نهاية عصر “السلام الأميركي”… من الهيمنة إلى التعدّدية القطبية

سلامة عبد الحميد

لم تكن تصريحات المستشار الألماني فريدريش ميرز، في خطابه يوم 13 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، في ميونخ، مفاجئةً لكثيرين، وإن كانت صراحته في إقرار واقع يتهرّب قادة العالم من الحديث عنه هي المفاجأة الحقيقية. قال من دون مواربة إن “عقود السلام الأميركي قد انتهت بالنسبة إلى أوروبا”، ووصف ما يحدث في العالم بأنه “تحول” كبير في الاقتصاد والسياسة، موضّحاً أن الأميركيين “يدافعون عن مصالحهم الخاصّة، ما يفرض على الأوروبيين الدفاع عن مصالحهم بأنفسهم”. لم يكن هذا مجرّد تقييم سياسي عابر، بل اعترافاً رسمياً بنهاية حقبة استمرّت أكثر من ثمانية عقود، شكّلت خلالها الولايات المتحدة العمود الفقري للنظام العالمي. واستند المستشار الألماني في حديثه إلى مسار أميركي واضح منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تصاعدت حدّته مع بدء تطبيق استراتيجية “أميركا أولاً”، وانتقاداته الحادّة للتوجّهات السياسية والثقافية للاتحاد الأوروبي.
ليست الأزمة في تراجع الثقة بأميركا فقط، بل في تراجع فكرة التعدّدية التي كانت جزءاً من شرعية الهيمنة
انسحب ترامب في فترة رئاسته الأولى من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، وأعاد التفاوض على اتفاقية التجارة الحرّة لأميركا الشمالية (نافتا)، وشكّك علناً في قيمة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ثم انسحب منفرداً من الاتفاق النووي مع إيران، ومن اتفاقية باريس للمناخ، كما أوقف تمويل منظّمة الصحّة العالمية. وهو يكرّر في فترته الرئاسية الحالية الدعوة إلى إنهاء توسّع الحلف.
وترسل كل هذه التصرّفات إشارات واضحة إلى العالم، وفي مقدمته أوروبا، بأن الولايات المتحدة لم تعد ملتزمةً بالقيادة العالمية، أو ما يعرف اصطلاحاً بـ”السلام الأميركي” (Pax Americana)، ما يمثّل انقلاباً كاملاً على سياسات “شرطي العالم” الأميركية الممتدّة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. نشأت فكرة “Pax Americana” في 1941، قبل دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية رسمياً، وهي تعبّر عن النظام العالمي الذي تقوده السياسة الأميركية في فترة ما بعد الحرب. والمصطلح مستوحى من مبدأ “السلام الروماني” (Pax Romana) الذي ارتبط باسم الإمبراطورية الرومانية، التي كانت تحكم العالم وفقه، وقد استمدّت منه بريطانيا العظمى في أوج مجدها نموذج “السلام البريطاني” (Pax Britannica)، وهذا النموذج هو الذي ورثته واشنطن لملء الفراغ الذي تركته الإمبراطورية البريطانية المتهاوية. خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية في وضع استثنائي، إذ كانت تنتج نصف الناتج الإجمالي العالمي في 1945، وتمتلك غالبية احتياطات الذهب العالمية، وكانت القوة النووية الوحيدة، وبينما دُمّرت غالبية البنية التحتية لكثير من القوى الأوروبية والآسيوية، بقيت البنية الأميركية سليمة.
يشير المؤرّخون إلى 1947 باعتبارها سنة تحوّل حاسمة، فحينها انهارت الإمبراطورية البريطانية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، وظهر “مبدأ ترومان” الذي وضع الأساس للاحتواء السوفيتي، والالتزام الأميركي بالأمن الأوروبي، لتكون هذه بداية حقبة القيادة الأميركية للعالم. وبنت الولايات المتحدة نظامها العالمي على أربعة أعمدة رئيسية، أولها الهيمنة العسكرية من خلال شبكة تضمّ نحو 750 قاعدة عسكرية في نحو 80 دولة، ما يتيح لها الوجود والانتشار السريع، كما تشكّل حلف الناتو في 1949، وامتدّت المظلّة النووية الأميركية لتحمي الحلفاء في أوروبا وآسيا. والعمود الثاني هو القيادة الاقتصادية، ففي مؤتمر بريتون وودز عام 1944، قادت الولايات المتحدة تصميم نظام نقدي عالمي، وإنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ثم ثُبِّت الدولار الأميركي عملةً احتياطيةً عالمية، ما منح واشنطن نفوذاً مالياً استثنائياً. وكان عمود الهيمنة الأميركية الثالث هو خطّة مارشال، التي خصّصت حينها 13.3 مليار دولار لإعادة بناء أوروبا، وربطت الاقتصادات الأوروبية بالنظام الأميركي، ما خلق تبعيةً اقتصاديةً طويلة الأمد، وضمن ولاء أوروبا الغربية في مواجهة التوسّع السوفييتي، وفي المقابل، تحملت الولايات المتحدة كلفة الدفاع عن حلفائها، ما سمح لليابان وألمانيا الغربية (أمثلةً) بالتركيز في إعادة البناء الاقتصادي. أمّا العمود الرابع، فكان “القوة الناعمة”، التي تعتمد على السينما والإعلام في نشر القيم والثقافة الأميركية، وعلى جعل النموذج الأميركي جذّاباً عالمياً.
تُروَّج “ثنائية عالمية” تتقاسم فيها الولايات المتحدة والصين مناطق النفوذ
خلال فترة الحرب الباردة (1947-1991)، كان السلام الأميركي نظاماً جزئياً، يُطبَّق فقط على العالم الغربي، بينما تقاسمت القوتان العظميان (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي) السيطرة، لكن الولايات المتحدة نجحت في منع نشوب صراع مسلّح مباشر. ومع انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، دخل “السلام الأميركي” مرحلته الذهبية، إذ أصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة، ووصفت هذه المرحلة بـ”اللحظة الأحادية القطب”، ويقال إن حرب الخليج في حينه كانت بمثابة تعبير عن عصر “السلام الأميركي” الحقيقي. في هذه المرحلة، توسّعت الهيمنة الأميركية لتشمل تدخّلات عسكرية في العراق وأفغانستان والبلقان، وتوسّع حلف “ناتو” شرقاً ليضمّ دول أوروبا الشرقية، مع تكرار فرض العقوبات الاقتصادية على الدول المُعارِضة، و”تسليح” الدولار أداةً للضغط السياسي. كانت هذه فترة هيمنة شبه مطلقة للقوة الأميركية.
لكن الأزمة المالية العالمية في عام 2008 كانت بداية التصدّع، وشكّلت نقطةَ تحوّلٍ حاسمة، إذ كشفت أن الولايات المتحدة عاجزة عن الوفاء بمسؤوليتها مديراً للاقتصاد الدولي، فالقوة الاقتصادية المهيمنة يُفترض أن تحلّ الأزمات العالمية، لا أن تتسبّب بها، في حين تحوّلت الولايات المتحدة من “المُقرِض الأخير” إلى “المُقترض الأول”، وأصبحت أكبر مدين في العالم.
خلال هذه الفترة، ظهرت علاماتٌ واضحةٌ على تآكل النظام الأميركي العالمي، من بينها صعود الصين قوةً اقتصاديةً عملاقةً، ودخول حروب مكلفة استنزفت الموارد والمصداقية، من بينها حروب في الشرق الأوسط، وتزايد الاستقطاب السياسي في الداخل الأميركي. عندها بدأ العالم التشكيك في قدرة أميركا على الاستمرار قائداً عالميّاً موثوقاً. في الوقت ذاته، انخفضت حصّة الدولار من الاحتياطيات الأجنبية العالمية بشكل ملحوظ، وباتت العديد من الدول تسعى إلى تنويع احتياطاتها بعيداً من الدولار، خاصّةً بعد استخدام واشنطن العقوبات المالية سلاحاً سياسيّاً.
يمكن أيضاً اعتبار مبادرة الحزام والطريق أحد معاول تصدّع النظام الأميركي، إذ باتت الصين تستثمر مليارات الدولارات في مختلف دول العالم، وتربط العديد من الدول النامية باقتصادها، ما يمثّل بديلاً حقيقياً لخطّة مارشال، ويعيد تشكيل العلاقات الاقتصادية العالمية بطرائق تقلّص النفوذ الأميركي، خصوصاً مع توسّع العجز التجاري بين البلدَيْن رغم الحروب التجارية والتعريفات الجمركية التي فرضها ترامب. لا يمكن أيضاً تجاهل الانحيازات غير العادلة، إذ كانت الشرعية الأميركية متجذّرةً في التزامها بالتعدّدية والمؤسّسات الدولية، لكن هذا الالتزام تبدّل تماماً، وباتت العقوبات تُطبَّق انتقائياً، مع تجاهل المؤسّسات الدولية، وحتى الهجوم عليها عندما لا تخدم المصالح الأميركية، ما قوّض ما تبقّى من مصداقية.
في الوقت الحالي، ينتقد ترامب القادة الأوروبيين زاعماً عدم رغبتهم في حماية هُويَّاتهم الوطنية، ويتّهم حكومات أوروبا بأنّها ضعيفةٌ أو غيرُ فعّالة، وأنها تدفع القارّة نحو “محو حضاري”، يرجعه زوراً إلى الهجرة الجماعية. هذه اللغة العدائية تجاه الحلفاء الأوروبيين غير مسبوقة أميركياً. كما أن الدبلوماسية الأميركية المتقلّبة، خصوصاً في ملفّ الحرب الروسية على أوكرانيا، فرضت إعادة حسابات الثقة التي كانت حجر الأساس للهيمنة الأميركية.
نهاية “السلام الأميركي” لا تعني بداية السلام، بل بداية مرحلة انتقالية تُدار بالردع أكثر ممّا تُدار بالقواعد
وعلى عكس اليقين المؤسّسي لنظام بريتون وودز، يُحكَم النظام العالمي اليوم بعدّة أشباح، من بينها تداعيات التحوّل المناخي، ومخاطر الانتشار النووي، والاضطرابات التي تخلّفها حروب التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وكذلك الأزمات القائمة التي تهدّد بنشوب حرب عالمية ثالثة. في هذا النظام الجديد، لا تضع قوة واحدة القواعد، بل يتشكّل “السلام”، أو بالأحرى عدم التورّط في حروب، من خلال الردع العسكري. ويدفع المنطق الترامبي رؤية واشنطن الحالية للعالم، والقائمة على أن الصين هي النظير الوحيد الذي ينبغي التعامل معه، ما يؤشّر إلى أنه تُروَّج “ثنائية عالمية”، تتقاسم فيها الولايات المتحدة والصين مناطق النفوذ. بينما لا يزال بعضهم يحلم بنظام متعدّد الأقطاب، تلعب فيه قوى إقليمية مثل الهند، والبرازيل، وإندونيسيا، وجنوب أفريقيا أدواراً.
ليست نهاية حقبة “السلام الأميركي” احتمالاً إذن، بل واقعٌ، ومن نتائجه أن يدخل العالم مرحلةً انتقاليةً قد تكون مضطربةً، والتاريخ يعلّمنا أن الانتقالات نادراً ما تكون سلسة. ومن بين الأسئلة التي تواجه قادة العالم اليوم: كيف ستُدار هذه المرحلة الانتقالية؟ وما هو شكل النظام العالمي الذي سينبثق من رماد الهيمنة الأميركية الأحادية؟

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى