألتوسير ولوكاش وإلياس مرقص وياسين الحافظ ومنتوج الحلقات الماركسية، ومن ثم رابطة العمل أو حزب العمل الشيوعي لاحقًا. ورغم وعورة المسار، شدّتني إلى رابطة العمل الشيوعي سيرتها النضالية، وصمود معتقليها، وحيوية أعضائها وقيادتها الشابة وبراعتهم في المناظرة والإقناع، وانفتاحها على جميع مكونات الشعب السوري، وسريتها وجذريتها، وجمعها في خطها الاستراتيجي بين الروح النقدية والتأمل الفكري. أَعتقدُ أن الانتساب إلى رابطة  العمل مختلف قليلاً عن الانتساب للأحزاب الأخرى، لكونها حزبًا سياسيًا عمليًا قبل أن يكون رسميًا، ولقناعتها أن السياسة كالسباحة لا يمكن أن تتعلمها إلا داخل الماء. فحتى عندما كنتُ صديقًا للرابطة كُلِّفتُ بمهام حزبية، وخضعت لدورات تثقيفية، لذلك يصبح تقديم طلب الانتساب تحصيل حاصل، وليس لحظة فارقة. منذ أواخر السبعينات تدرجت في المهام التنظيمية، وحضرتُ المؤتمر التأسيسي للحزب عام 1981، واضطررت للتخفي بعدها، واعتقلت في عام 1982. وبعد عشر سنوات من الاعتقال قضيتها في سجن المسلمية في حلب عرفيًا، نُقِلت إلى سجن عدرا في دمشق، وأُحِلتُ في العام 1992 لمحكمة أمن الدولة العليا، حيث حكم عليّ بخمسة عشر عامًا مع الأشغال الشاقة المؤقتة والحجر والوصاية والحرمان من الحقوق المدنية بمقدار مدة الحكم بعد انتهائه، في محاكمة صورية لا تحترم أدنى معايير حقوق الإنسان. وفي العام 1995 نُقِلتُ إلى سجن تدمر لرفضي مع زملاء لي العفو المشروط بالولاء لرأس النظام، وبعد انتهاء مدّة الحكم لم يُفرَج عني، بل تم توقيفي عُرفيًا بدون أي سبب أو تبرير ما يقرب السنة والشهرين (العرف الأمني خارج المنطق والعقل)، حتى خرجت مع زملاء آخرين  بمساع  دولية حقوقية عام 1998. شاركتُ بعد خروجي من السجن في ربيع دمشق وحركة المنتديات ولجان إحياء المجتمع المدني ولجان العمل الوطني لدعم الانتفاضة الفلسطينية ومناهضة الاحتلال الأمريكي للعراق، وإعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، بالإضافة إلى نشاطي المدني وعضوية معهد التراث العلمي بحلب.

سُجِنتَ مع أخويك مازن ونمير في سجن حلب المركزي المسلمية على خلفية انتمائك لحزب معارض، وبعدها انتقلت إلى سجن عدرا، ومن هناك إلى تدمر لتقضي قرابة الستة عشر عامًا في السجون الأسدية. كذلك سُجِنَت أختكَ ضحى قرابة الست سنوات جراء انتمائها للحزب ذاته، وأختك لينا لمدة سنة تقريبًا. يمكننا القول إن عائلتك من العوائل السورية المنكوبة. كيف هو تأثير هذه التجربة عليكم كعائلة، وكأفراد؟ وهل تغيرت نظرتك للسياسة بعد تلك التجربة القاسية؟

أعتقد أن في حياتنا كعائلة كثيراً من المفارقات، وبعض الدراما.

المفارقة الأولى: نشأنا كعائلة في بيئة دينية، ولكنها غير متزمتة. كان والدي رجل دين متنور يرفض تديين المظاهر الاجتماعية، كأن يقبّل الناس يده لإظهار الاحترام له ولغيره، وكان يحرص على أفضل العلاقات مع اتباع جميع الطوائف والأديان. فضّلَ أن يكون بعيدًا عن السلطة وامتيازاتها، ليس من منطق الزهد والتصوف، بل لرفضه تسييس الدين، فجُرِّدَ من وظائفه كلها في أوائل الستينات (كان رئيس رابطة العلماء وأرباب الشعائر الدينية في حلب وإمام وخطيب جامع محطة بغداد). ونُفي إلى مدينة الحسكة، النائية وقتها، وأصبح فيما بعد مفتيًا فيها. وقد كان يقدم العقل على النقل، وأذكر أننا في عام 1969 كنا في السوق معًا، فتحلّقَ حوله كثير من الناس يسألونه غير مصدقين هل صحيح أن الأمريكان (الكفار) وصلوا إلى القمر، معتقدين أن ذلك يتناقض مع قوله تعالى (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا، لا تنفذون إلا بسلطان) [سورة الرحمن الآية 33]. فأجابهم : نعم صدق الله عزّ وجل، ولكن أليس العلم سلطاناً؟ وهكذا كانت أغلب فتاواه، تُيسّر ولا تًعسّر، وعلى المستوى العائلي كان محاورًا ودودًا، ولم يتمنّ أو يطلب من أحد منا أن يقتفي خطاه أو يسير على دربه.

المفارقة الثانية: توفي والدي حين كنتُ في الرابعة عشر من عمري. وأنا الأكبر بين أخوتي وأخواتي، وأصبح جدي لأمي ( إمام وخطيب في أحد جوامع حلب أيضًا) بمثابة الوصي علينا، وفُرضت علينا كعائلة باكرًا معارك متعددة لتحديد مساحة الحرية الشخصية لنا كأفراد وكعائلة: ما هو الحلال والحرام والمسموح والممنوع والعيب من منظور المجتمع والدين؟ فضلًا عن معركة السفور والحجاب التي خُضتُها الى جانب أخواتي. في المحصلة رفضتُ «أن أعيش في جلباب أبي و جدّي»، وقررتُ مع  إخوتي/أخواتي السير في مسار مستقلّ، وخوض مغامرة البحث عن الذات. قدمت لنا والدتي في هذه الفترة مثالاً نسويًا مميزًا، وتحملت مسؤولية العائلة داخل المنزل وخارجه، واستأنفت دراستها بعد 18 عامًا من زواجها. وفي مواجهة ضيق ذات اليد، توظفت في إحدى دوائر الدولة، وتحولت إلى معيلة لنا، وكنا نساعدها في العمل أثناء العطل لنستطيع إكمال دراستنا، والوفاء بالتزاماتنا الخاصة والعامة حتى دخولنا الجامعة وما بعدها. وواجهت بعين دامعة وقلبٍ حانٍ وكبرياءٍ قلَّ نظيره كل محن التخفي والاعتقال والسجن والتشتت والمنعطفات الكارثية التي مرت وستمر على عائلتنا لاحقًا.

المفارقة الثالثة: يشكل السجن التابو الرابع الخطر  في السردية السورية إلى جانب السياسة والدين والجنس. كانت سوريا في ظل الأسد الأب مملكة الصمت والرعب حقاً. وقد تحدّت عائلتنا التابوهات الأربعة السابقة مجتمعة ودفعة واحدة، وهو ما منح تجربتنا فرادتها واستثنائيتها. كنا في هذه المواجهة وحيدين. وساهم تَغوّلُ السلطة في بقاء تعاطف المتعاطفين – إن وجد – داخل قلوبهم، وعدم البوح به أو إظهاره، ناهيك عن تقديم أية مساعدة. كانت عائلتنا مكونة من ثلاث أخوة شباب وأربعة بنات، خمسة منهن/م  قضوا/ين فترات متفاوتة الطول في السجن بمجموع 42 عامًا، بدون حساب فترات التخفي التي تقارب العشر سنوات بسبب الانتماء إلى حزب العمل الشيوعي، وبقيت والدتي وحيدة مع أصغر أختين هما بتول وعبير. كنتُ أولَ من اعتُقل عام 1982، وبقيت في السجن ست عشرة سنة ونيف متواصلة. وفي عام 1983 اعتقل أخواي معًا (نمير وهو طالب طب بشري في سنته الرابعة، ومازن وهو طالب سنة ثالثة هندسة عمارة) في حلب لمدة تقارب التسع سنوات لكل منهما. واعتقلت أختي لينا أثناء الحملة القاسية لتصفية الحزب عام 1987 في فرع الأمن العسكري في حلب، ونقلت بعد مدة قصيرة إلى فرع فلسطين في دمشق، لتقضي عامًا كاملًا من دون أي زيارة.

المفارقة الرابعة: نجت أختي ضحى – طالبة أدب انكليزي – من حملة اعتقالات على الحزب في حلب عام 1984، وتوارت عن الأنظار (يطلق على هذا الوضع التخفي)، بحيث تغادر المنزل والأهل والأصدقاء، ولا تعود إلى أي مكان يشك الأمن أنها ستذهب إليه، ولا تلتقي مع أي أحد يعرف الأمن أنها تعرفه. وبعد تسع سنوات من الملاحقة الأمنية المضنية، تم اعتقالها في دمشق عام 1993 وهي حامل في أشهرها الأولى، ووَلدت في السجن ابنتها الوحيدة ديانا التي انتزِعت منها بعد عامها الأول. وقد حكم على ضحى بستة سنوات سجن بتهمة مناهضة أهداف الثورة، ووهن عزيمة الأمة. قضت مدتها كاملة ولم يفرج عنها بعد انتهاء حكمها، فأضربت عن الطعام لمدة طويلة. خلالها كان ضباط السجن والأمن يتفاوضون معها لتتراجع عن الإضراب دون تحقيق أي من مطالبها. بعد أن فشلت محاولاتهم أمام صمودها علموا بطريقة ما أن الكرز نقطة ضعفها، فأحضروا ذاك الوعاء المليء بالكرز الشهي. لم تتراجع ضحى عن موقفها، وأخذت الوعاء، عجنت الكرز بأصابعها المنهكة وكتبت «حرية» على جدار سجن عدرا السياسي، أمام عسكر مملكة الأسد. وهكذا جعلت ضحى من الكرز رمزًا ثوريًا، وحسب تعبير زميلتها رغدة حسن: صارت هناك إلى جانب طائفتي المظلومين والظالمين طائفة ثالثة اسمها «طائفة الكرز». أُفرِجَ عن ضحى في أواخر عام 1999 بعد مرور ستة أشهر على انتهاء حكمها.

المفارقة الخامسة: تجربة السجن قاسية على المستوى الفردي، فكيف إذا كان سجنًا جماعيًا لخمسة شباب وبنات من عائلة واحدة. ولا تنسي معاناة من هم خارج السجن من العائلة. تُقَدِّمُ السجون- حسب ميشال فوكو- الوظائف الاجتماعية ذاتها التي تقدمُها المدارس والمصحات العقلية، وهي أن تُعَرِّفَ وتُصَنِّفَ وتُسَيطِرَ وتَضبِطَ الناس. وقد كانت السجون في ظل نظام الأسد تضبط الناس فعليًا، فجعلت كثيرين يتخلون عن حريتهم وحقوقهم وجزءٍ من أملاكهم، ليكملوا حياتهم العادية -كنا عايشين- ولمن لا يمتثل؛ يمتد السجن زمانًا يقارب الأبدية، ويتسع مكاناً ليتصل بالمقابر.

المفارقة السادسة: توزعنا كمعتقلات/ين بين السجون، وتنقل بعضنا بين أكثر من سجن، وفي كل انتقال رحلة عذاب وتدهور في شروط السجن، وما يتركه ذلك من أثر على من هم داخل السجن وخارجه، وصولًا إلى المحاكمات والأحكام القاسية التي تثقل كاهل المحكوم بأعباء وسنوات إضافية حتى بعد خروجه من السجن، منها الحرمان من الحقوق المدنية. فعلى سبيل المثال، تَطلَّبَ إكمال دراستنا الجامعية قرارًا خاصًا من القيادة القطرية، وحرماناً من التوظيف في دوائر الدولة، ومنعنا من الانتساب إلى النقابات المهنية أو أنظمة التقاعد والتأمين والانخراط في أي عمل مدني أو سياسي. ولم تتوقف المتابعة الأمنية في الحلّ والترحال، والمحاربة في لقمة العيش حتى ولو كان العمل في القطاع الخاص، وصولًا إلى المنع من السفر.

السجن في سوريا هو الوجه الحقيقي للقبح الأسدي، هو الاستبداد عاريًا، وصعوبة ما بعد السجن في الأنظمة التسلطية توازي صعوبة السجن نفسه، ولكن بأدوات أخرى. فحتى عندما تغادر السجن، لا تستطيع أن تغادره كتصورات وتنميط ووصمة. وتلاحقك نظرة المجتمع الخائفة والمرتابة أو المعادية وعيون رجال الأمن الوقحة. فاعتقلت بعد خروجي من السجن الأول أربع مرات إضافية في عهد الأسد الإبن، ولكن لفترات أقصر ولمدد تتراوح بين أسابيع أو شهور. ناهيك عن المتابعة والملاحقة والاستدعاءات المتكررة بحجج واهية عند تسجيل الزواج أو الأطفال أو حضور لقاء أو ندوة أو كتابة مقال أو حديث في مقهى أو تقرير زائف. اضطررنا بحثًا عن الرزق دون التنازل عن كرامتنا ومبادئنا إلى التشتت في أصقاع سوريا وخارجها بعد الثورة، وظلت لعنة جوازات السفر تلاحقنا. وخلال 42 عامًا وحتى الآن لم نلتق كعائلة في مكان واحد ولو بمصادفة عابرة. السجن هو نقطة السكون والفراغ والوحشية في عالم متحرك، ولكل سجن ما يميزه، إلا أن السجون كلها حرمان كامل من امتلاك الوقت والزمن والأمكنة، والعيش خارج الحياة، حصار الإنسان وسلبه قدرته على الاختيار، وعبودية. أما سجن تدمر، فهو أبعد نقطة في قاع الجحيم والدرك الأسفل من كل شيء، هو الثقب الأسود الذي يبتلع الضوء والحياة، مُصمَّمٌ لأن تعيش بدون أمل وكل يوم عليك تَوقُّعُ الأسوأ. فيه اختبرت الوجه الآخر للوجود، الألم والخوف والمرض والمعاناة والجوع والبرد وسكون الموت وصخب العنف والتعذيب، حيث تصبح الحياة ذكرى، والذكريات في السجن عدو يفترس وليست ملاذاً يؤنس، وحيث تتلاشى الروح ببطء وما يتبعها من سحق الذات.

سلامتك! هلا سمحت لي الآن أن أنتقل إلى المرحلة التي جاءت بعد ذلك، وأقصد الحركة الديمقراطية التي ظهرت بعد وفاة حافظ الأسد، وأطلقت على نفسها اسم ربيع دمشق. وقد كنتَ من بين الذين شاركوا في الفعاليات. برأيك هل أثّرَ ربيع دمشق على مجرى الأحداث السياسية لاحقًا، وعلى الثورة السورية التي انطلقت اعتبارًا من عام 2011؟ وإذا كان جوابك إيجابًا، فكيف ترى إلى تلك العلاقة؟ وكيف كانت مشاركة المرأة، وهل تم طرح قضاياها بشكل جدي؟

عاشت سوريا في التسعينات مرحلة مرض الرئيس، وبات هاجس الحكم مسألة التوريث التي انتقلت من باسل إلى بشار، وعلقت كل مسائل حياة المواطنين وأمور الدولة والمجتمع بانتظار ترتيب الأدوار والمسؤوليات في هرم السلطة، حتى سميت هذه الفترة بالعقد الضائع في تاريخ سوريا.

بعد موت الديكتاتور الأب في حزيران عام 2000، عاشت النخب الثقافية والسياسية ورشة من النقاش المحموم حول مختلف القضايا العامة، فيما سمي ربيع دمشق، تيمنًا بتفتح الأزهار في الربيع، وعنوانه  السياسي «نقل البلاد من وضع الرعية إلى المواطنة» حسب أنطوان مقدسي. واستثمر المثقفون والناشطون السوريون تسارع عملية انتقال السلطة، وما ورد في خطاب القسم للدفع باتجاه خلق فضاءات للتعبير الحر، وأطلقوا بيان الـ 99 ثم بيان الألف، وتشكلت لجان إحياء المجتمع المدني لتعزيز ثقافة المجتمع المدني، بوصفها بوابة الإصلاح السياسي. وافتتح منتدى رياض سيف للحوار الوطني وتلاه منتدى الأتاسي ومنتدى اليسار وجلادت بدرخان. كما شاركتُ في إطلاق منتدى اللجان في حلب في مكتب الأستاذ سمير نشار، الذي تحوَّلَ لاحقًا إلى مقر منتدى عبد الرحمن الكواكبي. وقد توسَّعَ انتشار  المنتديات في كل مدينة وحيّ، حتى بلغت ما يقارب 3000 منتدى حسب ما ذكر الراحل طيب تيزيني في إحدى مقالاته. فالجوع للحوار كان هاجس السوريين، ومن غير الممكن «أن تظل سوريا مملكة الصمت» كما قال رياض الترك في حينها.

وقد أُجهِضَت الموجة الأولى من ربيع دمشق باعتقال ما سُمّيَ العشرة الأفاضل، وإغلاق المنتديات باستثناء منتدى الأتاسي، بالتزامن مع أحداث أيلول 2001. وبدأت الموجة الثانية في الربيع الدمشقي بالتوقيع على إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي في تشرين الأول 2005، وأُجهضت باعتقال 40 من المشاركين في مؤتمر الإعلان عام 2007، والحكم على إثني عشر شخصًا من قيادة الإعلان، بمن فيهم رئيسة المؤتمر الدكتورة فداء حوراني، ورئيس الأمانة العامة رياض سيف، بالسجن لمدة عامين ونصف.

ويمكن اعتبار الثورة السورية هي الموجة الثالثة من هذا الربيع، الذي تقاطعت ارتداداته مع الربيع العربي الذي انطلق في تونس ومصر وليبيا، وما زال يجدد نفسه عبر موجات متتالية في لبنان والسودان والعراق. ذلك أن الثورة لحظة فارقة في تاريخ الشعوب ولا تتكرر كثيرًا، ولكنها لا تأتي من فراغ بل نتيجة تراكم النضالات الإصلاحية التي تنتج تحولًا نوعيًا، فالتوق إلى الحرية واستعادة الكرامة المهدورة للمواطن كانت حلم كل مواطن سوري حر، فانتفضت الجموع متحدية أبد الاستبداد ومُدشِّنةً عصر الحرية. لذلك كان الانخراط في الثورة بالنسبة لي، وأنا المثقل بالقهر والظلم، واجبًا أخلاقيًا وإنسانيًا، وضرورةً وطنية وسياسية وحياتية وشخصية.

ولكن لم تجبني بعد عن دور قضية المرأة في حراك ربيع دمشق؟

لم تُطرَح قضايا المرأة في بواكير ربيع دمشق كموضوع مستقل، بل كجزء من النضال الديمقراطي العام. ولكن المرأة كانت حاضرة دائمًا في كل نشاط، ولا أذكر اجتماعًا أو حراكًا أو مناسبة لم تكن المرأة مشاركة فيها، رغم العوائق والصعوبات وسيطرة الطابع الذكوري والعسس الأمني على الشأن العام. ورغم أن أعداد السيدات كانت قليلة نسبيًا في ربيع دمشق، إلا أن بعضهن لعبن أدوارًا مهمة في هذا الحراك. أذكر منهن نائلة الأطرش وزينب نطفجي وحذام زهور عدي وناهد بدوية ومية الرحبي. كذلك استضافت سهير الأتاسي أطول المنتديات عمرًا في الربيع الدمشقي، لمدة ما يقارب الأربع سنوات ونصف، وترأسته في آخر انتخابات لمجلس الإدارة، ولم يغلق إلا بعد اعتقالها مع مجلس الإدارة لمدة محدودة ووقوف الحرس على بابه لفترة غير محدودة لمنع رواده من الاجتماع وإعادة فتحه ثانية. وكان حضورها مؤثراً، وقد حافظت على استقلالية المنتدى الفكرية والتنظيمية ووضعت شعاره  «السكوت في السياسة اضطرار، لكن السكوت في الثقافة انتحار». وعملت باكرًا على تأسيس منتدى الأتاسي للشباب الذي تمتع باستقلالية عن المنتدى الرئيسي، وأطلقت فيه فعاليات خاصة لهم، وكان العدد الأكبر من رواده طلبة الجامعات في العاصمة.

اخترتَ النِسوية كتخصصٍ وقضية على حد سواء، حتى أنك تبذل وقتًا طويلًا في دعم العمل النِسوي السوري. أين كانت نقطة التحول التي أدت بك إلى هذا الدرب الشاق للنساء والرجال على حد سواء؟ وكيف أثَّرَ ذلك على حياتك الشخصية وعلاقتك مع محيطك بشكل عام؟

غالبًا ما يبدأ الرجال بالتزام سياسي ما قريب فكريًا من المجموعات النسوية، قبل التحول إلى النسوية والانخراط فيها. وبرأيي أن تحول الرجل إلى الفكر النسوي هو ثمرة جهدين متضافرين، هما التربية والتثقيف الذاتي. بالنسبة لي، شاء القدر أن أحظى بتربية لا تفرق بين الأولاد والبنات، بل أن يكون للبنت شخصيتها وخياراتها، ودور الأخ ليس بفرض وصايته عليها، وإنما في حماية خيارها وقرارها. وربما كانت كلمات والدي في نزعه الأخير، وهو على فراش الموت، حين أبقاني معه في الغرفة وحيدًا باعتباري الابن البكر، وهو يوصيني خيرًا ورفقًا بوالدتي وأخواتي، لا تزال تتردد في أذني وعاشت معي في كل مراحل حياتي،  لتصبح نهجًا عامًا في تعاملي مع المرأة بعد صقله بالوعي والتجربة والدربة.

تفتح وعييَ الأول بالنِسوية كفكر بقراءة كتاب أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، الذي ربط بشكل مبدع بين تغير أشكال العائلة وتغيير البنية الاقتصادية للمجتمع. ومن ثم نضالات وكتابات النِسويات الاشتراكيات الديمقراطيات ضد الحرب والتمييز بين العمل المأجور (القابل للتبادل في السوق) والعمل المنزلي (غير المأجور) مما يجعل المرأة الأكثر اضطهادًا واستغلالًا، لأن عزلتها ضمن العائلة تحرمها أيضًا من الانتظام في وحدات كبيرة للدفاع عن حقوقها، بعكس العمال الذين ينتظمون بفضل تجمعهم في نقابات وأحزاب ويطالبون بحقوقهم. ومن ثم كتابات كلارا زتكين (أول امرأة برلمانية في العالم)، التي لخصت معاناة المرأة كما يلي:إن أدت المرأة واجباتها الأسرية الخاصة يتم استبعادها من الإنتاج، وإن شاركت بالإنتاج لا تستطيع تأدية واجباتها الأسرية. كذلك اطلعتُ على كتابات الكسندرا كولونتاي، أول وزيرة لأول حكومة اشتراكية في العالم عام 1917، والتي عملت على إعطاء المرأة حق التصويت والمساواة القانونية، والتعليم للجميع، وجرّمت ضرب الزوجات لأول مرة في التاريخ، ونظمت حملات ضد حصر دور المرأة في العمل المنزلي، وبنت كميونات سكنية للمطلقات والمعنفات وفاقدات المعيل. كما طرحت ضرورة الاستفادة من الأدب لحل التناقض بين العمل والحب وبين العاطفة المتأججة والاستقلال. كذلك قرأتُ كتب نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي، وكل ما وصلت إليه يدي من أدب عالمي كتبته نساء أو دار عنهنّ.

ولكني كنت مقتنعًا حينها أن المجتمع الاشتراكي هو الذي سيحقق العدالة والمساواة للمواطنين جميعًا ويمنحهم حقوقهم، وبالتالي يجب أن يكون النضال النسوي تالياً للنضال السياسي ومندغمًا به، ولم أنتبه حينها إلى دور ما هو خارج القانون، والتغيير السياسي الفوقي، أي دور الظلم التاريخي والمجتمعي والأسري للمرأة. كما أن قواعد العمل في كل الأجسام السياسية ذكورية وطاردة للمرأة ومتواطئة مع  ذكورية الفضاء العام. ولكن تطور وعييَ النِسوي فيما بعد قراءة وممارسة، وأصبحت قضية المساواة في الحقوق والكرامة الإنسانية للمرأة بالنسبة لي هدفًا نضاليًا ساميًا ومهمة راهنة، وأساسًا لأي تحول ديمقراطي في سوريا مستقبلًا.

ثمة رجال يعتقدون أنهم صاروا نِسويين، وفعلوا كل ما عليهم، بمجرد السماح لزوجاتهم بعدم التحجب مثلًا أو بالخروج من المنزل إلى العمل. يفعلون ذلك من دون أن يغيروا أي شيء في سلوكهم الشخصي داخل المنزل أو خارجه. كما يخلطون بين مظاهر الحداثة السطحية من جهة ومطالب العدالة الجذرية والمساواة من جهة أخرى. غير أن النِسوية نمط حياة وتفكير ومواجهة للسلطة الذكورية على كل المستويات. وهي تحتاج لمساهمة الرجال الفعلية من أجل عالم عادل، لأنهم ليسوا جزءًا من المشكلة فحسب، بل جزءٌ من الحل أيضًا. كيف يمكننا جعل الرجال يفهمون هذه النقطة؟ وماذا بإمكانهم أن يقدموا للنِسوية أكثر من المواقف السلبية أو الفاترة في أحسن الحالات؟

هناك واقع لا يمكن تجاهله، وهو أن الرجل المالك للامتيازات، عن وعي أو عن غير وعي، يظلّ قاصرًا أمام قضية فاقدات هذه الامتيازات. فالتسلط الذكوري، حسب بيير  بورديو،  مترسخ بشدة في اللاشعور بحيث لم نعد نلاحظه، وشديد التوافق مع توقعاتنا، بحيث يصعب علينا مراجعة أنفسنا بشأنه، ولا يمكن التخلص من هذه الرواسب التاريخية ما لم تتغير أو تتحيد الآليات والمؤسسات التي تقوم بإعادة إنتاج  التسلط الذكوري على صعيد الأسرة، والمؤسسات الدينية، والمدرسة، والدولة.

باعتقادي أنه لا يمكن للرجل أن يكون نِسويًا بدون تحدّي رواسب الذكورية التي تسرّبت للرجال، بإرادتهم أو من غير إرادتهم، وتطوير نفسه والوقوف في وجه ذكورية غيره، والعمل على وقف التمييز ضدّ النساء، والذي يجب أن ينتهي. ولكن يجب أولاً وقبل كل شيء الخروج من المركزية الذكورية، التي تحدد موقع الرجل دومًا في مركز القضايا، وإبقاء المرأة بموقع المهمش والمنفعل، وهو الذي يقرر أو يسمح للمرأة بهذا الشيء أو لا يسمح، أي أن تكون المرأة جزءًا لا يتجزأ من الرجل وتصوراته. هذا تكريس لجدلية العبد السيد، بل يفترض بالرجل النسوي إعادة تعريف نفسه ودوره في عالم جديد مساواتي جذريًا على مستوى الكينونة والوجود والقواعد والفرص والحقوق والواجبات. وهذا يتطلب منه أن يفسح المجال لأصوات النساء، لكي تعبر عن نفسها وترى المشاكل والحلول من موقعها ومنظارها. وحين تقرر النساء إيجاد مساحات خاصّة بهنّ لبلورة رؤيتهنّ حول هذه القضية أو تلك، يجب دعمهن وتشجيعهن، وأن يراجع نفسه بجدية حين تشعر المرأة أن في ممارسته أو أقواله تحيّزًا ضدّها وإجحافاً بحقها قبل أن ينتفض في الدفاع عن نفسه وقناعاته. وليكتمل هذا التحول التاريخي، ينبغي على المرأة أيضًا أن تُدرّب نفسها على الشعور بأهمية أنها امرأة، وبحقها الإنساني في التعامل معها كذات حرة مستقلة، وأن تصنع هوية مستقلة معرفة بدلالة ذاتها وكرامتها المتساوية مع الرجل، وليس من تموضعها كفضاء للرجل، أي أم وزوجة وأخت أو بنت. وباعتقادي أن النِسوية المنفتحة وحدها هي التي تستطيع أن تضع استراتيجية انتقال موحدة للجميع، لبناء مجتمع إنساني مساواتي جذريًا.

تزعم النِسويات أن النِسوية سوف تحسّن حياة الرجل أيضًا، لأن تَحرُّرَ الرجل هو الوجه الآخر لتحرر المرأة، هل هذا صحيح برأيك، هل النِسوية جيدة للرجل؟

طبعًا، إن تحرر الذكور من استعبادهم واضطهادهم للنساء يزيدهم حرية وإنسانية، فالرجولة تكليف ثقيل يدفع ثمنها الرجال أنفسهم. فمثلاً: حينما يتمّ ربط الرجولة بالشجاعة والتهور وركوب المخاطر، فإنها تؤدي للموت أحيانًا، وعندما يتم ربطها بالقوة والانتصاب والعلو، فإنها تؤدي إلى الخوف الوسواسي من العجز الجنسي، وقد تدفع إلى ممارسة العنف تحت ضغط الخوف من فقدان تقدير الآخرين أو فقدان ماء الوجه والنعت بالجبن والوصم بالانتماء إلى فئات الخنوعين والضعفاء واللوطيين. فالرجولة في مجتمعاتنا الأبوية مقولة شُيِّدَت على الخوف من المؤنث، وتهيئة الرجال لتملك السلطة على أجساد من هم أضعف منهم. وعندما يقرر «الرجل النِسوي» التخلي عن امتيازات الرجولة، وإعلاء قيمة المساواة وإبداء الاحترام تجاه النساء والتواصل معهن بأنماط غير تراتبية، ويعمل على القضاء على الظلم الواقع على النساء وتطبيق المبادئ النسوية في حياته الخاصة، فهو سوف يتحرر من التهور والرهاب واستخدام العنف، ومن عبء اللهاث وراء كسب المال من أجل أن يحيا ويتزوج، ويتحرر من عبء الوصاية والقوامة والولاية، وسوف تتحسن علاقته العاطفية مع شريكته، أي يصبح أكثر أخلاقية وإنسانية. ولا يمكن أن يصل إنسان في هذا العالم إلى التوازن النفسي وإلى الشخصية المُعافاة والمتوازنة والغنيّة، إلّا إذا تَحرَّرَ من وضعية القهر التي تُفرض عليه. وطبعًا لا يمكن للرجل أن يتحرّر إلّا بتحرّر المرأة، لأنهما طرفا علاقة واحدة لا يصلح أحدهما بدون الآخر. ولا يمكن للمجتمع ككل، حسب مصطفى حجازي، أن يرتقي إلّا بتحرّر وارتقاء أكثر فئاته غبنًا، فالارتقاء إمّا أن يكون جماعيًا عامًا أو مجرد مظاهر وأوهام. وأنا أعتبر أن الشخص السوي هو الشخص النِسوي رجلًا كان أم امرأة.

قرأت منذ فترة كتابًا للنسوي الهولندي ينس فان تريخت، الذي كتب عن رحلته الشيقة مع النسوية، وكيف أن النِسوية ساعدته على الانعتاق من خلال احتضان الأنثوي المقموع في داخله. الفكرة هي أن في داخل كل رجل مكوّنًا أنثويًا مقموعًا، وفي صدر كل امرأة مكوناً ذكرياً مقموعاً. تحصل عملية القمع أثناء التأهيل والتربية بهدف القيام بأدوار جندرية ثابتة ومفروضة من قبل المجتمع. يقول الكاتب إن إنسانية الإنسان لن تتحقق فعلًا إلا من خلال التوازن بين هذين المكوّنين في الروح، وليست عملية التحرر الذاتية سوى إدراك سيولة الحواجز الجندرية في دواخلنا. هل توافق على هذه النظرة؟ وهل برأيك ثمة مجال للتأثير الذاتي على الصورة الجندرية النهائية؟ أم أنها خلاصة قوى مجتمعية أكبر من الإنسان الفرد؟

اتفق مع رأي الكاتب مبدئيًا، فالنِسوية تساعد الإنسان على الانعتاق من الصورة المتخيلة التي يفرضها النظام الذكوري للرجال والنساء معًا. ودومًا الصفات الأنثوية والذكورية مكملة لبعضها في كلٍ من الرجل والمرأة. ومن الناحية البيولوجية يحتوي كلًا من جسمي الرجل والمرأة كلا الهرمونيين المسؤولين عن الصفات الذكورية والأنثوية (التستسرون والأستروجين)، وإن بنسب متفاوتة. والتصنيف للصفات الأنثوية والذكورية، أو ما تسمينه الحواجز الجندرية، هو معطى اجتماعي وتقسيم ثقافي مُتخيَّل أصلًا، لأنه لم يوجد في التاريخ مجتمع نساء كامل لمعرفة الصفات الأنثوية أو مجتمع من الذكور نقيٌ لمعرفة الصفات الذكورية. وهي قضية تنميط مجتمعي اصطلاحي وقابل للتغيّر، فلا أعرف مثلًا ما هو السبب الذي يجعل من تعبير الرجل عن عواطفه تجاه حدث معين بالبكاء فعلاً أنثويًا. أنا مع إنتاج خطاب إنساني يتجاوز النوع والدور الاجتماعي المستند إلى ترسيمات الذكورة والأنوثة التي تكبل الإنسان سواء كان رجلًا أم امرأة، وتأسيس خطاب نِسوي يجاور ويصارع الخطاب البطريركي على قاعدة المغايرة والاختلاف، في محاولة لإنتاج خطاب إنساني يغير الصورة النمطية للمرأة وإعادة الاعتبار للذات الأُنثوية بوصفها ذاتاً فاعلةً، وكسر هرمية السلطة البطريركية وثنائية التفوق/ الدونية في الخطاب الذكوري.

وطبعًا، ما لم يتغير وعي الفرد وسلوكه وينخرط في إطار فاعل، لن يتغير المجتمع أبدًا. وجميع الحركات الثورية والإصلاحية التي غيرت الأنظمة في التاريخ تكون نواتها أفراداً، وتبدأ هامشية، ومن ثم تتطور لتُحدث تغيرًا في القواعد والقوانين التي تعيد تشكيل المجتمع بطور أرقى في عملية جدلية، جَزْرًا ومدًّا، وصعودًا وهبوطًا. غير أن من شروط النجاح أي حركة في تحقيق أهدافها أيضًا هو التخطيط والتنظيم، وما لم يكن هناك نظامٌ عميقٌ في الذات المتحركة لن يُولد النظام في المجتمع. فالسلطة القائمة دومًا تولد استمرارها من فوضى من يناهضونها، ويبدو هذا أحد مكامن الخلل في الثورة السورية.

ليست كثيرة كتابات النساء العربيات التي تحلل موازين السلطة الجندرية وتنقدها، غير أن كتابات الرجال عن هذا الموضوع شبه معدومة، وإن حصل فغالبًا من منطلق الرجولة المقموعة للمثليين والعابرين جنسيًا. قلّما قرأتُ حديثًا شيئًا لرجل عربي غيري الجنسانية بهذا الخصوص. ما السبب يا ترى؟ وكيف نبرر ذلك رغم التحولات الكبيرة التي طرأت على البلد باسم الثورة والتغيير؟ وهل هناك كتّاب سوريون سبّاقون تناولوا قضايا الجندر في كتاباتهم في الماضي؟ وماذا كانت إضافتهم للأدبيات النِسوية؟

عمومًا كتابات الرجال التي تُحلّلُ موازين السلطة الجندرية وتنقدها قليلة، ولكن هناك أعمالًا تأسيسية كتبها مفكرون ذكور أجانب وعرب، أضاءت على الجانب الآخر من المعادلة، وهو الهيمنة الذكورية، بغرض تفكيكها كسيطرة، وتعتبر مكملة للكتابات النِسوية التي تُظهِرُ معاناة ومطالب وحقوق النساء لتأكيد الهوية الذاتية للمرأة بغرض رد الاعتبار إليها، وتعويضها عمّا عرفته من ظلم واستغلال.

وسوف أعدد هنا بعض الأعمال التي كتبها ذكور، وأثَّرَت في مساري النِسوي. ليست جميعها عربية أو سورية، ولكنها مهمة برأيي:

أولاً: كتاب جون ستيوارت مل استعباد النساء (1869). ويعد أول مفكر طرح فكرة أن خضوع النساء وحرمانهن من الفرص والحقوق التي يتمتع بها الرجل هو خاطئ كلياً في ذاته، وأن هذا من أهم عوائق تقدم البشرية الفكرية والأخلاقية، وأن ازدهار المجتمع يتطلّب مشاركة جميع البشر وتطوير مواهبهم، وليس عن طريق حصر الرجال والنساء في أدوار ومراكز محددة جامدة. برأيه، فإن الطريقة الوحيدة لمعرفة قدرات المرأة هي في منحها حريتها كاملة وتحريرها من عبوديتها المنزلية وإعطائها فرصًا مساوية للتي يحصل عليها الرجل، وإقامة سوق حرة بفُرَص متساوية لكليهما حتى يستطيع المجتمع معرفة حقيقة كلا الجنسين. واعتبر قوانين مؤسسة الزواج مُمنهجة لاستعباد المرأة وإبعادها عن المشاركة الاجتماعية والسياسية. كما دعا إلى السماح للمرأة بالعمل، والامتلاك، والحصول على حريتها الاقتصادية، وحقها في التصويت لتعبر عن رأيها ومصالحها، وأن تشارك في تحديد سياسات وقوانين الدولة.

ثانياً: كتاب بيير بوردو الهيمنة الذكورية (1998)، حيث رأى أن قوة النظام الذكوري تكمن في قدرته على تقديم نفسه كمحايد، ويشترك الذكور والإناث بشكلٍ لا واعٍ في تبنّي التصورات والمقولات التصنيفية ذاتها، وتُستثمر كلّ أدوات التخفي والاحتجاب (مثل اللاشعور) لممارسة المخاتلة والمراوغة والخداع، كما يتم توريث التفاضل الجنسي المسكون بالبطريركية عبر «العنف الرمزي» الذي يحوّل النساء إلى مجرد أشياء للتبادل تحقيقًا لمصالح الرجال، ودور مؤسسة الأسرة كـ  «حارسة للرأسمال الرمزي»، لذلك تتطلب مقاومة هذه الهيمنة  ثورة معرفية تقوم على مبدأ التدرّج والتراكم.

ومن المفكرين الذين كتبوا باللغة العربية:

ثالثاً: كتاب هشام شرابي النظام الأبوي وإشكالية تخلّف المجتمع العربي (1974)، حيث رأى أن النظام الأبوي يقوم على استعباد المرأة ونفي وجودها الاجتماعي. ذلك أنه مجتمع ذكوري تسكن فيه الذهنية الأبوية ذات النزعة السلطوية الشاملة التي ترفض النقد ولا تقبل بالحوار إلا أسلوباً لفرض سيطرتها، فلا بد من تغييره تغييراً جذريًا شاملاً، عن طريق رؤيةٍ بعيدة المدى وممارسة جماعية تؤدي إلى إزاحة الأب رمزاً وسلطة وتنتهي بتحرير المرأة قولاً وفعلاً.

رابعاً: كتاب سيكولوجية الإنسان المقهور لمصطفى حجازي، الذي يقول فيه إنه حيثما وجد قهر واستغلال، لا بد أن يصيب المرأة منهما القسط الأوفر، وحيثما وجدت الحاجة إلى حشر كائن ما في وضعية المهانة، لا بد أن يقع الاختيار على المرأة. من خلال ما تتعرض له من تسلط وما يفرض عليها من رضوخ وتبعية وإنكار لوجودها وإنسانيتها واستلابها اقتصادياً وجنسياً. ولكن الأخطر هو «الاستلاب العقائدي»، حين تتبنى المرأة قيم سلوكية تتماشى مع القهر الذي فُرِضَ عليها وتبرره جاعلة منه جزءًا من طبيعة المرأة. وبذلك هي تقاوم تحررها وترسخ البني التسلطية المتخلفة التي فُرضت عليها، من خلال نقلها إلى أولادها البنات منهم حين تفرض عليهنّ الرضوخ للرجل «الأب والأخ والزوج» وتفرضها على الصبيان من خلال غرس النظرة الرضوخية للسلطة، والتبعية لسيادة القلة ذات الحظوة، ولكن الواقع أن طبيعة المرأة لا علاقة لها بهذا القهر.

وكذلك يمكن ذكر كتاب المجتمع العربي المعاصر، بحث في تغير الأحوال والعلاقات لحليم بركات، وكتاب دوائر الخوف لنصر حامد أبو زيد، النظام الأبوي وإشكالية الجنس عند العرب لابراهيم الحيدري، شرفة العار لابراهيم نصرالله، السرد النسوي للعراقي عبدالله ابراهيم. ومن السوريين؛ شرق غرب لجورج طرابيشي، أزمة المرأة العربية في المجتمع الذكوري لبو علي ياسين، احتكار اللذة مرآة المجتمع الذكوري لإبراهيم محمود. فضلًا عن مساهمة الرجال في ترجمة عدد كبير من الأدبيات النسوية إلى العربية، مثل عبدالله فاضل وإمام عبد الفتاح إمام وآخرين.

أما بالنسبة لكتابات رجال غيرييّ الجنسانية، فليس لي اطلاع عليها بسبب الندرة والسرية، ولكن وسائل التواصل الاجتماعي استطاعت أن تكسر العديد من دوائر الصمت، فأصبح  من الممكن طرح مواضيع كانت تعتبر «تابو» كالمثلية، وقد تجرّأ بعض السوريين منهم على إنشاء صفحة خاصة على فيسبوك، ولكنها ظلت محصورة في العالم الافتراضي، الذي يعد أقل خطورة من الواقع.

قد يكون مصطلح تحرير الرجل غريبًا بالنسبة لنا، فغالبًا ما يُستخدم بغاية النيل من النِسوية، عبر القول إن الرجل صار هو المظلوم هذه الأيام ويحتاج للتحرير وليس المرأة. ولكني مع ذلك أرى أنه ضمن الظروف الحالية الضاغطة بشدة على الرجولة السورية، صار من المفروض أن تظهر حركة لتحرير الرجل أيضًا، لإخراجه من مأزقه، على أمل أن ترفد حركة التحرر الكبرى بدعمها ومعارفها الجديدة وشبكات تواصلها. غير مستبعد أن يرغب بعض الشباب الذين عاصروا بدايات الثورة، وما زالوا يؤمنون بالتغيير، بالانضمام لحركة من هذا النوع. هل لاحظت تحركًا رجاليًا بهذا الاتجاه؟ وهل ثمة مجموعات أو تكتلات لسوريين أو عرب تطمح إلى التغيير عبر دراسة الرجولة، وتأثيرها على الأزمات وتأثرها بها؟ وهل توجد ورشات تعمل على تمكين الرجل بغية تحسين مؤسسة الزواج ودور الأبوة، والحد من مشاكل ما بعد الطلاق، ومن سلوك العنف والتحرش، وتطوير سلوك العناية بالنفس والآخرين؟ هل سمعت عن منظمات عربية تستهدف الرجال بالدرجة الأولى؟ وإن لم تكن موجودة، ماذا يتعين علينا فعله كي ندفع في ذلك الاتجاه؟

يوفر المجتمع الذكوري امتيازات اجتماعية غير مستحقة للرجال، لأنها قائمة فقط بناء على نوعهم الاجتماعي. ويتبعها امتيازات اقتصادية وسياسية تعيد توزيع السلطة والثروة لمصلحتهم، وتنبع هذه الامتيازات من الإيمان بتفوق أصيل لجنس الذكورة على جنس الإناث، ومن ثم حقه في السيادة على النساء بناء على جنسهنّ ونوعهنّ الاجتماعي. ويعتقدون بوجود أدوار مجتمعية محددة للنساء وأفكار نمطية عنهنّ، يطلق على هذه الذكورة «الذكورة  السامة» إشارة إلى ما تسببه هذه المفاهيم للرجال أنفسهم من أذى نفسي واكتئاب وتوتر مستمر أثناء فرض سيطرتهم على المرأة في الحياة الاجتماعية والجنسية، وإشارة إلى تسميم الحياة الأسرية والمجتمعية عبر زيادة العنف الأسري. كما أنها تنسب كل ما هو سلبي للمرأة وكل ما هو إيجابي للرجل: مثل أن يكون الذكر نشيطًا وعنيفًا وقاسيًا ومسيطرًا، وأن تكون الهيمنة على المرأة جزءًا من طبيعة الذكورة، وأن يكون إظهار مشاعرهم الإيجابية نحو المرأة نوعاً من الضعف، ويعتقدون أن أي اعتراف بحقوق المرأة وإنصاف لها هو اعتداء وانتقاص من امتيازاتهم الذكورية التي منحتها لهم الطبيعة أو الإله لأنهم الجنس الأرقى.

وينظر بعض الرجال في أميركا والغرب إلى حصول المرأة على بعض من حقوقها على أنه انتقاصٌ من حقوقهم الأزلية، فنشأت على هذا الأساس حركات «تحرير الرجل» (وأضعها بين معترضتين) لوقف مظاهر عدم المساواة وطغيان المرأة على الرجل. لا توجد مثل هذه الحركات في مجتمعنا، وإن وجدت فهي أقرب إلى الهزل منها إلى الجد، لأن المرأة  ببساطة لا تتمتع بالحد الأدنى من الحقوق التي تصون كرامتها في مجتمعنا، وما زالت قيم الذكورة (القوة، والأداء، والعنف) هي السائدة. وما زال الرجل هو المسيطر والمتحكم والمحتكر للفضاءين العام والخاص، ليس لما يمتلكه من إمكانيات أو لإنجازاته، بل لما يمثله من معايير الذكورة المهيمنة، ونجد تجليات ذلك في العنف الواسع ضد المرأة وقبوله اجتماعيًا، كالتسامح مع الجرائم القائمة على النوع الاجتماعي، مثل العنف اللفظي والنفسي والتنمر والتحرش الجنسي، والاغتصاب وتبريره قانونيًا، من مثل إعفاء المغتصب من العقوبة إذا تزوج ضحيته، أو إعفاء القاتل من عقوبة القتل تحت ما يسمى «الدافع الشريف» أو إعطائه العذر المخفف، أو عدم تجريم الاغتصاب الزوجي والعنف الأسري بكافة أشكاله.

لم أصادف مجموعات تدرس أثر الرجولة على النزاعات أو حركات تعمل لإخراج الرجل من رجولته السامة رغم أهميتها وضرورتها، ولكني سمعت عن ورشات تعمل على تمكين الرجل مع تمكين المرأة تحت مسمى «تعبيد الطريق»، قامت بها منظمات المجتمع المدني في تركيا. والآن أصبحت أغلب المنظمات النِسوية تدمج الرجال في نشاطاتها. وتعتمد شبكة المرأة السورية كمثال نسبة 80% نساء و20% ذكور في جميع فعالياتها، ويمكن حالياً تطوير هذه الفكرة وتوسيعها. وطبعًا لن يختلف أي إنسان سويٍّ مع أهمية هذه المحاولات لإبعاد صفات الذكورة السامة عن مفهوم الذكورة، و نبذ العنف غير المبرر أو التنمر المستمر على النساء، أو على أقرانه الذكور لمجرد إثبات هيمنته. ولا نقلل من صعوبة هذا المسار مع احتمال مرور الرجل بأزمات نفسية واضطرابات اجتماعية ومنطقة رمادية، غير أن تبني ذكورة أكثر مسؤولية تجاه النفس والآخرين هو لمصلحة الاسرة والمجتمع ككل، ولبناء مجتمع غير قائم على العنف أو خال منه، باعتبار أن هذا أساسٌ لأي نهوض قادم.

ولكني شاهدت نماذج من الذكورة الإيجابية في الحراك الثوري في لبنان والسودان وسوريا والعراق. وهذا دليلٌ على أن تغيرًا قيميًا إيجابيًا يحدث في المجتمعات العربية، حيث رأيت رجالاً يقفون إلى جوار النساء، أو يرفعونهن على الأكتاف ويهتفون معهنّ ضد العنف وضد القمع، وآخرون خرجوا مع زوجاتهم وصديقاتهم وأهلهم واتحدوا عبر الرقص والغناء، ضد قمع الحريات وتكميم الأفواه والفساد. أرى  أن تعميم هذه الصور على المستوى الإعلامي بكل وسائله يساعد على  تحدي الصورة السلبية للذكورة.

أرى أنه في مواجهة الذكورية السامة تتبلور حاليًا ثلاثة نماذج يمكن الشغل عليها وكسبها:

 الرجل الرافض للنظام الأبوي.

الرجل المساند للنسوية والرافض للتمييز الجنسي.

الرجل النِسوي الفاعل المنخرط في حراك نسوي مدني أو سياسي.

أنا أشجع على تبني النموذج الثالث، لأنه أكثر جذرية ويعمل لتحقيق مجتمع أكثر عدالة وإنسانية، ولأن النسوية برأيي هي أعمق من وضع ثنائيات (الرجولة والأنوثة) في تعارض، وهي قادرة على دمجها وتركيبها في ثقافة إنسانية مساواتية جذريًا مع الحفاظ على خصوصية كل طرف والدفاع عن جميع المهمشين، لا أن يكون أحد الأجناس معيارًا لسلوك وتصرف الأجناس الأخرى (مختلفين نعم لكن متساويين، ضد القمع ومع حرية الاختيار). أي أن يحقق كل جنس ذاتيته وهويته بكل حرية بدون تراتبية ومركزية، وبدون عقد التفوق واحتكار الامتيازات، وبالتأكيد هذا تطور للحرية ذاتها وللمجتمع الذي يطبقها بأجناسه كافة.

تعيش الحركة النِسوية السورية وقتًا عصيبًا جراء الحرب والتشرذم الجغرافي للسوريين والسوريات. ولقد لاحظتُ أن ثمة محاولات للمّ الشمل عبر صفحات نِسوية وتكتلات ومؤتمرات إلكترونية. رغم مساوئ فيسبوك الكثيرة، إلا أنه بات منبرًا لمن لا منبر له. هل تفي هذه البدائل الالكترونية للنهوض بحركة نِسوية مستدامة برأيك؟ أم أن لا شيء يعلو على التواصل النِسوي المباشر، ولا بد أن تنهار هذه المنابر الهشة عاجلًا أم آجلًا جراء تراكم سوء الفهم والاغتراب؟ وكيف يمكننا استباق هذه الهشاشة بتمتين التكتلات كي تفي بالغرض قدر الإمكان وأطول فترة ممكنة؟

إحدى أهم سمات وسائل التواصل الاجتماعي هشاشتها وافتقادها الحميمية والصدق، وهي تسمح بالتخفي والمراوغة وطمس الخلفيات والغايات، ولكنها تظل أدوات لا تحوّر ولا تزوّر. ومهما كانت قاصرة ولا تستجيب لمتطلباتنا، فلا يمكن تحميلها قصورنا، فالحوار عبرها يعكس طبيعة المتحاورين ومستوى تملّكهم لثقافة الحوار. عندما أُعاينُ طريقة حوار كثير من السوريين/ات في الواقع أو على وسائل التواصل الاجتماعي أو تعليقاتهم غالبًا ما أرى: النقاش يبدأ موضوعيًا ومنطقيًا، وعند أول خلاف في الرأي أو مقاومة يبديها الشخص الآخر المختلف، لا يلبث أن يتدهور الحوار المنطقي والعقلاني بسرعة، ويفجر انفعالات تؤدي إلى اضطرابه، ويتحول إلى صراخ و مهاترات وتصعيد وتنمر وحتى إسفاف لفظي، وتكون نتيجته كارثية على الطرفين، وقد ينتهي إلى البلوك الافتراضي أو القطيعة الواقعية.

كما أن الحركة النسوية السورية كالأفراد بنتُ شرطها التاريخي، وبالتالي لا تستطيع أن تتخلص دفعة واحدة من ظروف ولادتها ونشأتها في إطار مجتمع أبوي، ونظام سياسي قمعي وسلفية دينية. ولا أن تتجاوز واقعها الموضوعي بعد تحول الثورة إلى حرب وصعود التنظيمات الجهادية، وحالة الانفلات الأمني وغياب المحاسبة وانتهاك القانون الدولي الإنساني، وحالة الانقسام العميق العمودي في المجتمع السوري، المُعزَّز بإيديولوجيات إقصائية دينية أو علمانية، بالإضافة إلى الحصار والعزلة والتجويع والانتهاكات والعنف المفرط التي تورط بها النظام والمؤيدون له وسلطات الأمر الواقع والمؤيدون لها، وغياب القانون في كثير من مناطق سوريا أو تعطيله بسبب الزبائنية والمحسوبية والفساد وادعاء مكافحة الارهاب، مما أدى إلى التشتت الجغرافي للنساء السوريات عبر النزوح والهجرة، وخضوعهنّ إلى قواعد اجتماعية مختلفة، وقوانين مختلفة، وتشظي الحراك النسوي في الخارج والداخل.

أرى أنه بعد تطاول الصراع والنزيف البشري والمادي، وغياب ملامح حل سياسي حقيقي في سوريا، وتقلّص الدعم لكافة المنظمات، ازدادت الحاجة الموضوعية إلى التكتل والتنظيم وتجاوز العوائق السابقة. وهذا يتطلب تطوير العمل المؤسساتي داخل المنظمات ومع بعضها، ووضع خطط طويلة ومتوسطة وقصيرة الأمد. أعني أنه ينبغي توحيد الهدف أولًا ومن ثم توحيد الصف. علينا البدء بدراسة الاحتياجات الحقيقية للمرأة السورية في كل أماكن تواجدها، ثم وضع خطة استجابة موافقة لها، واستخلاص أهم القضايا التي يمكن أن تعمل تغييرًا محسوسًا وإيجابيًا في وضعها، والعمل لإيصال هذه القضايا إلى صنّاع القرار لتحويلها إلى قرارات قابلة للتنفيذ. المؤسساتية والتخصص والتقاطع في الأهداف هو أساس كل عمل تشبيكي ناجح. وأما كيف يمكن تحقيق ذلك؟ ينبغي علينا السير  في كل الطرق التي تُقرّبنا من هدفنا، عبر اللقاء الفيزيائي أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو الواقع المعزز أو الواقع الافتراضي أو الجمع بينها كلها. باعتقادي إن وسائل التواصل الاجتماعي تقنية كسرت حدود الزمان والمكان من خلال إمكانية التواصُل الفوري والمُباشر مع الأشخاص وفي أي مكان حول العالم، ووفرت الوقت والجهد والمال، وأصبحت أداة لا يمكن الاستغناء عنها في حياتنا، مع أخذ سلبياتها بعين الاعتبار. وينبغي  كذلك مسايرة التطور التقني في أعلى درجاته وتطويعه لمتطلباتنا.

لقد تقاطعت طرقنا، أنا وأنت، عبر العمل النِسوي، ولكني أعرف أن لك مساهمات في الشأن السوري أوسع من ذلك. هلا أعطيتنا صورة أشمل عن عملك، وأخبرتنا ما هي أكبر التحديات التي تواجهها فيه؟

وجود الرجل في حراك نِسوي ضمن مجتمع أبوي سلطوي متزمت وقامع للحريات وناف للحقوق، بحاجة إلى إرادة وتصميم ووعي وزاد معرفي. أحاولُ التوسّع ما استطعت في الاطلاع على الفكر النسوي، وأساهم بكتابة المقالات في المواقع النسوية. وأشتغلُ حاليًا على مشروع مقارن بين الحركة النسوية العربية والحركة النسوية الغربية من خلال التركيز على لحظة مفصلية هي المؤتمر الأول للمرأة الشرقية في دمشق عام 1930، الذي صاغ توجهات الحراك النِسوي في تلك المرحلة. إنّ الحركة النِسويّة في سوريا والمشرق عامة حركة أصيلة فيها، ورغم تفاعل الحراك النسوي في بداياته مع الحراك النسوي الغربي في البلدان التي خضعت للاستعمار إيجابيًا في بعض الجوانب، ولكنه لم يكن مُنشِأً ولا مُحرِّكاً لها .

إلى جانب نشاطي هذا، لم أفقد اهتمامي ولم أتخلَّ عن نشاطي السياسي من موقعي المستقل. وأشارك قدر الإمكان في الأُطُر التي تتيح لي حرية الفكر والحركة وعدم التورط في شبهات الفساد والارتزاق قبل 2011 وبعده. شاركتُ في لجان إحياء المجتمع المدني والمنتديات وإعلان دمشق، وفي المظاهرات أثناء الثورة وفي بلاد الاغتراب، و في تجمع مستقلي الثورة والمعارضة. وأَعتبرُ أنني في جميع المراحل التي مر بها وطني كنتُ ذاتًا ولي موقف من الحياة، وخضتُ معاركها كلها مقبل غير مدبر، وقد دفعت ثمن خياراتي على كل الأصعدة.

أما التحديات على المستويين (النسوي والسياسي)، فأعتقد أن لبَّ المشاكل التي نعاني منها ذاتية أساسًا، أي في افتقاد التخطيط والتنظيم والإرادة المثابرة والإدارة الرشيدة. وهذا يعني أن التغيير يجب أن يبدأ ضمن مسارين جدليين. الأول يمكن تسميته بالجدل الصاعد وينطلق من أنفسنا ومن ثم في مؤسساتنا التي نعمل بها وصولًا إلى التغيير المجتمعي والسياسي. والثاني هو جدل هابط ينطلق من إصلاح القوانين والبنى المؤسسية السياسية وصولًا الى مؤسسات المجتمع المدني والأفراد ومدونات الحقوق والواجبات القائمة على أساس المواطنة والمساواة الجندرية كل حسب موقعه.

هل تمكنت من الاستقرار في مكان إقامتك الجديد ألمانيا؟ وماذا تضيف في رأيك تجربة المهجر إلى مجموعة تجاربك الأخرى؟

ما دام الجرح السوري نازفًا. وطالما لم يحصل انتقال سياسي في سوريا، وما دمنا لم نتخلص من الاستبداد الذي هو أسّ الشرور جميعًا، لن يوجد استقرار للسوري/ة،  أينما حلّ/ت. وضمن هذا الشرط العام أستطيع القول إنني أتكيف تدريجًا مع ظرف إقامتي الجديدة بشكل مقبول. أنا مقيم منذ حوالي ست سنوات في مقاطعة هيسن وسط ألمانيا، والحركة العنصرية المعادية للاجئين في منطقتي موجودة وتتقدم في الانتخابات المحلية، ولكنها ما زالت محدودة التأثير على السياسات والوضع العام في البلد. الاندماج على المستوى الفردي في ألمانيا هو في تعلم لغة البلد بالحد الأدنى وإيجاد فرصة عمل؛ أعمل كباحث خارجي في مؤسسة فريدريش ايبرت شتيفتونغ. وعمومًا لكي يعيش المرء باستقرار نسبي في ألمانيا عليه أن يحترم قوانين البلد وخصوصيات الآخرين والنظام العام وحقوق المرأة والطفل وذوي الاحتياجات الخاصة والبيئة. أما الاندماج بمفهومه المجتمعي، أي تأثير السوريين وتأثرهم كمجموعة وثقافة في المجتمع الألماني، فإن الحديث عنه ما يزال مبكرًا. أضافَ لي التثاقف مع المجتمع الألماني الكثير، لأن ما كنتُ أطمح له وأناضل من أجله في بلدي سوريا، وكان طوبى وخيالاً حسب ما يعتقد البعض، وجدته متحققًا في الواقع. واللافت أن أغلب السوريين هنا يحترمونه ويقبلونه، ويحاولون أن يصبح نمط حياة لهم.

وسوف أركز على وضع المرأة في ألمانيا: تمثال «امرأة الأنقاض» موجود في أكثر من مدينة ألمانية تخليدًا لمساهمة المرأة في بناء ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. ومن الناحية السياسية، تشارك النساء بنسبة 31% في البرلمان و25% في البلديات. مهنيًا: توجد كوتا تلزم الشركات بمشاركة المرأة بنسبة 30% في مجالس الإدارة ومواقع اتخاذ القرار. قانونيًا: ينص الدستور على المساواة التامة بين الرجال والنساء، وينص قانون الرعاية المشتركة على المساواة بين الجنسين في الزواج وفي تحمل مسؤولية الأسرة والأطفال. وينص القانون على حق كل شخص في حياة خالية من العنف. كما تحصل النساء المُعنَّفَت على المساعدة والمشورة والدعم من مراكز الاستشارات وبيوت النساء ومكاتب دعم الضحايا، وحق تقديم شكوى جنائية، وحق تعيين محامية للدفاع عنهنّ وحق الحصول على مرافقة نفسية –اجتماعية. وكذلك فإن من يضرب يغادر المنزل المشترك، ويُمنَع من الاقتراب من الضحية لمسافة محددة كتدبير حماية وقائي. ورغم ذلك، الفجوة بين الجنسين في ألمانيا 0.76 وتحتل المرتبة 14 في التصنيف العالمي من أصل 133 دولة.

أفكر دائمًا: كم يلزمنا من الجهد والوقت والعمل والإرادة لنصل إلى هذا المستوى من احترام الذات والكرامة الإنسانية والمرأة في بلدنا؟

أنت إنسان صبور، وإن كنتُ أحبُّ أن أتعلم منك شيئًا فهو هذا الصبر العظيم، ما سر صبرك وكيف تحافظ عليه رغم الظروف العامة التي تثبط النفوس؟

الصبر قيمة محمودة في ثقافتنا (ربنا أفرغ علينا صبرًا). الصبر موقف من الحياة يتجلى بالصراع مع  القدر، وعدم الاستسلام له. كان البطل التراجيدي الإغريقي يفضل أن يموت في ساحة الصراع واقفًا على أن يتجنب قدره. يتولد الصبر من الثقة بالذات، والتفاؤل بالمستقبل، والعمل من أجل زراعة الأمل. وتتعلق المسألة على المستوى الذاتي بالتكوين النفسي والعقلي، وبالتربية والظروف التي يمر بها الشخص.

أحافظ على صبري بالدربة. ينبغي على الإنسان أن يُدرّب نفسه على الصفات المطلوبة. حاولتُ ما استطعت داخل السجن وخارجه ألا أتعلم الحقد مهما بلغت الإساءة. كما تعلمت في السياسة أن لكل مشكلة حلاً بالحوار على أرضية ضمان الحقوق ورفع الحيف. فعندما نناضل ضد الديكتاتورية، يجب أن نهزم الديكتاتور أخلاقيًا قبل هزيمته سياسيًا. وربما ساهم انخراطي بالعمل النسوي أيضًا بالابتعاد عن قيم الذكورة السامة مثل الغضب والتسرع والسيطرة والعنف. وطبعًا يفترض بالمهتمّ والمشتغل بالشأن العام، إن كان مدنيًا أو سياسيًا، أن يتحلى بالصبر الاستراتيجي، وهو عكس الانتظار والكسل والاستسلام، وأن يفكر على مستوى بعيد واستشرافي، ويعمل بدأب لمواجهة العوائق والتحديات والتناقضات دون إضاعة الهدف. أتمنى أن أستطيع الاستمرار في ذلك.

المصدر: الجمهورية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى