لم تكد تُنشر صورة من أمام أحد المخابز في العاصمة السورية دمشق على وسائل التواصل الاجتماعي منذ أيام عدة، تظهر مئات الأشخاص الواقفين لساعات في طوابير طويلة للحصول على كميات محدودة من الخبز، حتى فُتح الباب مجدداً أمام تساؤلات تتناول مآلات النظام السوري التي تعصف به مجموعة من الأزمات الاقتصادية الخانقة، بعد سريان قانون “قيصر” الأميركي الذي ضيّق الخناق أكثر على هذا النظام المتهالك الذي أرهقته العقوبات الدولية منذ عام 2011. ولم تتوقف أزمات النظام عند حدود رغيف الخبز، بل هناك أزمة بنزين خانقة في المدن التي تقع تحت سيطرة النظام، حيث دأب ناشطون في الفترة الأخيرة على نشر صور على مواقع التواصل الاجتماعي لطوابير السيارات أمام محطات الوقود، خصوصاً في العاصمة دمشق.
وتشي مقاطع فيديو نشرها ناشطون أخيراً تتضمن لقاءات مع منتظرين أمام الأفران، بأنّ السوريين الخاضعين للنظام بدأوا يرفعون أصواتهم مطالبين الأخير بحلول “عاجلة”، ومستنكرين ما وصلت إليه الحالة المعيشية، في ظلّ ارتفاع مهول في أسعار المواد الضرورية، خصوصاً الغذائية والدوائية، فضلاً عن الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي في كل المناطق الخاضعة للنظام. وهذه الأزمات المتصاعدة ليست الأولى من نوعها التي يعاني من تبعاتها السوريون الخاضعون للنظام، بل سبق أن حدثت أزمات مماثلة لم تغيّر من سلوك الأخير أو تدفعه إلى تسهيل مهام الأمم المتحدة في إيجاد حلول للأزمة السورية وفق قرارات الشرعية الدولية. ولكن هذه المرة الأمر مختلف كلياً، مع دخول قانون قيصر في يوليو/تموز الفائت حيّز التطبيق، والذي فرض عقوبات مشددة على شخصيات أمنية وعسكرية وسياسية ومؤسسات وشركات تابعة للنظام أو لأشخاص مرتبطين به. وينص القانون كذلك على فرض عقوبات على الأجانب المتورطين في بعض المعاملات المالية أو التقنية لمؤسسات حكومة النظام السوري، والمتعاقدين العسكريين والمرتزقة الذين يحاربون بالنيابة عن النظام السوري أو روسيا أو إيران أو أي شخص فُرضت عليه العقوبات الخاصة بسورية من قبل. كما ينصّ على فرض عقوبات على كل من يقدّم الدعم المالي أو التقني أو المعلومات التي تساعد على إصلاح أو توسعة الإنتاج المحلي لسورية من الغاز والنفط أو مشتقاته، ومن يقدّم الطائرات أو قطعها أو الخدمات المرتبطة بالطيران لأهداف عسكرية في سورية. و”قيصر” أو “سيزر”، هو الاسم الحركي لعسكري ومصور سابق في الطبابة الشرعية في جهاز الشرطة العسكرية للنظام، جمع حوالي 55 ألف صورة لـ11 ألف معتقل سوري قضوا تحت التعذيب، وذلك حتى منتصف 2013، قبل أن يخرج من البلاد وينشر هذه الصور في وسائل الإعلام.
ويسيطر النظام فعلياً على نصف مساحة سورية التي تضم المدن الكبرى في البلاد، وفي مقدمتها العاصمة دمشق، وحلب كبرى مدن الشمال السوري، إضافة إلى مدينتي حماة وحمص في وسط البلاد، واللاذقية وطرطوس على الساحل في غربي سورية، ودرعا والسويداء والقنيطرة في الجنوب، ومدينة دير الزور في الشرق. وليست هناك إحصائيات رسمية لعدد السوريين الخاضعين لسيطرة النظام، ولكن هناك أكثر من عشرة ملايين يعيشون تحت وطأة أزمات معيشية غير مسبوقة في تاريخ البلاد، مع تدني قيمة الليرة السورية أمام الدولار الأميركي، وهو ما أدى إلى ارتفاع في الأسعار، تصفه مصادر محلية بـ”الجنوني”.
ولعب خروج منطقة شرقي نهر الفرات عن سيطرة النظام دوراً رئيسياً في تعميق الأزمات الاقتصادية، فهي السلة الرئيسية للغذاء في سورية، حيث يتمركز فيها أغلب إنتاج البلاد من القمح، إضافة إلى المحاصيل الاستراتيجية الأخرى مثل القطن، فضلاً عن الثروة الحيوانية والمائية. وخسر النظام أيضاً الطاقة الكهربائية التي تنتجها ثلاثة سدود على نهر الفرات هي: سد تشرين في ريف حلب الشمالي الشرقي، وسدا الفرات و(البعث سابقاً) في ريف الرقة الغربي. كما فقد النظام الثروة النفطية المتمركزة في شرقي الفرات، خصوصاً في ريفي الحسكة ودير الزور، وهو ما ضاعف الأعباء الاقتصادية عليه، والتي تتجلى في أزمة البنزين، في ظلّ عدم قدرته على استيراد كميات تكفي الاستهلاك المحلي.
في السياق، قال الخبير الزراعي إبراهيم مسلم، في حديث مع “العربي الجديد”، إنّ “إنتاج سورية من القمح في عام 2011، كان أكثر من 4 ملايين طن، وقد انخفض إلى النصف في عام 2020″، مشيراً إلى أنّ “80 في المائة من إنتاج سورية من القمح، هو في منطقة شرقي نهر الفرات”. وأضاف: “تحت الضغط الروسي، وبسبب عدم وجود أسواق تصريف، تضطرّ الإدارة الذاتية في الشمال الشرقي من سورية إلى تزويد النظام ببعض حاجته من القمح”.
من جانبه، قال الباحث في مركز “جسور” للدراسات، وائل علوان، في حديث مع “العربي الجديد”، إنّ اقتصاد النظام السوري “في حالة انهيار”. وأعرب عن اعتقاده بأنّ “هناك ثلاثة أسباب للاستنزاف الاقتصادي المتصاعد؛ الأول هو دمار البنى التحتية في سورية بسبب الحرب التي شنها بشار الأسد على السوريين منذ 8 سنوات، إضافة إلى فقدانه المصادر الرئيسية من النفط والغاز، وارتهان ما تبقى لديه من الثروات مثل الفوسفات للجانب الروسي وإيران”. السبب الثاني، وفق علوان، هو “العقوبات الاقتصادية المفروضة على النظام والتي ازدادت بعد سريان مفعول قانون قيصر، وهو ما أدى إلى عزلة كاملة لهذا النظام”. أمّا السبب الثالث، بحسب المتحدث نفسه، فهو “توقف الدعم الخارجي الذي كان يسعف النظام في السنوات الأولى من الحرب”، مشيراً إلى أنّ “الدعم الذي كانت تقدمه روسيا وإيران توقف في عام 2019، بسبب إنفاق الدولتين المباشر على القوى والمليشيات المنتشرة في سورية، أي أنّ الدعم لم يعد يذهب إلى وزارة الدفاع التابعة للنظام كما كان سابقاً”. وأوضح علوان أنه إضافة إلى هذه الأسباب “لعبت الأوضاع المتدهورة في لبنان دوراً في الحالة الاقتصادية الحادة التي يمرّ بها نظام بشار الأسد”.
ولكن علوان رأى أنّ التدهور الاقتصادي “ليس كافياً لإسقاط نظام الأسد”، موضحاً أنّ “الاقتصاد عامل ضغط لا أكثر ولا أقل. فقانون قيصر جاء للضغط على النظام وحلفائه للانخراط في العملية التفاوضية تحت رعاية الأمم المتحدة”. وأشار علوان إلى أنّ “نظام بشار الأسد يعتمد للبقاء على القبضة الأمنية الواسعة والمشددة، والتي تمنع أي تداعيات للأزمة الاقتصادية من أن ترتدّ سلباً عليه”. وأضاف: “لا يوجد أي احتمال لظهور ما يسمى بثورة الجياع أو فوضى الضائقة المالية وفوضى البطالة، لأنّ القبضة الأمنية والإرهاب الذي تمارسه الأجهزة الأمنية يحول دون ذلك”.
وأوضح علوان أنّ “الدور الخارجي لا يدفع باتجاه سقوط هذا النظام، إذ لا تزال روسيا وإيران وحزب الله يساعدونه على البقاء في السلطة”، مضيفاً: “ربما هذه الأزمة الاقتصادية غير كافية لإسقاط بشار الأسد ونظامه، ولكنها ستؤثر بشكل كامل على فعاليته، فهو اليوم لم يعد صاحب القرار في سورية، وهناك تراجع في الأداء الوظيفي لمؤسسات الدولة، أي يمكن القول إنه لم يعد هناك نظام حاكم في مناطق سيطرة بشار الأسد، إنما أجهزة أمنية تحكم بلداً مدمراً ومجففاً من كل شيء”.
ومتفقاً إلى حد كبير مع علوان، رأى الكاتب والباحث السياسي رضوان زيادة، في حديث مع “العربي الجديد”، أنّ الأزمات الاقتصادية “لا يمكن أن تسقط نظام بشار الأسد”، مضيفاً: “هذا نظام نازي لا يفكر في الآثار الاجتماعية أو الاقتصادية على مجتمعه”. وأشار زيادة إلى أنّ “ما يهم بشار الأسد هو البقاء في السلطة فقط”، معرباً عن اعتقاده بأنّ “الأزمات المتلاحقة، خصوصاً أزمة رغيف الخبز، لن تحدث أي فرق في تصرفات النظام وسلوكه”.
المصدر: العربي الجديد