
كانت الصين المحطة التي حط بها أخيراً رجال الدبلوماسية السورية، التي شهدت على ما يُقارب العام حركة اتسمت بالحيوية والشمولية، نظراً إلى كثافة أنشطتها وتوزّعها على نطاق جغرافي واسع، شمل أركان الأرض الأربعة، ونطاق سياسي كان أكثر اتساعاً عبر مروره على مراكز القرار العالمية من دون استثناء.
كان لا بد من بكين ولو طال السفر، وبرغم الحواجز النفسية لدى الطرفين؛ فمشروع سورية في إعادة إعمار البنى التحتية، وبأسعار تنافسية وشروط مناسبة، لن تستطيع سوى الصين إنجازه، كما أن الصين تبقى خياراً استراتيجيا مهماً للتزود بالتكنولوجيا، التي تحتاجها سورية بشكل ملح في المرحلة المقبلة للحاق بركب التطور العالمي، والتي لن تحصل عليها من مصادر غربية نتيجة السياسات الحذرة التي يتبعها الغرب في هذا المجال.
بيد أن زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني تفتح الباب أمام أسئلة كثيرة، ولا سيما أن الزيارة جاءت بعد أيام قليلة من زيارة الرئيس أحمد الشرع للولايات المتحدة، والدعم الواسع الذي حصل عليه من إدارة الرئيس دونالد ترامب، والذي أرجعته تحليلات كثيرة إلى خطة أميركية تهدف إلى احتواء سورية وسحبها بعيداً عن النفوذين الصيني والروسي، فهل ما تقوم به إدارة الشرع مبادرة مستقلة أم هو نتيجة تشاور وتنسيق مع إدارة ترامب؟
مشروع سورية في إعادة إعمار البنى التحتية، وبأسعار تنافسية وشروط مناسبة، لن تستطيع سوى الصين إنجازه
من المعلوم أن حكومة تمر بمرحلة انتقالية، مثل حكومة الشرع، وتسعى إلى تجاوز مخاطر بالجملة تواجهها، داخلياً وإقليمياً، تكون مضطرّة لقياس تحركاتها بالمسطرة، ذلك أن أي خطوة زائدة قد تفتح عليها جبهات خطرة، لا سيما إذا كان هناك طرف، مثل الولايات المتحدة، لديه أوراق قوّة كثيرة ومؤثرة، ويستطيع بالفعل تحريك جبهات أو غض النظر عن أطراف تتربص بإدارة الشرع، يصبح اللعب معه مغامرة نتائجها وخيمة وقاتلة.
تدرك إدارة الشرع موقع واشنطن في النظام الدولي الحالي، وتعرف حجم تأثيره في السياسات الدولية قاطبة، كما تعلم أن جميع علاقاتها مع دول العالم لا تساوي أي أهمية ما لم تكن واشنطن راضيه عنها، بل إنها تسعى منذ وصولها إلى السلطة لإرضاء واشنطن بأي ثمن، وتطرق أبواب القرار الإقليمي التي لها دالة على إدارة ترامب، وتسعى في قراراتها وسياساتها إلى لفت النظر الأميركي، وهو ما أدركته إدارة ترامب جيداً، وتفاعلت إيجابياً مع إدارة الشرع.
أغلب تحرّكات إدارة الشرع تتم بالتنسيق مع الإدارة الأميركية، عبر مندوبها توماس برّاك، الذي يُطلق عليه بعضهم تسمية “المندوب السامي”
هذا يعني أن أغلب تحرّكات إدارة الشرع تتم بالتنسيق مع الإدارة الأميركية، عبر مندوبها توماس برّاك، الذي يُطلق عليه بعضهم تسمية “المندوب السامي”، بل أكثر من ذلك، تؤشر خريطة التحرك السوري إلى وجود برنامج أميركي محدّد يوزّع المهام على الفاعلين الإقليميين والدوليين، لينخرطوا ضمن مجالات معينة في الشأن السوري، ووفق هذه الخطة، أو الخريطة، يمكن تسجيل الآتي:
– تعزيز الدور الروسي في جنوب سورية، ضامناً لإسرائيل التي ثبت أنها تثق بالروسي على حدودها لمنع أي تمدّد للأتراك في مناطق الجنوب، التي تعتبرها إسرائيل جزءاً مهماً من أمنها، ومن ثم لم تكن زيارة الوفد الروسي القنيطرة وتفقده النقاط التي وجدت فيها القوات الروسية قبل سقوط نظام الأسد، نتيجة توافق بين دمشق وموسكو وحسب، بل هي جاءت بطلب من إسرائيل وضغط على أميركا، وربما شرطاً أساسياً لإنجاح مشروع ترامب في توقيع اتفاق أمني مع سورية.
– تلزيم تركيا شمال شرقي سورية، من الواضح أن هناك تقدماً حصل في هذا السياق في التفاهم بين أنقرة وواشنطن، وكانت اجتماعات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان مع نظيره الأميركي ماركو روبيو وأسعد الشيباني على هامش زيارة الشرع مؤشراً إلى دعم واشنطن للتصور التركي للحل في مناطق شرق سورية، بل وتسليم أنقرة هذا الملف لإدارته، بشرط عدم اللجوء إلى القوّة وتجنب التورط في حرب من شأنها أن تعقّد المشهد في شرق سورية وتنعكس تداعياتها على سورية والعلاقات مع واشنطن، نظراً لوجود مراكز تأثير أميركية متعاطفة مع الكرد.
– تسليم ملف السويداء للأردن لإدارته وتطبيق خريطة الطريق، التي كانت واشنطن أحد أطرافها عبر موفدها إلى سورية توم برّاك، ومع أنّ واشنطن لا تولي هذا الأمر أهمية خاصة، كما هي الحال مع الكرد، إلا أنها تتابع الأمر من باب سد الذرائع على أي محاولة لزعزعة الاستقرار وتقسيم البلاد نزولاً عند رغبة عربية ملحة في هذا الصدد.
تبدو مفهومة زيارة الشيباني الصين، فهي بنظر “المايسترو” الأميركي لن تؤثر على مصالح واشنطن وحلفائها
– الضغط على إسرائيل لتخفيف استهدافاتها في سورية، وتحديد هامش حركتها ضمن الشريط الحدودي في الجنوب دون التوسّع أكثر صوب دمشق، إلى حين التوصل إلى اتفاق أمني، من دون الطلب منها الانسحاب الفوري مع الأخذ في الاعتبار أميركياً حق إسرائيل بأن تكون لديها أوراق ضغط للحصول على اتفاق أمني مناسب.
في هذا السياق، تبدو مفهومة زيارة الشيباني الصين، فهي بنظر “المايسترو” الأميركي لن تؤثر على مصالح واشنطن وحلفائها، ما دام ليس لديهم ما يقدمونه لسورية في مجال البنية التحتية والإعمار، بل على العكس من الممكن تحويل الوجود الصيني إلى قيمة مُضافة نتيجة لما ستوفره الصين من بنى ستساعد على تنفيذ مشاريع تدخل في إطار المصلحة الأميركية.
هل يعني ذلك أن سورية خرجت من زمن التبعية الروسية والإيرانية لتدخل عصر التبعية الأميركية؟ هذا سؤال ربما تتأجل إجابته إلى حين توضّح صورة المشهد بشكل جلي، واتضاح ما إذا كانت المسألة هي إدارة مرحلة أم خيار استراتيجي لدى دمشق.
المصدر: العربي الجديد






