التطبيع وأوهام السلام

د- عبد الناصر سكرية

منذ أن وقع الرئيس المصري المشؤوم اتفاقية كامب ديفيد سنة 1979 مقيما علاقات دبلوماسية كاملة مع دولة العدو الصهيوني؛ طرحت فكرة ما يسمى التطبيع مع هذا الكيان الغاصب بكثير من الخوف والخجل والتردد.. لقيت الخطوة معارضة شعبية عربية واسعة؛ ومعارضة رسمية عربية أيضا كانت سببا في قطع علاقات الدول العربية بالدولة المصرية ثم نقل مقر جامعة الدول العربية إلى تونس واختيار أمين عام لها ليس من مصر للمرة الأولى منذ تأسيسها..بقي التطبيع فكرة غير مقبولة على كل المستويات تقريبا..ونشطة معارضات عربية متنوعة تنبه من أخطاره ..كانت لا تزال في الواقع الرسمي العربي قيادات ترفضه وتنادي بمواجهته وإن كانت لم تستطع تشكيل قوة حقيقية تحاصر نتائجه وتداعياته..حتى حينما شكلت بعض الدول العربية ما سمي آنذاك بجبهة الصمود والتصدي ؛ فقد بقيت في إطار التوجهات الإعلامية والنظرية العامة دون خطوات عملية تعبر عن رؤية شاملة وتندرج في إطار برنامج عملي للمواجهة ..أما على المستوى الشعبي فقد ظهرت معارضات حقيقية تبنتها قوى ومؤسسات وتنظيمات وفعاليات شعبية عربية بذلت جهودا كبيرة لكشف أخطار التطبيع وضرورة مواجهته بكل الوسائل..وإن كانت لم ترتق إلى مستوى تشكيل تهديد جدي يخيف المطبعين أو يجبرهم على التراجع..الجميل في الموقف الشعبي العربي كان الامتناع التام عن التجاوب مع أية خطوة تطبيعية أو القبول بها والموافقة عليها..فبقي محصورا مع نظام رسمي وسط مقاطعة شعبية تامة..
إختلف الأمر جذريا حينما وقع ياسر عرفات سنة 1993  إتفاق أوسلو مع ذات العدو معترفا أيضا بدولة ” إسرائيل ” ..حينها كان التطبيع قد أصبح لغة سائدة وخطابا متداولا في الحديث اليومي للإعلام العربي الذي يمثل توجهات النظام الإقليمي الرسمي..
ثم صار مادة أساسية في الحوارات السياسية والمقابلات والتحليلات والتحقيقات..ثم وقع الأردن إتفاقا مماثلا سنة 1994..إتفاق أوسلو فتح الطريق واسعا أمام فكرة ” التطبيع ” ..بعده ساد خطاب رسمي معمم مفاده : طالما أن صاحب الشأن المباشر بقضية فلسطين إعترف بدولة ” إسرائيل ” فلم تعد هناك مبررات مهمة لعدم قيام الدول الأخرى بخطوة مشابهة..وهذا ما حصل بالفعل..
لم يكن تأثير إتفاق أوسلو السلبي مقتصرا على الأجواء العربية بل تعداها إلى كل العالم وحيثما كانت للقضية الفلسطينية صداقات وأنشطة ونخب تؤيدها وتسعي لبيان حقها وشرح تاريخها..
كان من نتائج أوسلو تهميش منظمة التحرير الفلسطينية وتدهور عمل مؤسساتها جميعا..وكان من بينها تلك المؤسسات الثقافية والنقابية والإعلامية التي كانت تتواصل مع الفعاليات العالمية المؤيدة لفلسطين كما كانت إطارا للناشطين من النخب العربية خاصة تلك المتواجدة في دول العالم المختلفة خارج الوطن العربي..تعمل من خلالها وتقدم ما تستطيع من جهود كانت مفيدة ومهمة لإثبات وحدة المصير العربي وأن قضية فلسطين هي عنوان قضايا التحرر العربي والتقدم العربي..
كان إتفاق أوسلو وتهميش منظمة التحرير ومؤسساتها لصالح ما سمي السلطة الفلسطينية سببا مباشرا في مجموعة من الظواهر السلبية التي انعكست آثارها على الحركة الوطنية الفلسطينية وعلى كل مظاهر التضامن العالمي مع فلسطين..
1- إندفاع خطاب التطبيع بقوة وثقة وعلنية أيضا..فأصبح الباب مفتوحا امام النظام الرسمي العربي للبحث بجدية فيه ودون تردد أو خجل..
2 – إفتقاد الإطار المؤسساتي والبوصلة المرشدة أمام الكثير من القوى والفعاليات الشعبية العربية..فخف زخمها الرافض للتطبيع وصار الحديث يتناول سلبيات التطبيع بالمقارنة مع إيجابيات محتملة..
3 – خسارة قوى وشخصيات وفعاليات عالمية كانت تعمل في خدمة فلسطين فبردت همتها وتراجع دورها مما أدى إلى إنكفائها تدريجيا..
4 – إنقسام الشارع الوطني الفلسطيني وظهور طبقة طفيلية من موظفي السلطة والمنتفعين منها ؛ تحول أعضاؤها إلى أعداء للنضال الفلسطيني ومتعاونين مع سلطات الإحتلال بعد أن ارتبطت مصالحهم الشخصية بمثل هذا التعاون..تحولوا من مناضلين إلى موظفين هامشيين طفيليين وبعض تحول إلى خونة..
5 – كل هذا أدى إلى تراجع قضية فلسطين إلى أدنى مستوى من الأهمية والإهتمام..الأمر الذي شجع دعاة التطبيع من ” العرب ” فإنطلقوا يبشرون به بإسم السلام ويباشرونه فعليا وإن من غير إتفاقيات رسمية علنية..
ثم كانت الإندفاعة القصوى لقطار التطبيع بعد إحتلال العراق وإسقاط نظامه الوطني سنة 2003..فإختفت بذلك أية قوة عربية حقيقية كانت تناهضه وتدعم من يناهضه من القوى الشعبية..
وإنطلقت حملات عالمية منسقة ومتكاملة تتحدث عن السلام وتنشر ما يسمى ثقافة السلام وتحض عليها وتقدم الإغراءات الكثيرة للإنخراط بها..
وقد شكلت ما أسميت الإتفاقيات الإبراهيمية ذروة هذا الإندفاع الرسمي لتطبيع علاقات الدول مع دولة العدو..
كان هذا سببا في بروز قوى إقليمية ترفع شعار فلسطين لتمرير سياساتها التقسيمية وأطماعها التوسعية في البلاد العربية..وعلى رغم تقديمها تضحيات كبيرة تحت لواء المقاومة إلا أنها بقيت تدور في فلك سياستها الخاصة ومشاريعها الدينية المذهبية..
وفي حين كان النظام الإقليمي العربي يستعد في مجمله لتطبيع رسمي كامل مع دولة العدو ؛ جاء العدوان الإجرامي الصهيوني على غزة وشعب فلسطين ؛ ليعيد كشف أهداف العدوان في الإبادة الجماعية والتهجير الكامل مقدمة لتغيير وقائع التاريخ والجغرافيا ليس في فلسطين فقط بل في عموم المنطقة العربية وما حولها..كشف الإجرام الصهيوني غير المسبوق في أية أحداث تاريخية عن مدى خطورة مشروع التوسع الصهيوني على جميع العرب..فكان شعار ” إسرائيل الكبرى ” إيذانا بإعلان حرب وعدوان مباشر على كل البلاد العربية وإن كان البدء بتنفيذه مؤجلا إلى حين تصفية فلسطين وقضيتها كما يحلمون..
لقد شكلت حرب الإبادة على غزة وشعب فلسطين نقطة تحول تاريخي أجبر النظام الرسمي على التراجع عن التطبيع مع العدو ؛ وإشتراط إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة والحقوق ؛ كمقدمة لأي تطبيع رسمي..
كما أن هذه الحرب الإجرامية أعادت إلى الوعي الشعبي العربي كثيرا مما كاد أن يفقده تحت ضغوط ما يسمى ثقافة السلام والواقعية السياسية وسواها من الشعارات الزائفة..عاد مدركا خطورة المشروع الصهيوني كتهديد وجودي شامل على الوجود العربي برمته وعلى كل بلد عربي أيا كان..عاد الإعتبار لوحدة المصير العربي انطلاقا من فلسطين ؛ مبدأ إستراتيجيا يحظى بإجماع الرأي الشعبي العربي وإن كان لم يتحول إلى حركة وفعل إنقاذي بعد..وتلك مهمة النخب الشريفة والواعية ومهمة القوى الشعبية وفعالياتها الممتدة عبر العالم لتحويل هذا الوعي المستتر إلى عمل تغييري فعال يعيد التواصل مع كل القوى الحرة في العالم وبلورة توجهات سيادية إستراتيجية  في سبيل تحرير فلسطين..

المصدر: كل العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى