حراكات اجتماعية في تونس لا تكبح السلطة

المهدي مبروك

      

في أسبوع واحد تقريباً، شهدت تونس حدثَين قد يبدوان، للوهلة الأولى، متباعدَين، ولكنّهما، في واقع الأمر، ينتميان إلى الحزمة نفسها من الظواهر والأفكار؛ مظاهرات عارمة تشهدها مدينة قابس تجمع طوفاناً بشرياً، يقول شيوخ المدينة إنهم لم يروا مثله منذ عقود، لا أيام الثورة من جهة، ولا حين تعليق نشاط الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، ما ينذر بحملة واسعة قريباً على الأجسام الوسيطة التي يعدّها أنصار الرئيس خلايا للتآمر والخيانة. وقد ظلّت البلاد خلال الأيام الفارطة مزهوةً، تستعيد الصورة في قابس التي ردّت على خطابات التخوين والتآمر بأن تحرّكت بمثل تلك الحشود والتنظيم والشعارات التي كادت تُجمع على أن مدينة قابس تختنق تحت ألسنة سموم المركّب الكيميائي الذي اهترأت آلاته الضخمة، وغدا كتلاً عملاقة من النفايات والغازات القاتلة. ردّ رئيس الجمهورية قيس سعيّد على تلك المظاهرات الضخمة، في جلسة جمعته مع رئيسة الحكومة، بأسلوبه المعهود، فرأى فيها مساندةً له وانتفاضاً ضدّ الفساد والفاسدين، مستهزئاً، في الوقت نفسه، من “جيل زد”، مُستعرِضاً خصومات شعراء العصر الأموي: الفرزدق والأخطل وجرير.

إقدام السلطات على تعليق نشاط الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات بدّد كلّ التوقعات بانفراج قريب

ربّما تفاءل بعضهم واعتقد أن تلك المظاهرات الضخمة قد تدفع السلطة إلى إعادة قراءتها الأحداث وتعديل سياساتها، وذهب بعضهم الآخر إلى أن البلاد قد تشهد تحويرات وزارية تتبعها تغييرات في السياسات المتّبعة، خصوصاً فيما تعلّق بالحريات الفردية والجماعية ووضع حدٍّ للملاحقات والمحاكمات التي طاولت جلّ الأحزاب، بما فيها التي تدّعي أنها مع مسار 25 يوليو (2021). غير أن إقدام السلطات يوم الجمعة الفارط على تعليق نشاط الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، وهي أقدم جمعية نسائية مستقلة في العالم العربي وأفريقيا، بدّد تلك التوقعات كلّها، حتّى ولو كانت ضعيفة. إذ استطاعت هذه الجمعية (أسّستها سنة 1989 ثلّة من النساء الحقوقيات من مشارب يسارية تحديداً ومن مهن مختلفة: باحثات ومحاميات) عموماً أن تخرج من معطف الحركة النسوية الرسمية، أوما يسمّي بـ”نسوية الدولة”، وتنهج خطّاً مستقلّاً عن السلطة، تراوح بين المعارضة أحياناً والصمت أحياناً أخرى. ورغم مؤاخذات عديدة توجّه إلى هذه الجمعية، من قبيل النشاط النخبوي، والنسوية الحادّة والمتوتّرة تجاه الرجال، ومعاداة النساء الإسلاميات وعدم الدفاع عن حقوقهنّ إلّا نادراً، فإنها استطاعت (قبل الثورة وبعدها) أن تكون ملاذاً لنساء عديداتٍ في الدفاع عن حقوقهنّ، وظلّت أيضاً في هذه التوجّهات حتّى بعد الثورة التي وقفت فيها ضدّ حكومة “الترويكا”، وكانت لها مواقف مهمّة من الدستور وجلّ التشريعات المتعلّقة بالنساء، خصوصاً في القانون المتعلّق بمناهضة أشكال العنف كافّة المسلّط على النساء. ولم تكتفِ الجمعية بالدفاع عن الحقوق السياسية على غرار الانتخاب وجندرة الحياة السياسة عموماً بما فيها التناصف، وغيرها من المسائل، بل ضمّت الجمعية أيضاً طيفاً واسعاً من الحقوق الاجتماعية على غرار الدفاع عن الحقّ في الشغل ومناهضة التهميش والعنف والاستغلال المهني وقضايا التحرّش المهني… إلخ.
سبقت قرار التجميد المؤقت حملةٌ إعلاميةٌ شنّها أنصار الرئيس على المجتمع المدني، وتحديداً على الجمعيات والمنظّمات غير الحكومية، بتهم شتّى منها التمويل الخارجي والفساد المالي… إلخ، وهي تهم عادة ما توجّه إلى الجمعيات المستقلّة التي ما زالت تؤمن أن البلاد تحتاج إلى حياة سياسية أفضل تُصان فيها حقوق المواطنين وكرامتهم.

تواصل السلطة في تونس زحفها على آخر المربّعات المدنية: الجمعيات الحقوقية والمدنية

لم تكن جمعية النساء الديمقراطيات مناهضة لمسار 25 يوليو (انقلاب الرئيس على دستور 2014)، بل إنّها كانت من بين الجمعيات التي التقاها الرئيس غداة إعلانه القرارات الاستثنائية التي ستتوالى لاحقاً لتنتهي بإلغاء الدستور وحلّ الحكومة والبرلمان، بل إنها أيّدته، في البداية، قبل أن تتراجع حينما بدأت تلوح في الأفق ميوله إلى التفرّد بالسلطة.
لا أفق لانفراج يلوح قريباً، وربّما تبدو السلطة أكثر من أيّ وقت مضى مغترّة بمنجزاتها الحقيقية أو المتخيّلة، وهي التي تتباهى بأنها حقّقت مكاسب اقتصادية، واستطاعت أن تستغني عن صندوق النقد الدولي وتحترم آجال خلاص ديونها.
ستظلّ الأزمات تثير انفعالات هي أشبه بالزوبعة المؤقّتة التي تبدأ لتهدأ بعد حين عاجزةً عن فرض التفاوض مع السلطة أو دفعها إلى مراجعة اختياراتها، خصوصاً في المسائل الكبرى المتعلّقة بالحقوق والحريات، في حين تواصل السلطة زحفها على آخر المربّعات المدنية: الجمعيات الحقوقية والمدنية، تتولّى الإدارة والقضاء ترتيب التفاصيل، والكل شامتٌ في الكل. ولكن لا أحد ينجو من هذه الآلة الضخمة التي تدوس كل ما يعترضها من دون تردّد أو وجل.
لبلدان أخرى “جيل زد”، أمّا في تونس فإنّ هذا الجيل لا يبدو معنياً بالدفاع عن أيّ شيء، حتى عن طموحاته… ثمّة ثقة لم تهتز فحسب، بل اهترأت واندثرت، ولا من مُستعيدَ لها في أفق قريب.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى