لعنة الجيل الثاني السوداني

عمر العمر

الجيل الثاني (إن صحّ التصنيف) من قيادات التيار الإسلامي في السودان “يتحمّل هدر رؤوس أموالنا البشرية والمالية والسياسية”. أثارت هذه الجملة الواردة في مقالة سابقة جدلاً مع ثلّة من الأصدقاء، ما حرّضني على محاولة بيان ما قصدتُ. ساقني هذا التحريض إلى فرضية ربّما تثير جدلاً أوسع، فكثيراً ما رجمنا أحزابنا بالقصور الفكري والسياسي، فحمّلناها أوزار قعودنا الوطني. لا تحمّل فرضيتي المسؤولية للجيل الثاني على مستوى التيار الإسلامي فحسب، بل كل الأحزاب. لا تستند النظرة إلى التقسيم البيولوجي أو تباين الرؤى فقط، كما لا تقوم على مفهوم الفجوة في سياق مفهوم صراع الأجيال. أقرب إلى التوصيف ربّما هو تمايزُ ديناميكية إدارة اللعبة السياسية بواسطة القيادات الحزبية المتتالية، ففي كل حزبٍ يوجد جيل من الآباء المؤسّسين، أو القيادات التاريخية، ثم الجيل الأول فالجيل الثاني ثم الثالث… إلخ. ما قصدت تبرئة جيل المؤسّسين، لكن ربّما حمّلناهم من الآثام فوق ما اقترفوا من أخطاء. كما لا أودّ الدفاع عن الجيل الأول ولا إدانة الجيل الثاني. لعلّ الفكرة تفتح الجدل في شأن أزماتنا السياسية المركّبة عبر كُوّة مغايرة.
***
وفق التطوّر العلمي، والتعمّق الثقافي، والتراكم الاجتماعي، قد يرى أهل السوسيولوجيا حظوظ الأبناء أفضل من الآباء لجهة الأداء العام والإنجاز الوطني، كما في حظوظ الرفاه. ولكن على مستوى القيادات السياسية المتعاقبة يصعب رسم فواصل حادّة بين الأجيال كما هو في التسلسل العائلي. لذلك، ما عنيت التقسيم حسب سنّ العمر بقدر الإشارة إلى التباين في المقاربة الأدائية في نطاق تعاقب القيادات الحزبية. ففي المشهد العام اضطلع جيل الآباء ببناء هياكل حزبية وفق مفاهيم عامة أو أيديولوجيات محدّدة، كما نسجوا قدوات من الوقار الوطني. الجيل الأول نهض بإرساء البنى التنظيمية وتوسيع القواعد الجماهيرية. الأداء عند هؤلاء اتسم بالصبر والأناة والشفافية، وكأنّما ضجر الجيل الثاني من الصبر أو تعجّل تحقيق أهدافه، فركن إلى كسر أطر الصبر حدّ الذهاب إلى المغامرة. هي مغامرة ليست محسوبة، أو صبغها كثير من التهوّر حدّ العنف. كيفما جاءت، فقد شابها غير قليل من الأنانية حدّ الاحتكار، كما نأت عن الشفافية إذ جنحت إلى الفساد.
مذكرة العشرة كانت نقطة مفصلية أفضت إلى هيمنة جيل النكبات على الحزب والدولة برمتها
***
لم يكن المؤسّسون والجيل الأول ملائكةً معصومين؛ ففي أعمالهم كثير من خطايا العاجزين. كما لم يكن الجيل الثاني شياطين؛ ففيما فعلوا العديد من أفعال المثابرين المخلّصين. غير أن أزماتٍ عديدة تكالبت بين أيديهم. ربّما تعرّض التيار الإسلامي أكثر من غيره لـ”صراع الأجيال”، فالرؤى تباينت بين المؤسّسين والجيل الأول تجاه العمل العام. محور التباين حول التحوّل من التبشير الدعوي إلى العمل السياسي وسط الجماهير. ثم ذهب الجيل الثاني بالعمل السياسي إلى احتكار الدولة. تحميل كل رزايا وأرزاء، محن ومصائب نظام الإنقاذ (من دون تفاصيل) لهذا الجيل لا يجافي الحقيقة أو العدل أو المنطق. هو جيل الخيبات والنكبات أكثر من غيره. ضمن هذه البلايا، يندرج الاستعلاء، والتهميش، والتوحّش في التعذيب، والترغيب والترهيب، والإقصاء والتجريف السياسي، وهدر المال واستباحته وإفشاء الفساد.
***
لعلّ “مذكّرة العشرة” (في 1998، ومهّدت للتعديلات الهيكلية في قيادة المؤتمر الوطني، الحزب الحاكم في السودان، التي أدت إلى انشقاق الحركة الإسلامية؛ قسم تزعّمه حسن الترابي وآخر بزعامة عمر البشير) تعبّر عن الاصطراع بين الأجيال مثلما كانت تفصح عن الأزمة داخل بُنى النظام. هي نقطة مفصلية أفضت إلى هيمنة جيل النكبات على الحزب والدولة برمّتها. وهي نفسها تؤشّر إلى صعوبة رسم الخطوط الفاصلة بين الأجيال بيولوجياً بقدر ما تعكس تباين الرؤى بين تداخل القيادات.
فوفقًا لهذا التتابع والتباين يأتي جيل الآباء البنّائين (القيادات التاريخية) من أمثال علي جاويش، جعفر شيخ إدريس، الرشيد الطاهر، ومحمد صالح عمر. ومن بين نجوم الجيل الأول حسن الترابي، ياسين عمر الإمام، عثمان خالد مضوي، والطيب زين العابدين. وفي صدارة الجيل الثاني يأتي علي عثمان محمد طه، نافع علي نافع، علي الحاج، صلاح قوش، وغازي صلاح الدين. لو أن هذا الجيل خرج من ثوب “المشروع الحضاري” الضيّق إلى مظلّة مشروع البناء والتحديث الفسيح لأشرقت شمسٌ مجيدة على الشعب. ومن بين أعطاف جيل النكبات ومن صفوف الجيل البيولوجي التالي تشكّل جيل رابع برؤى نقدية لأولئك، وممارساته منشورة بين الناس.
***
كذلك حال الحزب الشيوعي: له جيل الآباء المبشّرين بالاشتراكية أمثال حسن الطاهر زروق، وعوض عبد الرازق، وعبد الرحمن الوسيلة، وعبد الماجد أبو حسبو، والتيجاني الطيب، وعز الدين علي عامر، وقاسم أمين، وإبراهيم زكريا. ومن هؤلاء البنّاؤون من طراز الشفيع أحمد الشيخ، وكامل محجوب، والجزولي سعيد. في سياق نشأة الحزب بأيدي نخبة متجايلة ذابت الفواصل بين الأجيال؛ فمن هذا الرعيل تشكّل الجيل القيادي الأول، في صدارته عبد الخالق محجوب، ومحمد إبراهيم نقد، وفاطمة أحمد إبراهيم. وكما رجّت “مذكّرة العشرة” الإسلاميين ووقعت “المفاصلة”، أحدث الموقف تجاه انقلاب (أم ثورة؟) 25 مايو (1969) انقساماً رأسياً من القمّة إلى القاعدة داخل الحزب على نمط (منشفيك/بلشفيك)، فارتجّ الهرم الحزبي بأسره.
***
تمامًا كما في مفاصلة الإسلاميين، سبق شبق السلطة والامتيازات فأحدث الانقسام الشيوعي. لا يجمّل ما حدث تصنيفه ضمن تباين في الرؤى الأيديولوجية أو تمريره تحت شعار إنجاز مرحلة الثورة الديمقراطية. كما كان عبد الخالق قطب انقسام الخمسينيات، ظلّ محور انقسام الستينيات. كذلك في سياق المجايلة تتماهى الفواصل العمرية فيتكئ التقسيم على تباين الرؤى أو المواقف. إذ انحاز شباب إلى من ثبت مع عبد الخالق من الجيل الأول (ثلّة من الفتية) من أمثال الخاتم عدلان، صدقي كبلو، الشفيع خضر، وكمال الجزولي؛ بينما انخرط رهط من الكبار في التدافع نحو السلطة ليشكّلوا الجيل الثاني. بين هؤلاء معاوية سورج، وعمر مصطفى المكي، وفاروق أبو عيسى، والحاج عبد الرحمن. تتابعت ارتدادات الانقسام فطاولت في ما بعد شباب الجيل الثاني مثل عبد الله علي إبراهيم والخاتم عدلان. والارتداد القاصم تمثّل في مغامرة (19 يوليو 1971، التصحيحية) العسكرية، أعمدتها ضبّاط من الجيل الثاني. وبغض النظر عمّا إذا كانت المغامرة ممارسةً انتحاريةً أم كشفت الحزب للنحر، فالثابت أنها كلّفت الحزب كثيراً وغالياً وطويلاً.
***
وُصف الآباء (مؤسّسي الأحزاب التقليدية) بالافتقار إلى مشروع وطني لا يجافي الموضوعية، لكن دمغهم بالفشل والإخفاق يجنح إلى العقوق. فهؤلاء (وحتى نجوم الجيل الأول) نسجوا نماذج بهية من الوقار السياسي، والاستقامة الوطنية، والنزاهة. لا تمايز في ذلك بين الاستقلاليين والاتحاديين. وضع الآباء المؤسّسون لبنات هياكل للأحزاب. وفي ذلك يتساوى الالتفاف على محاور طائفية أو أفكار ليبرالية على صدى الجمعيات الأدبية ومؤتمر الخرّيجين.
اتسم حزب الأمّة بالصلابة في التكوين والرؤية. لعب عبد الرحمن المهدي دوراً مغناطيسياً؛ إذ لم يكتف بقاعدة الأنصار التقليدية، بل جذب نخبةً من المثقّفين المميّزين. أولئك هم جيل الآباء: بينهم عبد الله خليل، وإبراهيم أحمد، ومحمد أحمد محجوب، وعبد الرحمن علي طه، وعبد الحليم محمد، وعبد الرحمن النور. الجيل الأول حافظ على نسقه في البناء والرؤى، على الأقلّ تجاه وحدة الحزب. بين هؤلاء بكري عديل، وعمر نور الدائم، وكمال الدين عباس، وحسن محجوب، وآدم موسى مادبو. الصادق المهدي رُقّي من جيله فمارس فعلته، إذ قاد انشقاقاً عن الإمام الهادي. الجيل الثاني في حزب الأمّة ليس استثناءً؛ هو كذلك مارس الخروج عن الحزب، وشهوة السلطة لم تكن خافية. في صدارته مبارك الفاضل، والزهاوي إبراهيم مالك، ومحمد عبد الله مسار، وأحمد بابكر نهار.
كما رجّت مذكرة العشرة الإسلاميين، أحدث الموقف تجاه انقلاب 25 مايو (1969) انقساماً من القمّة إلى القاعدة
***
بين جيل الاتحاديين المؤسّسين برزت قامات وطنية سامقة مثل إسماعيل الأزهري، وخضر حمد، وحسن عوض الله، ويحيى الفضل. كما حفل الجيل الأول بنجوم مبهرين من طراز مبارك زروق، وحسين يوسف الهندي، وعلي عبد الرحمن، وأحمد السيّد حمد، وسيّد أحمد الحسين. ربّما تمازج وسط هذا الجيل الاتحادي طيف واسع من الأعمار أكثر من غيره في الأحزاب الأخرى؛ فهناك مثلاً صالح محمود إسماعيل، حسن بابكر، وأبو حريرة. ربّما يبرّر هذا أنه حزب الطبقة الوسطى والتوجّهات الوسطى؛ كلاهما مفتوحان على أفقٍ عريض. الحزب في الأصل تجمّعُ مجموعات نخبوية منذ توحيدها في القاهرة في العام 1952.
كذلك، ربّما تخالط في الجيل الثاني طيف مماثل من الأعمار بدءاً من زين العابدين الهندي، مروراً بعلي محمود حسنين، وأحمد سعد، وجلال الدقير، وانتهاءً بصدّيق الهندي، وحاتم السرّ، ومعتز الفحل. لعلّ هذا الجيل الاتحادي أكثر المهرولين إلى المناصب والامتيازات، لكنّه الوحيد من بين مجايليه تلقّى تحريضاً ودعماً من قمّة الحزب على هذا الدرب، فلم يكن اللحاق بالنظام خروجاً عن الحزب أو تعبيراً عن مواقف.
***
حتماً، تستدعي فرضية مغادرة قياديين من الجيل الثاني مظلّات أحزابهم بحثاً عميقاً للتثبّت من دوافعها وغاياتها. أيصدق أن وراء الظاهرة دوماً نوازع ذاتية ملؤها شغف السلطة وشبق الامتيازات، أم يحدث ذلك نتيجة غياب ممارسات الديمقراطية داخل الأحزاب ممّا يضيّق فرص تداول المواقع؟ أحدهم برّر انشقاقه: “أبناء دفعتي في الجامعة يتنقلون بين مناصب عليا في الدولة بينها وزارات”. قد يؤشّر مثل هذا البلاغ إلى طموحات شخصية، بغض النظر عن مشروعيتها.
ربّما تصنيم القيادات الحزبية (ظاهرة سياسية سلبية أخرى): “إلى من يهمّه الأمر: سلام”، وراء موجات التشقّق. الجدل مفتوح لجهة تأصيل مشروعية ممارسة الانشقاق حقّاً في ظروف سياسية بفعل صراع سياسي وتباين في رؤى فكرية، أو هي ممارسة ديمقراطية تستولدها خلافات حزبية، أم رغبات ذاتية مشروعة بغية تحقيق أمنيات وطنية… أم ترانا نكتفي بصبّ اللعنات على المثقّفين عامّة، والنُّخب السياسية خاصة؟

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى