سوريا على أعتاب مرحلة الأمان الدبلوماسي

علي بكر الحسيني

في خطوةٍ وُصفت بأنها الأكثر دلالة منذ عقود، أقرّ مجلس الأمن الدولي مشروع القرار الذي قدّمته الولايات المتحدة الأمريكية لرفع العقوبات عن الرئيس أحمد الشرع ووزير داخليته أنس خطاب، بموافقة جميع الدول الأعضاء وامتناع الصين عن التصويت من دون استخدام حق النقض.
هذا التصويت التاريخي مهّد الطريق لزيارة الرئيس الشرع المرتقبة إلى واشنطن الاثنين القادم، التي ستُعدّ ـ في حال تمت كما هو مقرر ـ أول زيارة لرئيس سوري إلى البيت الأبيض منذ استقلال البلاد عام 1946، بما تحمله من رمزية سياسية غير مسبوقة في العلاقات السورية–الأمريكية.

لا يمكن النظر إلى القرار الأممي بمعزل عن التحوّل الذي تشهده السياسة السورية منذ تسلّم الشرع مهام الرئاسة. فالقرار الدولي لم يكن مجرّد إشارة حسن نية من الغرب، بل اعترافاً صريحاً بأن دمشق بدأت تنتقل من موقع الأزمة إلى موقع الدولة التي يُحسب حسابها في معادلات المنطقة. لقد أسّست الدبلوماسية الهادئة التي انتهجها الرئيس الشرع لمسارٍ جديد يتجاوز منطق التحدي والاصطفاف، ليُكرّس مبدأ الاستقلال المتوازن الذي يعيد لسوريا موقعها الطبيعي كدولةٍ فاعلة لا تابعة.

لقد اختار المجتمع الدولي، لأول مرة منذ سنوات طويلة، أن يتعامل مع دمشق بلغة الواقعية لا العقوبات. فالموقف الأمريكي في مجلس الأمن، رغم ما يحمل من رسائل سياسية، يعكس في جوهره إدراكاً متزايداً بأن سوريا الجديدة تُدار بعقل الدولة لا بعقل السلطة، وأنها باتت شريكاً ضرورياً في أي مقاربة للأمن الإقليمي. أما امتناع الصين عن التصويت دون اللجوء إلى الفيتو، فقد أضفى على القرار بعداً توافقياً نادراً، يُحسب لها بقدر ما يُحسب للمناخ الجديد الذي نجحت دمشق في خلقه على الساحة الدولية.

تاريخياً، كانت العلاقة بين سوريا والولايات المتحدة انعكاساً دقيقاً لتقلبات الإقليم. فمنذ استقلال سوريا عام 1946، لم يدخل أي رئيس سوري بوابة البيت الأبيض. وظلّ التباعد بين العاصمتين يتراوح بين القطيعة والتوتر، حتى جاءت هذه اللحظة التي يُعاد فيها فتح القنوات من جديد. فالزيارة المقرّرة للرئيس الشرع لا تمثّل مجرد لقاءٍ بروتوكولي، بل إعلاناً عن كسر تقليد العزلة، وعودة سوريا إلى التاريخ من بوابة الدبلوماسية الهادئة لا الشعارات الصاخبة.

الأهمية الاستثنائية لهذه الزيارة لا تنحصر في بعدها الخارجي، بل تمتدّ إلى الداخل السوري ذاته. فالدولة تسعى منذ مطلع هذا العام إلى تثبيت الاستقرار وإعادة توحيد مؤسساتها الوطنية، بدءًا من الجنوب حيث تراجعت المظاهر المسلحة، مروراً بالشمال الشرقي حيث تتقدّم الدولة لاستعادة سلطتها، وصولاً إلى إعادة هيكلة الاقتصاد بما يضمن العدالة الاجتماعية كقيمة دستورية ومبدأ للحكم. فكلّ انفتاح خارجي لا يكتمل دون قاعدة داخلية متينة، والعالم لم يعد يقيس قوة الدول بخطاباتها، بل بقدرتها على إدارة شؤونها بفعالية ومسؤولية.

لقد مثّل رفع العقوبات عن الرئيس الشرع ووزير داخليته إشارة عملية إلى أن المجتمع الدولي بات مستعداً للتعامل مع سوريا بلغة الاحترام، لا الوصاية. إنها المرة الأولى منذ سنواتٍ طويلة يُعتمد فيها نهج “الفرصة السياسية” بدل “العقوبة الجماعية”. وهذا التحوّل لم يكن ليتحقق لولا السياسة الهادئة التي اتبعتها دمشق في الأشهر الماضية، والتي جمعت بين الصلابة في الموقف والمرونة في الأسلوب، فاستطاعت أن تُعيد تعريف نفسها في نظر العالم لا كملفٍ أمني، بل كدولةٍ تسعى إلى بناء سلامٍ يحفظ الكرامة والسيادة معاً.

أما على صعيد المبدأ، فإنّ ثوابت سوريا الوطنية تبقى غير قابلة للمساومة، وفي مقدمتها قضية الجولان العربي السوري المحتلّ، التي تظلّ حقاً قانونياً لا يسقط بالتقادم. ومن هنا فإنّ زيارة الرئيس الشرع إلى واشنطن لا تعني خروجاً عن الخط الوطني، بل تأكيداً على أن السلام لا يكون سلاماً إلا إذا حفظ الكرامة، ولا تفاوض دون سيادة. إنها محاولة لفتح مساراتٍ سياسية جديدة تُعيد الحقوق عبر أدوات القانون الدولي، لا عبر منطق الشعارات الذي أنهك الأجيال.

إنّ التطور الذي شهده مجلس الأمن يشكّل بداية ما يمكن وصفه بـ مرحلة الأمان الدبلوماسي، أي الانتقال من زمن الحصار والعقوبات إلى زمن الحوار والتوازن. فبعد أكثر من عقدٍ من العزلة، تبدأ سوريا بالخروج من العتمة السياسية إلى الضوء الدولي، بخطواتٍ محسوبة لا تثير القلق ولا تُفرّط بالثوابت. وما كان بالأمس ضرباً من الخيال، صار اليوم واقعاً سياسياً يتعامل معه العالم بمنطق الشراكة لا العداء.

ويبقى الرهان الأكبر على أن تُترجم هذه الانفراجة السياسية إلى تحسّنٍ ملموس في حياة السوريين: تخفيف القيود الاقتصادية، فتح الأسواق، استعادة الأموال المجمدة، وتحريك عجلة الإعمار. فنجاح السياسة الخارجية يُقاس بما تنعكس به على الداخل، لا بما يُكتب عنها في البيانات. ويبدو أن القيادة السورية تُدرك أن الرهان الحقيقي يبدأ الآن، بعد أن باتت الطريق مفتوحة لاستعادة الدور والمكانة، شرط أن يُبنى كل ذلك على قاعدة دولةٍ قوية وعادلة، جيشها وطني، واقتصادها منتج، ومؤسساتها شفافة.

الزيارة المنتظرة، إن تمت كما هو مخطط لها، ستشكّل منعطفاً حقيقياً في التاريخ السياسي السوري، لا لأنها الأولى من نوعها منذ الاستقلال، بل لأنها تأتي في لحظةٍ يعاد فيها تعريف موقع سوريا في العالم. فدمشق تدخل أبواب السياسة الدولية من موقع الثقة لا الخضوع، حاملةً مشروع دولةٍ تريد أن تتحدث بصوتها المستقل، وأن تفتح صفحةً جديدة مع العالم دون أن تطوي صفحاتها الوطنية.

إنّ واشنطن تمهّد الطريق، ودمشق تستعد لعبوره بثقة. وما بين القرار الأممي والزيارة المرتقبة، تتشكل ملامح عهدٍ جديد في السياسة السورية، عنوانه: عقل الدولة، وكرامة السيادة، وشجاعة المبادرة.
فالبلاد التي عانت طويلاً من الحصار والاقتتال، بدأت أخيراً تقترب من لحظة التوازن التي تُعيد إليها مكانتها التي استحقّتها تاريخياً بين الأمم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى