
شهدت سوريا في الخامس من تشرين الأول/أكتوبر الجاري أول عملية انتخابية بعد سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ديسمبر ٢٠٢٤. وإذا كان ما جرى لا يرقى إلى كونه انتخابات مكتملة الأركان، كما هو متعارف عليه في الأنظمة الديمقراطية الراسخة، فإنه شكّل مشهديةً وخطوةً هائلةً بنظر الكثير من السوريين، واختبارًا لعملية انتقالٍ سياسي تتوافق مع الظروف السورية الحالية، ويريدها النظام الجديد أن ترسّخ حكمه الطريّ.
حقيقة الأمر أن طريقة اختيار أعضاء “الجمعية الوطنية” السورية، سواء عبر هيئات ناخبة تم اختيارها مسبقًا من قبل السلطات، تعكس خوفًا عميقًا لدى النظام من تكرار تجارب العديد من ثورات ٢٠١١ العربية التي سبق أن نجحت في إسقاط رأس النظام في أكثر من بلد، لكنها سرعان ما فشلت في مواجهة الدولة العميقة للنظام الذي كان يحكم، وبالتالي تم إما إقصاء التيارات السياسية التي تمثل الثورات الجديدة، أو حتى زجها في السجون.
إلى جانب “التجربة المصرية”، يبرز عاملٌ أساسيٌّ آخر في تفكير الشرع، وهو تفادي “التجربة العراقية”، والمقصود هنا تجربة عراق ما بعد صدام حسين بعد التدخل الأميركي عام ٢٠٠٣.
ولعلّ التجربة المصرية القصيرة بعد ٢٠١١، وصولًا إلى إسقاط حكم “الإخوان المسلمين” عام ٢٠١٣، اتخذت طابعًا دمويًا في نهاية المطاف، وهي من أكثر التجارب رسوخًا في عقل الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع. ولا نقيصة أو عجب في ذلك. لا نقيصة، لأن دولةً إقليميةً كبرى مثل تركيا تأثّرت بما حصل في مصر إلى درجة أن انقلاب تموز/يوليو ٢٠١٦ أظهر أن النظام السياسي، ممثّلًا بحزب العدالة والتنمية، كان قد استعدّ – تأثرًا بما حصل مع “إخوان” مصر – لسيناريو انقلابي من قبل الجيش، وأعدّ قواته الخاصة شديدة الولاء داخل الأجهزة الأمنية الرسمية، وكذلك مجموعات من الميليشيات الرديفة الرسمية الموالية للحكم بشكلٍ مطلق.
ولا عجب، لأن تركيا هي المهندس الرئيسي لمشروع التغيير العسكري في سوريا، وبالتالي سيكون الشرع متأثرًا حتمًا ومستعدًا لتفادي التجربة المصرية، سواء بدافعٍ شخصي أو تأثرًا بما فعلته تركيا.
إلى جانب “التجربة المصرية”، يبرز عاملٌ أساسيٌّ آخر في تفكير الشرع، وهو تفادي “التجربة العراقية”، والمقصود هنا تجربة عراق ما بعد صدام حسين بعد التدخل الأميركي عام ٢٠٠٣. فإصرار الشرع على مركزية الدولة السورية الجديدة، والذي أدى إلى حمّاماتٍ من الدم في كلٍّ من السويداء والساحل السوري، لا يرجع فقط إلى ضغطٍ تركي يتمسك بالمركزية من أجل منع أي انفصالٍ كرديٍّ سوري، ستكون له تداعيات مباشرة على الأمن القومي التركي، بل يمكن تفسير ذلك من خلال فهم عقلية الشرع الذي يعتقد أن الشراكة الواسعة للمكونات السورية كلها ستؤدي إلى حكمٍ جديدٍ عاجزٍ وغير فاعل، وبالتالي حكمٍ هشٍّ يسهل تعطيله وربما إسقاطه.
لكن فاتت الشرع نقطتان أساسيتان:
1- أن تشابهه مع “إخوان” مصر يقوم فقط على أن الجهتين لا تمثلان كل قوى وشخصيات ثورة ٢٠١١ التي أطلقت الشرارة الأولى وتحملت عبء البطش الأول، والذي طال في سوريا حتى ٢٠١٢ – ٢٠١٣.
بعيدًا عن هذا التشابه، فإن خوفه من التجربة المصرية غير مبرر، لأن ما قامت به “هيئة تحرير الشام” هو انتصارٌ عسكريٌّ أسقط النظام كله مع دولته العميقة. ومن قرر “التكويع” أو البقاء في المشهد، خصوصًا من الشخصيات المعروفة بولائها لنظام الأسد، فعل ذلك بشروط النظام الجديد.
2 – أما المقارنة مع العراق، فكذلك مبالغٌ بها، لأن التنوع السوري تسوده غالبيةٌ سنّية واضحة جدًا، وبالتالي فإن توسيع المشاركة السياسية لن يؤدي بالضرورة – خصوصًا إذا تمت إدارة التنوع واستيعابه – إلى حكمٍ هزيل.
بالطبع، وبعيدًا عن هذه الثوابت في عقلية الشرع، تبقى هناك مشروعيةٌ للسؤال عمّا إذا كانت سوريا قادرةً على إجراء انتخاباتٍ نيابيةٍ كاملة الأركان، وليس مجرد عملية انتخابية كما جرى في الخامس من تشرين الأول/أكتوبر، حيث لم يشارك إلا نحو ٧٠٠٠ سوري في العملية كلها.
من حق النظام الجديد أن يرسّخ حكمه، وما يعتقد أنه يتماهى مع ترسيخ الاستقرار السوري، لكن، وحتى لا تتحول المركزية إلى نوعٍ من تغوّل السلطة الجديدة، فإن كلَّ سوريٍّ مطالبٌ بالتمسك بحقه كإنسانٍ ومواطن. والإعلان الدستوري يشكل إطارًا لذلك في الوقت الحالي.
ذلك أن الإصرار الغربي على إجراء الانتخابات سريعًا وبأيّ ثمن، خصوصًا في بلدان فقدت كل مقومات الدولة فيها، أو ما تزال شخصياتٌ وقوى النظام السابق ممسكةً بالشارع بحكم باعها الطويل في الحكم، وإظهار هذه الانتخابات كـ”درة تاج” الثورة وإنجازها الوحيد، لم يؤدِّ إلى بناء دولةٍ قويةٍ متماسكة، بل تحوّل الناس إلى “الترحّم” على الأنظمة السابقة بسبب عجز الحكام الجدد عن تخليص شعوبهم من عقودٍ من إرث الأنظمة السابقة.
نتج عن هكذا انتخابات – والشواهد واضحة بعد عراق ٢٠٠٣ وليبيا ٢٠١١، وكذلك مصر – ارتداد الناس إلى النظام الذي سقط، والكفر بالثورات، وبالتالي القضاء على أي أملٍ بتغييرٍ سياسيٍّ مستقبليٍّ، لأنه بالنسبة للناس مجرد وعودٍ فارغة.
التحدي الأساس، ربما اليوم، هو ألّا تطول الفترة الانتقالية في سوريا. وستكون كيفية استخدام الرئيس الشرع لحقّه بتعيين ثلث الجمعية الوطنية الجديد مؤشّرًا لجدية وشفافية الحكم الجديد بما يخدم الصالح العام.
لكن الأساس، بالتوازي مع ذلك، وفي خضم بناء التجربة السورية الجديدة، هو أن يستمر السوريون في توسيع هوامش الحرية والنقد والانخراط السياسي لبناء تجربةٍ ناضجة تخوض انتخاباتٍ مقبلة بكلّ قوة.
من حق النظام الجديد أن يرسّخ حكمه، وما يعتقد أنه يتماهى مع ترسيخ الاستقرار السوري، لكن، وحتى لا تتحول المركزية إلى نوعٍ من تغوّل السلطة الجديدة، فإن كلَّ سوريٍّ مطالبٌ بالتمسك بحقه كإنسانٍ ومواطن. والإعلان الدستوري يشكل إطارًا لذلك في الوقت الحالي.
هنيئًا لرفاق ثورة ٢٠١١ الذين فازوا في العملية الانتخابية الأخيرة، وهنيئًا للسوريين كمية التجارب التي يخوضونها للمرة الأولى، مهما كان نوعها، بحريةٍ كبيرة يجب أن يدفعوا دائمًا باتجاه تكريسها.
المصدر: تلفزيون سوريا