
بغض النظر عن التباين في المواقف تجاه عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وما تلاها من حرب إبادة شاملة شنّها الاحتلال الإسرائيلي ضد قطاع غزة، فإن مرور عامين على تلك اللحظة المفصلية يكشف عن تحولات عميقة في مسار القضية الفلسطينية، ليس فقط في ميادين المواجهة، بل على مستوى السرديات العالمية، والمواقف الإقليمية، والتوازنات السياسية الدولية.
ما قبل الطوفان لم يكن مشهداً بريئاً أو هادئاً. فقد كانت القضية الفلسطينية تتعرض لعملية إزاحة وتهميش غير مسبوقة، بدأت تتبلور بوضوح منذ ولاية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب (2017-2021). إذ تبنّى الأخير، ومعه فريق سياسي–أيديولوجي منحاز بالكامل لليمين الصهيوني، استراتيجية تقوم على شطب القضية الفلسطينية من الأجندة الدولية، واستبدالها بمشاريع تطبيع اقتصادي–أمني مع أنظمة عربية في إطار ما عُرف بـ”الاتفاقيات الإبراهيمية”. هذا التوجه، الذي تبنّاه خلفه جو بايدن مع تغييرات شكلية، كرّس فكرة أن القضية الفلسطينية باتت عبئاً لا أولوية، وأن “السلام” الإقليمي لا يشترط حلّاً عادلاً للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.
في موازاة ذلك، كانت حكومة الاحتلال، بقيادة بنيامين نتنياهو وتحالفه مع أكثر التيارات تطرفاً في تاريخ إسرائيل، تمضي قدماً في تنفيذ أجندة تهويد القدس، وتكريس السيطرة الاستيطانية، وتسويق روايات دينية توراتية عن “إسرائيل الكبرى”. اقتحامات المسجد الأقصى اليومية، وتصريحات وزراء مثل إيتمار بن
غفير وبتسلئيل سموتريتش عن “السيادة اليهودية الكاملة”، لم تكن مجرد تصريحات استفزازية، بل جزء من مشروع سياسي–ديني يسعى إلى تقويض الوضع القائم بالكامل.
على الجانب العربي، كان المشهد أكثر إحباطاً، تحولت قضية فلسطين من رمز للكرامة والعدالة، إلى عبء دبلوماسي تسعى الأنظمة إلى التخلص منه. بعض الأصوات، من داخل نخب سياسية وإعلامية، رفعت شعار “فلسطين ليست قضيتي”، وروّجت لروايات صهيونية بشكل علني. بدا أن العقل الجمعي العربي، المُنهك من الصراعات والأزمات، ينجرف تدريجياً نحو قبول “الحل الإسرائيلي”، أو تجاهله.
أما على الصعيد الدولي، فقد نجحت إسرائيل، لعقود، في تسويق نفسها كـ”الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، وكشريك طبيعي للغرب في مواجهة “الإرهاب” و”التطرف”. تم طمس جرائم الاحتلال، وتحويل القضية الفلسطينية إلى مجرد ملف إنساني، تُدار فيه المساعدات، لا الحقوق.
دفع الفلسطينيون، خصوصاً في غزة، ثمناً باهظاً: أكثر من 200 ألف شهيد وجريح، دمار شبه كامل للبنية التحتية، ونزوح جماعي داخل منطقة محاصرة.
ثم جاء “طوفان الأقصى” ليقلب هذه المعادلة، العملية التي نفذتها المقاومة، والتي اعتبرها البعض “زلزالاً سياسياً”، لم تكن مجرد هجوم عسكري مفاجئ، بل صدمة أخلاقية ووجودية للنظام العالمي، وخاصة للغرب، رد الفعل الإسرائيلي الوحشي، المتمثل في تدمير أحياء سكنية بأكملها، واستهداف المستشفيات، والمدارس، والكنائس، ومساجد غزة، كشف زيف الرواية الإسرائيلية، وأعاد تعريف من هو “الضحية” ومن هو “الجلاد”.
في عامين فقط، تحوّلت إسرائيل في نظر ملايين البشر من دولة “محاصَرة” إلى قوة استعمارية تمارس جرائم تطهير عرقي وبشكل علني، لم تعد تهم “معاداة السامية” تُخيف الأصوات الحرة، خصوصاً في الجامعات، والنقابات، والمؤسسات الإعلامية الغربية. شهدنا احتجاجات غير مسبوقة في شوارع
نيويورك، ولندن، وباريس، وصولاً إلى كيبيك وسيدني. كان واضحاً أن جيلاً جديداً من الناشطين والمثقفين لم يعد مستعداً لتقبل الأكاذيب القديمة.
وقد ترافق ذلك مع تغير في الخطاب السياسي، للمرة الأولى منذ عقود، أصبح أعضاء في الكونغرس الأميركي، وفي برلمانات أوروبية، يصفون ما يجري في غزة بـ”الإبادة الجماعية”، ويطالبون بوقف الدعم العسكري لإسرائيل. تقارير أممية، ودعاوى أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، أكدت أن ما يجري يتجاوز مجرد “حق الدفاع عن النفس”، إلى “جريمة ضد الإنسانية”.
في المقابل، لم تكن هذه التحولات مجانية، دفع الفلسطينيون، خصوصاً في غزة، ثمناً باهظاً: أكثر من 200 ألف شهيد وجريح، دمار شبه كامل للبنية التحتية، ونزوح جماعي داخل منطقة محاصرة. ولكن رغم كل ذلك، لم تُكسر إرادة الناس، ولم تُحقق إسرائيل هدفها الرئيسي: تفريغ غزة من سكانها وفرض تهجير قسري يُعيد رسم الخارطة الديموغرافية والجيوسياسية.
ومع أن الاحتلال حاول تسويق حربه كـ”دفاع عن النفس”، إلا أن الوقائع المتراكمة في الميدان وفي الإعلام العالمي تسببت في خسائر استراتيجية لإسرائيل في ميدان السردية. شعار “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” لم يعد صالحاً حتى للاستهلاك الداخلي في الغرب، وبدأت الأسئلة تتصاعد: ما جدوى دعم كيان يستخدم السلاح الأميركي لقتل الأطفال؟ ما معنى “التحالف الحضاري” مع حكومة تعتنق فكراً تلموديّاً متطرفاً؟
كل ذلك فرض إعادة تقييم شاملة، حتى في المجتمعات الغربية التي طالما اعتُبرت حاضناً طبيعيّاً لإسرائيل. لوبيات الضغط الصهيونية بدأت تتآكل، ليس بفعل المواجهة السياسية فقط، بل أيضاً بفعل التغيرات الجيلية والثقافية، جيل جديد في أميركا وأوروبا لم يعد يرى إسرائيل كما رأتها أجيال ما بعد الحرب العالمية الثانية، بل كقوة استعمارية عنصرية، تحتل شعباً وتمنع عنه أبسط الحقوق.
إن مرور عامين على “طوفان الأقصى” لا يمكن النظر إليه فقط من زاوية الخسائر أو الأثمان الباهظة. بل يجب أن يُقرأ كمنعطف تاريخي، أعاد فلسطين إلى مركز الحدث، وفرض على العالم، بقسوته وعريه، أن يرى الحقيقة.
في العالم العربي، بدأت الروح تتغيّر. لم تعد فلسطين مجرد شعار. باتت غزة عنواناً للكرامة، والصلابة، والقدرة على الوقوف في وجه آلة عسكرية متوحشة. المقاومة، بكل تفرعاتها، باتت تُنظر إليها ليس فقط كفعل عسكري، بل كمشروع تحرري أخلاقي، يُعيد تعريف معنى السيادة والكرامة والحرية.
وهكذا، فإن مرور عامين على “طوفان الأقصى” لا يمكن النظر إليه فقط من زاوية الخسائر أو الأثمان الباهظة. بل يجب أن يُقرأ كمنعطف تاريخي، أعاد فلسطين إلى مركز الحدث، وفرض على العالم، بقسوته وعريه، أن يرى الحقيقة. فالمقاومة لم تغيّر موازين القوى العسكرية، لكنها نجحت في تفكيك سردية عمرها 75 عاماً، وأرغمت العالم على طرح السؤال الذي لطالما حاولت إسرائيل دفنه: ماذا يعني أن يعيش شعب تحت الاحتلال؟
ختاماً، يمكن القول إن ما تغيّر منذ 7 أكتوبر 2023 حتى اليوم ليس مجرد مشاهد الحرب، بل جوهر المعادلة. فلسطين اليوم ليست قضية منسية، ولا ملفاً إنسانيّاً. بل قضية تحرر أصيلة، تخترق حدود الجغرافيا، وتصوغ وعياً جديداً، حيث لا يمكن لأي تحالف أو اتفاق تطبيعي أن يمحوها من ذاكرة الشعوب. ولعل هذا، في حد ذاته، أحد أعظم إنجازات “طوفان الأقصى”.
المصدر: تلفزيون سوريا