في 22 شباط “فبراير” مرت ذكرى أول محاولة وحدة عربية بعد معاهدة تقسيم بلاد الشام “سايكس بيكو”، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وقيام الكيان الصهيوني، واستقلال سورية كما رسمتها تلك المعاهدة الشهيرة، وانتشار ثورات العالم الثالث ولاسيما الجزء العربي منه لانتزاع استقلالهم من الاستعمار القديم الذي كان يلفظ أنفاسه لصالح النظام العالمي المستجد مورَثاً قيادتين جديدتين هما الاتحاد السوفييتي ” الاشتراكي، نصير الشعوب” والولايات المتحدة الأمريكية” التي بدأ نظامها الرأسمالي الحر يتعقد مع التحول إلى امبريالية عالمية”.
في تلك الظروف كانت الأفكار المسيطرة على معظم الشعب السوري ونخبته السياسية والفكرية هي الرفض المطلق لتقسيم بلاد الشام كما جاء في اتفاق سايس بيكو، ولم تُثبت الكتابات السياسية وقتها أي اعتراف بقبولها، ليس فقط كراريس الأحزاب والتجمعات المحسوبة على التيارات القومية سواء السورية منها أم العربية، إنما حتى الأحزاب والتجمعات غير القومية كالأخوان المسلمين الذين كانوا يؤمنون بالدولة التي تجمع المسلمين ، أو الحزب الشيوعي الذي كان يؤمن بالأممية، وأقلها كان يوجد حزب شيوعي واحد يشمل لبنان وسورية، وحزبين بقيادة قومية واحدة للأقطار العربية جمعاء، هما البعث والقوميين العرب، وحزب بقيادة واحدة للهلال الخصيب، بلاد الشام إضافة للعراق ونجمة قبرص هو الحزب القومي السوري،
وهكذا وبصرف النظر عن الظروف الناشئة وقتذاك كان حلم الوحدة العربية في عقل وضمير معظم السوريين، فمن أجلها تقبَل شبابهم ما سُمي بالثورة العربية على يد الشريف حسين، والانفصال عن الدولة العثمانية التي تحولت إلى دولة قومية مع سقوط الخلافة، بل تطوع كثير منهم في جيش الشريف، وقاتلوا معه ثم لم يعترفوا حتى بالحدود مع العراق فشاركوا بثورة رشيد عالي الكيلاني العراقية ضد الاحتلال الإنكليزي، وبعدها بعقود تجمعوا في جيش الانقاذ لمنع الصهاينة من اغتصاب فلسطين عام 1948، وهكذا كان قيام الوحدة بعد أقل من عشر سنوات من إعلان دولة اسرائيل…رداً عليها وإنقاذاً للفلسطينيين منها،
تلك كانت الظروف العربية والدولية- باختصار-وموقف غالبية الشعب السوري الذي كان يرى نفسه في عين الخطر، فحلف تركيا وبغداد الغربي الأمريكي يهدده من الشمال واسرائيل من الجنوب، وفشل الدولة القطرية في درء الأخطار يزيدهم قناعة بضرورة الوحدة العربية،
شجع الأمر ظهور رئيسٍ عربي يحمل كاريزما القيادة التي أهلته للخروج بنوع من الانتصار بعد العدوان الثلاثي على مصر، والتعاطف المليوني العربي معه ضد ذلك العدوان، وكانت علائم الهرم قد بدأت تتسرب من الأحزاب المختلفة التي كانت تقود الحراك الاجتماعي والسياسي لسورية، والتي هرعت قبل غيرها لركوب موجة الوحدة وقبلت حل نفسها من أجلها، مع معرفتها التامة بالنظام العسكري الفردي المصري، تلك الظروف جميعها كانت تحضن ولادة أول وحدة عربية كبدء الرد على اللعب الاستعماري الامبريالي العالمي بالمصائر العربية. ولا سيما احتلال فلسطين.
إن الأهمية المركزية لتلك الوحدة تستدعي اليوم ليس معرفة ما حدث فقط وإنما وعي تلك الفترة موضوعياً لاستشراف ما هو ممكن مستقبلاً من أجل تمكين مصالح هذه المنطقة من التحقق في ظل النظام العالمي الجديد نظام الأقطاب المتعددة، نظام ما يعد العولمة، علنا نستطيع إنقاذ أنفسنا من العودة للعصر الحجري كما يهددنا ويعمل جاهداً على تحقيقه هذا النظام الوليد.
أما فشل الوحدة فله أسباب متعددة، وإذا وضعنا جانباً مسألة الخارج الذي لم يكن يُخفي عداءه لها ولا عمله الدؤوب على إنهائها، فإن أهم الأسباب المرتبطة بمشكلات ولادتها ثلاثة:
أولاها: اختلاف البيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية للبلدين نتيجة اختلاف النمط الاقتصادي والتاريخ الحديث لكلٍ منهما، ففي سورية كان الحراك السياسي للأحزاب على أشده بالرغم من اختلاف تلك الأحزاب لدرجة عدائية أحيانا وتنافسية أحيانا أخرى، وكان النظام البرلماني يكلل ذاك الحراك بجو ديموقراطي مقبول، بينما كان الحراك المصري في تراجع واضح نتيجة الحكم العسكري الصارم الذي ألغى الأحزاب واستبدلها بتنظيم واحد تابع لسلطته، وكانت النخبة السياسية والفكرية المصرية- على عراقتها- ضائعة بين الأفكار الليبرالية الغربية والأفكار الشعبوية السلطوية الجديدة،
وثانيها: البعد الجغرافي، الذي أوجد مشكلة جيوسياسية، في طبيعة الأخطار التي كانت تهدد كلاً من البلدين، فبينما يشعر الشعب السوري بالخطر الداهم فوق رأسه والجيوش المعادية على حدوده، وعجزه عن المقاومة منفرداً بعد ضياع فلسطين، كان الشعب المصري بعد خلاصه من تأميم قناة السويس وانتصاره النسبي على العدوان الثلاثي يشعر باطمئنان أكبر.
وثالثها: اختلاف نمط الإنتاج، فقد كانت مصر تتجه للصناعة المتوسطة والثقيلة، وتعاني من فروق طبقية واسعة، كانت سورية تتجه للصناعة الخفيفة وتطوير الزراعة والتعليم بحيث تضمن مساحة واسعة للبورجوازية الصغيرة الصاعدة في ذلك الوقت.
تلك الفروق كان على من تولى السلطة في البلدين إدراكها ومعالجتها بنوع من الإدارة مختلف عما حدث، كأن تُترك الأوضاع السورية على حالها، أحزاباً وحراكاً، وتطوراً اقتصادياً ونظاماً برلمانياً، ويجري التنسيق بالسياسة الخارجية والدفاعية وفتح الحدود والتكامل الاقتصادي كما يحدث اليوم مثلاً في الاتحاد الأوربي أو على الأكثر في الكونفيدريات الحديثة، والحقيقة الموضوعية أن تلك الأمور كانت من مسؤولية الطرفين السوري والمصري، وليست مسؤولية الطرف المصري وحده.
إن فشل الدولة القطرية اليوم في حماية حدودها، وفي تنمية أوضاع شعوبها، والسماح لأحد العسكريين بالغلبة والوصول إلى الإمساك بسلطة البلاد، مع أسوأ النظم الديكتاتورية، التي استجلبت احتلالاً جديداً، كل ذلك يخلق ضرورة قُصوى لنوع من أنواع الوحدة أقلها التنسيق بين الدول العربية والإقليمية علَها تسترد قرارها وتحجز مكاناً لها في هذا العالم الذي لا يعترف إلا بالقوة،
إن ظاهرةً غير صحية في واقع الأدب السياسي اليوم مرور ذكرى الوحدة وقلة من الكتاب يكتبون حولها، وأكثر ما تذكرته تلك القلة، هو مسألة الديكتاتورية وأثرها على الانفصال، وإذا كانت تلك القلة لا تعدم الاتجاه الصحيح في نقدها للنظام الديكتاتوري الناصري فإنها لاشك لا تُوفق بتشبيهها عبد الناصر بحافظ الأسد أو بالسيسي ، إن الفروق بين الاثنين واضح تماماً، وغض النظر عنه وتدليسه ليس في مصلحة النهوض العربي،، فمن ملأ خزائنه وبنوك العالم من نهبه لبلاده وعبادها، لا يُشبه من مات ولا يملك أكثر من طعام يومه، ومن فقد الإحساس بالانتماء لوطن وشعب وكان همه الأول والأخير كرسي الحكم وتحويل البلاد إلى مملكة وراثية على شاكلة الممالك القبلية، ولديه مطلق الاستعداد لإحراق البلد بما ومن فيه من أجل أهدافه تلك، بل افتعال تمزيق المجتمع بطائفية نشطة، وتدمير الجيش الوطني، والتعليم، والاقتصاد، والإفقار المقصود لأكثرية الشعب، ليس كمن كان همه بناء قوة تواجه العدوان الخارجي وبناء صناعة ثقيلة وتشجيع الحوار بين المذاهب درءاً للطائفية، ذلك يملك الإحساس بالانتماء للوطن والآخر انتماؤه لذاته لا غير…والسؤال المشروع هنا: هل قدم أي نظام عربي لشعبه أو هل قدمت الأحزاب الإقليمية أو القومية أو الأممية أو الدينية نماذج أفضل مما كان أيام الوحدة؟؟
إن الموقف ضد الديكتاتورية على صحته وأهميته، والذي أصبح مع تناميه وتعقده قضية حياة أو موت، لا يجوز أن يُصيبنا بعمى الألوان، فيتمجد الانفصال التقدمي الطائفي منه بخاصة، ويُروج للمواقف التفتيتية، تحت يافطة ديكتاتورية عبد الناصر أيام الوحدة، إن القبول بالتقسيم الاستعماري لم يعنِ في يومٍ من الأيام إلا تفتيتاً للمفتت، ونمواً لسرطانات الإمارات لا ينتهي إلا بموات الجميع،
آمل أن تعي الأجيال القادمة في المنطقة كلها وليست الأجيال العربية وحدها، أن لا تنمية أو تطوراً أو استقلال قرار، دون كتلة وازنة قادرة على التنسيق على أقل تقدير، تسيطر على عوامل النزاع الذي يُذكي ناره نظام المافيات العالمية الجديد بينها، عليها أن تعي أنها لن تستطيع تحقيق أيٍ من الطموحات السابقة من خلال التفتت والصراعات الجانبية، وأن طريقها الطبيعي هو نوع من أنواع التنسيق أو الاتحاد..بغير ذلك سيتآكل تاريخها وحضارتها ومستقبلها، وتعبث الرياح بما تبقى من مزقها المتناثرة. وسيستمر أسوأ أنواع الديكتاتوريات الفاسدة بالتحكم بها. إن ظهور المفتتات الجديدة لن يأتي إلا بطغاة جدد يفتحون الأبواب على مصاريعها لغزاة القرن الواحد والعشرين، ذلك ما يحدثنا التاريخ به وما تلمسه الثورة السورية، جنبكم الله مآسي ما تعانيه.
الأخوان المسلمين (وكذلك الندوي الهندي والمودودي الباكستاني)، لم يكونوا مؤيدين لتفكك الدولة العثمانية، بل كانوا يدعون إلى إعادة الخلافة والبقاء تحت مظلتها.
بمعنى آخر فقد كان الإسلام السياسي يريد بقائه في الدولة الواحدة، مع معارضتهم لنظام أتاتورك (القومي الطوراني والعلماني).
وكانوا في الوقت ذاته ضد فكرة القومية القطرية (سواء العربية أو الهندية).
وهذه الفكرة المبدئية التي وقف كل من الغرب الإستعماري مع أنصار القومية القطرية (التركية والعربية) جنباً إلى جنب في محاربتها بذريعة أنهم يحاربون الرجعية.