
لأوّل مرة في تاريخ تونس، تظاهر أكثر من 135 ألف مواطن ومواطنة في ولاية قابس، إذ امتلأت الشوارع بجمهور من مختلف الأعمار، رافعين مطلباً وحيداً “الشعب يريد إيقاف الوحدات” (مجمع كيميائي). جرت المسيرة بكل انضباط، وباحترام القانون والأخلاق والمؤسّسات، ومن دون حضور أمني لافت. رفع المتظاهرون أصواتهم، تحاوروا، لم يقدحوا في شرعية الدولة والنظام، ولم يثيروا مسائل سياسية حرجة. ثم عادوا إلى منازلهم بكل هدوء ومسؤولية، وانتظروا حلول المساء.
لم تلتفت القناة الرسمية إلى أضخم حدث شهدته البلاد، وكأنّ الأمر لا يعنيها. وفي آخر المساء، توجّه الرئيس قيس سعيّد بكلمة، بحضور رئيسة الحكومة، جاء فيها على المسيرة فأثنى على المشاركين فيها، وقال إنّها جرت بحرّية، قبل أن يتحدّث عن “الخونة والمرتزقة”، مستعملاً أسلوباً حمّال أوجه، لا يخلو من التهديد والوعيد. لكن الأهم خلو الكلمة من أي قرارٍ يتعلق بالتلوث الذي بسببه قامت الدنيا ولم تقعد، فعلّق أحد أعضاء لجنة “أوقفوا التلوث في قابس”، قائلاً إنّ الرئيس “تجاهل أكبر مسيرة” حدثت في البلاد، وذلك “لن يوقفنا ولن يضعف عزيمتنا، وإنّ الحراك السلمي مستمر”، وأعلن أنّهم “يتّجهون نحو التصعيد”.
بعد ذلك، التقى كاتب الدولة للأمن بالنشطاء في قابس، وقال نائب في البرلمان “كنّا ننتظر أن يعلن الرئيس عن القيام بإصلاحات، ولكنّنا وجدنا أبياتاً من شعر”، ويقصد بذلك استشهاد قيس سعيّد بأبيات للشاعر الأموي جرير، عندما تحدّى خصمه الفرزدق!، في سياق تحدّي سعيّد خصومه السياسيين الذين هاجمهم بقوة كما العادة.
هكذا ضاعت فرصة كان في الوسع أن تُستغلّ سياسياً، وأن يستعيد الرئيس المبادرة، فيفكّك الأزمة الاجتماعية، ويتدارك وضعه السياسي، ويدخل في حوار بنّاء مع الغاضبين الذين لم يهاجموه، وطالبوه فقط باستنشاق هواءٍ نظيف. لكنّ اعتقاداً سائداً حال دون ذلك، إذ ينصح بعضهم بعدم اتخاذ قرارات سياسية تحت ضغط الشارع، لأنّ ذلك سيُضعف الرئيس، ويفتح الباب أمام المعارضة لتستغلّ ذلك، لتكثف الضغط عبر مطالب أخرى لم تتحقق طوال السنوات الستّ من حكمه.
يعتقد كثيرون أنّ ما حدث يدلّ على أنّ السلطة لا تملك حلولاً عملية لمعالجة التلوّث، ليس في قابس وحدها فحسب، وإنما في عديد الجهات الأخرى التي تشكو من تهديداتٍ خطيرة للبيئة، كما أن الحكومة متخوّفة، في ظلّ الأزمة المالية المتفاقمة، من احتمال غلق “المجمع الكيميائي” الذي يدرّ على الدولة مليارات من العملة الصعبة، ما من شأنه أن يضاعف من حجم الأزمة الخانقة التي تمرّ بها تونس، فالسلطة تفتقر، مثلما كان الشأن مع الحكومات السابقة، إلى خطّة شاملة تصحّح المسار الاقتصادي، وتضع سياساتٍ جديدة ومتناغمة بين مختلف القطاعات الحيوية. والغريب أنّ أنصاراً للرئيس لم يقتنعوا بأنّ تونس، مثل غيرها من الدول والمجتمعات، لا يمكن أن يديرها شخصٌ واحد مهما بلغت قدراته. وتكفي الإشارة، في هذا السياق، إلى أحد المعلقين السياسيين الموالين للسلطة، الذي لم يتردّد في القول بكلّ اعتزاز “الحلول لا تأتي إلّا من الرئيس وذلك في كل القطاعات والمجالات”.
هل يأتي الحل من الصين؟ هذا الاحتمال وارد، بعد اتصال الحكومة بسفير بكين في تونس، فهذا البلد الكبير والمتقدّم اقتصادياً، والخبير في تطويع الطبيعة لصالح الإنسان، وبإمكانه إسعاف تونس ونجدة النظام في أسرع وقت وبميزانية أقل. مع ذلك، تبقى أسئلة مطروحة وملحّة، لماذا لا تصارح السلطة مواطنيها، وتعيد إليهم الاطمئنان إذا كان هذا هو الاختيار الذي تنوي الحكومة اعتماده؟، ولماذا يتردّد الرئيس في الاستجابة لمطلب تفكيك وحدات المصنع الكيميائي، في انتظار وصول العلاج الصيني، فتهدأ النفوس وتخرس “ألسنة السوء”!.
أسئلة كثيرة تطوف في الفضاء التونسيّ من شأنها أن تربك الأذهان، وتعمّق أزمة الفهم والتواصل، وتؤشّر إلى أنّ الحالة في البلاد بلغت حدّ اللامعقول.
المصدر: العربي الجديد






