
(1)
مرّ السودان في العقدَين الماضيَّين بأخطر الأزمات التي يمكن أن يتعرّض لها بلدٌ عربيٌّ، تراوحت بين فصل جزءٍ عزيزٍ وكبيرٍ وغنيٍّ بالموارد منه، وحصارٍ وعقوباتٍ غربية، وصراعاتٍ مسلّحةٍ ونزاعاتٍ سياسية، وأزمات حُكم تغذّيها أطراف داخلية وخارجية. وقد كتبتُ مقالَين في صحيفة الشرق القطرية في عام 2004، بعنواني: “السودان في خطر”، و”أنقذوا السودان يا عرب قبل الضياع”، حينما اشتدّت الأزمة. وقلتُ في منتدى ثقافي في عمّان في عام 2010 إنّ “السودان يسير نحو التجزئة والتفتيت”. لكن هذه النداءات، التي تختلج في صدور الشعوب العربية أيضاً، لم تجد آذاناً صاغية، ولا أفعالاً رسمية عربية، تحول دون انفصال جنوب السودان عن شماله عام 2011. ثمّ سقطت حكومة عمر البشير عام 2019، واشتدّت الانقسامات والأزمات. وقد رمت دولة قطر بكل ثقلها لإحلال السلام في إقليم دارفور، ولكنّ قوىً سودانيةً وإقليميةً وعربيةً حالت دون تحقيق الاستقرار في السودان عامة.
إذا تُرك الأمر على حاله في السودان، فالخوف أن تتمدّد قوات حميدتي لتصل شواطئ البحر الأحمر
(2)
يعيش السودان، منذ إبريل/ نيسان 2023، حالة حرب شرسة بين قواته المسلّحة، بقيادة رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات المرتزقة “الدعم السريع”، بقيادة هولاكو العصر محمّد حمدان دقلو (حميدتي). وقد اجتاحت جحافل مغول العصر هؤلاء في 27 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، بعد حصار 18 شهراً، أنهك السكّان، فانعدم الدواء وكاد الغذاء أن ينعدم، وجفّت مياه الشرب، ثمّ أمطرت قوات المرتزقة المدينة بقذائف المدفعية الثقيلة وقنابل الطائرات المُسيَّرة والصواريخ الفتّاكة، التي حصلت عليها من دول مجاورة، ومعها دعم مالي ولوجستي من أطراف حباها الله بسعة في المال، لكنّها لا تعرف كيف تنفقه إلّا في دمار الأوطان، وتفتيت وحدتها، والعبث بثرواتها. ولم تكن وحشية مرتزقة حميدتي تقلّ عن وحشية إسرائيل وقسوتها وبربريتها ضدّ أهلنا في غزّة والضفة الغربية، فراحت تدمّر الفاشر بمَن فيها وما جاورها، وتذبح سكّانها المدنيين، وتنكّل بأطفالها. ولعلّ العبرة المؤلمة خنقتْ كلَّ من شاهد ذاك الطفل (لم يبلغ الخامسة) ومصيره المجهول، حين استنجد جاثياً خوفاً من أحد المرتزقة يلاحقه.
وقد عبّر أمير دولة قطر، سمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في خطابه أمام المشاركين في مؤتمر القمة العالمية الثانية للتنمية الاجتماعية، في الدوحة، عن الصدمة من هول الفظائع التي ارتُكبت في الفاشر، وأكّد “إدانتنا القاطعة لها. وهل كنا بحاجة إلى دليل آخر لندرك أن تجاهل العبث بأمن الدول وسيادتها واستقرارها، وسهولة إدارة الظهر للحروب الأهلية وفظائعها، لا بدّ أن يقود إلى مثل هذه الصدمات؟ لقد عاش السودان أهوال هذه الحرب منذ عامَين ونصف، وقد آن الأوان لوقفها، والتوصل إلى حل سياسي يضمن وحدة السودان وسيادته وسلامة أراضيه”.
يثور سؤال مهم على امتداد الوطن العربي: ما الذي يمنع دول جامعة الدول العربية، ودول منظمة التعاون الإسلامي، وبعض دول مجلس التعاون الخليجي، وبالتعاون مع منظمة الاتحاد الأفريقي، من التدخّل بكل إمكاناتها الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية لإنهاء العبث والجرائم في السودان؟ ولماذا نستجدي الحلول من أميركا ونحن قادرون على حلّها؟… فالحديث يجري حالياً عن هدنةٍ بوساطة أميركية بين الشرعية السودانية وقوات المرتزقة الخارجة على الشرعية، ويُرحِّبُ الكلُّ بهدنة إنسانية، لكن ينبغي أن تشمل شروط تحقيقها الانسحاب من كل المدن والقرى التي احتلتها قوات الدعم السريع، وتقديم كل من شارك في الإبادة الجماعية في الفاشر وما جاورها إلى محكمة الجنايات الدولية. فلا يجوز فرض هدنة بين أصحاب الحقّ وبين القوى الباغية. إنّ أيَّ هدنة تجري اليوم ستستفيد منها قوات حميدتي، طالما كانت لها الغلبة في دارفور وما جاورها. فهذه الهدنة، التي تُعدُِّ بنودها أميركا، تعني تكريس سلطة قوات حميدتي في الأراضي التي استولت عليها بفعل القوة الخارجية، وتهريب مزيد من السلاح. فهذا غير مقبول، ولا هدنة مع اللصوص والبغاة.
هذا النمط من الهدن والاتفاقات التي تفرضها أميركا مسار خطير قد يتكرّر في أكثر من بلد عربي. إنه تشجيع صريح على تنفيذ الجرائم والإبادة ضدّ الإنسانية، وذلك عندما تكون النتيجة هي الإفلات من العقاب، والثناء على المجرمين لقبولهم “هدن” أو “اتفاقات” تكرّس أمراً واقعاً ظالماً طاول ضحايا يُعدُّون بمئات الآلاف، بل بالملايين. ألم يجرِ تكرار سيناريو غزّة في السودان؟
نمط الهدن والاتفاقات التي تفرضها أميركا مسار خطير قد يتكرّر في أكثر من بلد عربي
(3)
إذا تُرك الأمر على حاله في السودان، فالخوف أن تتمدّد قوات حميدتي نحو كردفان لتصل شواطئ البحر الأحمر، وتفرض هيمنتها على موانئه. حينها ستطوّق الجزيرة العربية بحرياً، بدءاً بوجود إسرائيلي في جزيرة سقطرى اليمنية، مروراً بالسيطرة على موانئ القرن الأفريقي وباب المندب، وصولاً إلى إحكام المرتزق حميدتي، ومن يدعمه، السيطرة على سواحل السودان. حينها لا ينفع الندم على صمتنا، والخاسرون معروفون: دول شبه الجزيرة العربية.
آخر القول، يا عرب، لا تتركوا الشعب السوداني الشقيق تعبث به وبموارده قوى البغي وعبدة المال وطغاة العصر.
المصدر: العربي الجديد






