
كنت أظن أن أسوأ ما قد يحدث للمناضل أن يُعتقل، أن يُعذَّب، أن يُمنع من الكلام، أو أن يُنفى.لكن يبدو أن هذا العالم يملك مفاجآتٍ أرذل. حسن النيفي صارع نظامًا دكتاتوريًا من النوع الذي إذا دخلتَ سجنه خرجتَ إمّا مكسورًا أو ميتًا أو بلا اسم. خرج حسن باسمه كاملًا، وبصوته، وبعناده. لم تستطع الدكتاتورية أن تلوي ذراعه، ولا أن تجعله يعتذر، ولا أن يوقّع على ورقة ندمٍ مكتوبة بخطّ الجلاد.
سافر .. تغرّب .. انتصر على الغربة في تركيا، ثم انتصر على الوحدة في فرنسا، وصادق برد نانسي كما يصادق المنفيُّ أقسى أعدائه كي لا يموت. كان يعيش وحيدًا، لكن ليس وحيدًا تمامًا، كان معه تاريخه وذاكرته وعناد لا يصلح للحياة المريحة. ثم جاء المرض دون بطاقة تعريف، دون استئذان، دون محكمة.
سرطان البنكرياس. النوع الذي لا يعترف بالنضال ولا بالبطولة ولا بعدد السنوات في السجن.
قبل دخوله العناية المركزة اتصل بي. كان صوته ضعيفًا كأن الهاتف نفسه مريض.
قال لي بهدوء غريب: » اكتشفوه مبكرًا، الكتلة صغيرة، بحجم حبّة عدس…تخيل، كل هذا الألم من حبّة عدس «. ثم أضاف وكأنه يعتذر:» الألم أقسى من سجون الدكتاتورية«.
طلب مني أن أدعو له لينتصر على الألم. المفارقة؟ أنه انتصر على السجّان وخسر أمام الخلايا. نُقل إلى العناية المركزة، وهناك توقّف عن الكلام، وكأن العالم أخيرًا أقنعه بالصمت.
بعد ثلاثة أيام قرر الرحيل، بلا بيانٍ سياسي، ولا قصيدة وداع.
رحل في يوم الاحتفاء باللغة العربية، اللغة التي استخدمها ليقول ما لا يُسمح بقوله، وليغضب ويحب ويقاوم. ترك عبد الله، وأختيه، في الغربة. تركهم ليتعلّموا مبكرًا أن البطولة لا تؤمّن إقامة دائمة. عاد حسن عاليا إلى أرض الوطن، لا كما خرج منها مكرها ً- عندما اشتد الظلام في منبج – قبل أحد عشر عامًا .
يوم تشييعه لم يحضر الوزراء، ولا أصحاب الكراسي، ولا هواة الصور. حضره المهمّشون، والفقراء، والذين يشبهونه والذين لم يجدوا من يدافع عنهم إلا الكلمات. بكوه بحرقة، كأنهم فقدوا آخر شخص كان يذكّرهم أن الكرامة ليست جريمة.
اليوم قال أهل مدينته بفخر: نحن من مدينة البحتري والغزيل ومن مدينة حسن النيفي.
وهذا وسامٌ لا تمنحه الدول، ولا تسحبه. طبت حيًّا وطبت ميتًا يا أبا عبد الله.
أما أنا… فلا أعرف كيف أبكيك. ربما لأنك علّمتنا أن البكاء ليس حلًا، وأن السخرية أحيانًا هي آخر أشكال المقاومة. ارقد بسلام ياحسن ! وداعًا يا صديقي.




