ما معنى معارك ادلب الأخيرة بين الأتراك وقوات النظام ومن خلفه روسيا وإيران وحزب الله …؟ لماذا انفجر محور آستانا وسوتشي من داخله …؟ وتحول الى حروب ضارية قابلة للاتساع محليا ودوليا …؟ ما طبيعة وحقيقة أدوار اللاعبين الدوليين والاقليميين …؟
أسئلة كثيرة، تكثر الاجتهادات في تحليلها وفك طلاسمها لا سيما أنها تتقاطع وتتشابك مع أزمات دولية أخرى، ومع القوى الكبرى في العالم، ولكنها في الحقيقة ليست عسيرة الفهم، لأن هذه التطورات جاءت في سياق يمتد عشر سنوات تقريبا، اتضحت خلاله أجندات ومشاريع الاطراف كافة.
منذ بداية الثورة السورية عام 2011 اكتسبت سورية خاصية استثنائية وفريدة لاجتذاب قوى دولية عديدة اليها، بحيث لم يمض عام 2012 حتى أصبحت ساحة حروب متعددة، وميدانا لقوى ومنظمات وجيوش متنافسة، أو متصارعة، ليس بينها منسق أو تنسيق. والمفارقة الكبرى أن كل القوى التي تدخلت وانخرطت في الحروب الدائرة على أرضها، إنما تذرعت بالدفاع عن النظام، أو مساعدة الثوار وحماية شعبهم، بينما أثبتت الوقائع أن الجميع عملوا على اضعاف النظام والثوار معا، وجاؤوا لتحقيق أجندات خاصة بكل منهم على حساب سورية والسوريين. ينطبق هذا على إيران وروسيا وتركيا والولايات المتحدة واسرائيل، وتنظيم القاعدة، وتنظيم الدولة، وأشباههما.
ومن الطبيعي في ضوء هذه الحقيقة أن تنشأ تحالفات غير منطيقة وغير موضوعية تفرضها الضرورة، وتشتعل صراعات ناتجة عن كثرة الأجندات والمشاريع. وقد سبق لنا أن سمينا محور آستانا الذي يضم روسيا وتركيا وايران (حلف الضرورة) لأن تناقضات أطرافه أكثر من التوافقات، الأمر الذي سبب انفجار الخلافات الحادة بين الثلاث مرات عديدة منذ نهاية 2017 ، بسبب الخلافات حول مصير مدينة ادلب ، وعدم وفاء تركيا بالتزامها بتصفية ،أو اخراج ( هيئة تحرير الشام ) المسيطرة على المدينة التي يقيم فيها اربعة ملايين سوري ، تم تهجيرهم من كل المحافظات وتجميعهم فيها لأن غالبيتهم يرفضون (المصالحة مع النظام والعيش تحت سلطته ) بمقتضى خطط ومقررات المحور الثلاثي ، وضمانة الثلاث حيث اصبح الروسي ضامنا للنظام ، واصبحت تركيا ضامنا للمعارضة .
سارت عملية التعاون بين اللاعبين الثلاثة بصعوبة بالغة، كالسير على حبل مشدود، وكان كل منهم يحاول شد الحبل اليه ليمرر أو يحقق مصالحه هو. ولا يخفى على أحد أن التركي كان في الواقع أضعف من الايراني والروسي لأن هذين متحالفان مع النظام، ونفوذهما يمتد الى مفاصل الدولة والنظام، إضافة لفارق القوة بينه وبين اللاعب الروسي.
ولا شك أيضا أنه على الرغم من كثرة القوى المسلحة الفاعلة على الارض السورية : اميركا ، اسرائيل ، ايران ، حزب الله الذي ينبغي النظر اليه كقوة تتمتع باستقلالية نسبية ، لا كقوة تابعة لإيران فقط ، قوات الأسد ، فصائل المعارضة المسلحة ، قوات قسد الكردية ، القوى الأصولية المتطرفة ، فإن الروس يحتلون مركز القوة الأولى المهيمنة على زمام الأمور أكثر من أي طرف آخر بحكم حجم قوتها الضاربة ، ووزنها السياسي الدولي ، فضلا عن أنها الوحيدة التي لها علاقات مباشرة مع كافة الأطراف ، ولها قنوات اتصال مع الجميع ، وصاغت تفاهمات محددة مع الجميع ، وبذلك أصبحت مركز القوة الرئيسي ، وعنصر الاتصال بين الجميع : أميركا واسرائيل وايران وتركيا والنظام والمعارضة والاكراد وحزب الله . إنها الطرف الوحيد الذي يمكنه التنسيق بين أضداد يستحيل التقريب بينها!
روسيا توزع الأدوار وتضبطها:
استغلت روسيا الميزة السابقة لتعزيز قوتها وهيمنتها على أوراق الأزمة السورية، وإدارة صراع الأضداد في سورية، ورسم الأدوار لهم. واثبتت قدرة فائقة على إرضاء الجميع من ناحية، والحد من أنشطتهم إذا رأت ضرورة لذلك من ناحية ثانية. وعلى سبيل المثال فهي تنسق مع الولايات المتحدة في العديدة من المسائل، كما رأينا في درعا عام 2018، وكما نرى تنسيقها مع اسرائيل كل يوم، إذ تسمح لها بملاحقة الايرانيين وحزب الله والنظام في كل ما يتعارض مع أمنها. وتنسق مع الاتراك، وتسمح لهم بإدارة مدن عدة (كجرابلس وعفرين والباب وادلب). وتنسق مع الكرد في العديد من الملفات السياسية والعسكرية، ومع بعض أطراف المعارضة السورية مباشرة أو عبر تركيا بطريقة غير مباشرة، على مسارات سوتشي وآستانا واللجنة الدستورية، وعبر لجنة المصالحات في قاعدة حميميم، وهي مثلا تعهدت لكثير من المعارضين المقيمين في دمشق حتى اليوم بحمايتهم من سطوة النظام وسهلت لهم تحركاتهم في الداخل والخارج.
والسؤال المهم هنا: كيف ولأي هدف توظف روسيا هذه الميزة الفريدة؟
حددت روسيا منذ بداية تدخلها العسكري في سورية أهدافا استراتيجية عليا تتوزع على ثلاث دوائر محددة هي:
1 – الهيمنة المباشرة والكاملة على سورية وجعلها منطقة نفوذ دائمة لها وحدها، وتوسيع نطاق الاتحاد الأوراسي الى الشرق الاوسط.
2 – تحويلها قاعدة عمليات لتوسيع نفوذها ومصالحها الجيوسياسية والاقتصادية في عموم الشرق الاوسط من المتوسط الى الخليج العربي وشمال افريقيا.
3 – تفعيل دورها في حماية الاقليات الدينية والعرقية، والحرب على الأصولية الاسلامية لأنها عدو رئيسي لها، واعادة تشكيل المنطقة، وتسوية صراعاتها، بما فيها الصراع العربي – الاسرائيلي، والصراع الفارسي – العربي، أو الصراع اليهودي – الاسلامي، والصراع السني – الشيعي، وحماية المسيحيين.
وبقراءة معمقة للسياسة الروسية وسلوكها العسكري في سورية بعد أربع سنوات ونصف من تدخلها يتبين أنها لم تحد عن تلك الاهداف ولم تتراجع، ولكنها ما زالت في الدائرة الأولى، أي في ترسيخ وتعميق وجودها في مفاصل الدولة والنظام والمجتمع، وتقليص نفوذ الايرانيين. بالطبع تحتاج روسيا لتحقيق أهدافها مسارا طويلا وعملا كثيرا. وفي مقدمتها خلال المرحلة الحالية، إبعاد المنافسين والشركاء واخراجهم، والقضاء على الاعداء لكي تنفرد بالهيمنة تحت عنوان مزيف هو: مساعدة الحكومة السورية الشرعية على بسط سلطتها على كامل أراضي الدولة، والتخلص من الإرهابيين وكافة القوات الاجنبية غير الشرعية.
ومن الملاحظ أنها تركز حاليا على تقليم أظافر إيران بالدرجة الاولى لأن لهذه مشروعا واسعا في سورية، واستطاعت اختراق كل مؤسسات الدولة والمجتمع الأمنية والعقائدية والاقتصادية، واستمرار إيران يتناقض مع المشروع الروسي، ويهدد دورها في تشكيل المنطقة. ولذلك رأينا في العام الماضي حملات عسكرية وامنية كبيرة للقضاء على نفوذ إيران في جيش النظام السوري، ومؤسساته الامنية، وملاحقة الموالين لها من كبار المسؤولين بما فيهم ماهر الاسد قائد الفرقة الرابعة، وشقيق بشار. ولنفس الغاية سمحت لإسرائيل بتعقب واستئصال الأهداف الايرانية، لأن المصلحة مشتركة، وهناك من يقول إن روسيا هي التي تكشف لإسرائيل بعض المعلومات عن المواقع الايرانية وتساعدها على ضربها. وخاضت القوات الروسية معارك حقيقية في اللاذقية ودمشق وحمص مع ميليشيات سورية تمولها إيران، كما إنها فرضت على بشار الاسد اجراءات كثيرة هدفها تقليص نفوذ إيران، وتقوية نفوذها هي بدلا منه.
تقليم أظافر تركيا:
في نفس الاتجاه ولذات الغاية جاءت العملية الأخيرة ضد تركيا في شمال سورية، بين حماة وادلب وحلب. فتركيا عمقت قواعد وجودها ونفوذها عبر الحاضنة الاجتماعية السنية وشكلت ما يمكن وصفه جيشا حقيقيا يضم مائة ألف مقاتل، تجمعهم عقيدة دينية وروابط وثيقة بالأتراك عرقيا وسياسيا وثقافيا. وربطت الفصائل المتطرفة بها، وعلى رأسها (هيئة تحرير الشام – القاعدة) ورفضت تصفيتها أو حلها، واستطاعت اجراء تغييرات ديمغرافية فيها وفي كل شمال سورية، وتمكنت من تغيير تركيبة السكان، في مناطق واسعة وتخطط لإقامة مناطق خاضعة لسلطتها ونفوذها وثقافتها بشكل دائم.
هذا المشروع التركي الذي يمتد بين الساحل السوري الى اقصى الشرق، يتناقض أيضا مع المشروع الروسي بعمق ويهدده، كما يهدده المشروع الايراني. ولذلك تحركت روسيا في الآونة الأخيرة لتقليم اظافر ومخالب تركيا في هذه المناطق واضعة قوات نظام الاسد في الواجهة.
إن معارك الاسد في الشهور الاخيرة ضد المواقع التركية، واصرار روسيا على تصفية النصرة، هدفهما واحد هو اضعاف مرتكزات النفوذ التركي، بعد أن تجاوزت حدودها المرسومة لها من روسيا في آستانا وسوتشي، وسعيها لتوسعته على الارض، بإقامة مناطق آمنة دائمة، أو طويلة الامد لها، تستغلها لتتريكها وتحويلها مناطق مرتبطة عضويا بها، والقضاء على الكثافة الكردية في مناطق أخرى. أي مستنسخة المشروع الايراني وادواته واساليبه في مدن ومحافظات عديدة في سورية.
براعة الروس أنهم لا يحتاجون للقيام بهذه العملية بأنفسهم، فهم يوظفون الدور الاسرائيلي ضد إيران وحزب الله، ويوظفون الايرانيين وقوات الاسد وميليشيات حزب الله ضد تركيا، ويوظفون تركيا لإضعاف واخضاع الاسد، وتحجيم الكرد حلفاء الولايات المتحدة لإعادتهم الى حضن موسكو. وفي معركة سراقب التي خسر فيها حزب الله قبل أيام فقط حوالي 15 قتيلا من نخبة مقاتليه بسبب امتناع الروس عن التدخل لحمايتهم، وتركهم لقمة سائغة للأتراك دليل واضح كيف يستنزف الروس حلفاءهم وأعداءهم في وقت واحد ليظلوا سادة اللعبة في الميدان!
روسيا هي الطرف الأول والاخير في كل ما يحدث من صراعات وفي صورية، وهي بهذا الاسلوب تستخدم الجميع ضد الجميع لتكون هي الاقوى والفائز النهائي!