
في اليوم التالي لسلسلة الاعترافات الأوروبية والغربية بدولة فلسطين، التي تُوّجت باعتراف دول مهمّة منها بريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا، عقد الرئيس دونالد ترامب اجتماعاً مع رؤساء وقادة خمس دول عربية وثلاثٍ إسلامية، للتداول في خطةٍ لإنهاء الحرب على قطاع غزّة، ونشر قوات عربية ودولية في القطاع. لم تُمثَّل فلسطين في الاجتماع، ولم تجرِ اتصالات أميركية مع ممثّليها قبل الاجتماع. وقبل ذلك، منعت إدارة ترامب الرئيس محمود عبّاس من القدوم إلى مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك، ممّا اضطره إلى بثّ خطابه أمام الجمعية العامة بواسطة الفيديو، ومن المقرّر أن يعرض ترامب الخطة على بنيامين نتنياهو يوم الاثنين المقبل، بعد أن يضع وزراءُ خارجية عرب ووزيرُ الخارجية الأميركي تفاصيلَها.
تستبعد واشنطن الطرف الفلسطيني (خلال هذه المرحلة، ومنذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض) في مسألة تتعلّق بصميم الشأن الفلسطيني. فيما يقود هذا الطرف الدولي، الذي يعاكس الأغلبية الدولية الكاسحة، مباحثات إنهاء الحرب على غزّة، وذلك لأنه الطرف الوحيد المؤهّل لأداء هذا الدور في عالمنا. ومع الآمال الكبيرة التي تثيرها أوسع موجة اعتراف بدولة فلسطين، وأشدّها أهميةً، إلّا أن اختبار غزّة سيمتحن الاستعداد الدولي لترجمة هذه الاعترافات قراراتٍ (وإجراءاتٍ) تسهم في إقامة هذه الدولة في أرضها، وتؤدّي قبل ذلك إلى إنهاء الحرب الغاشمة على القطاع، وانسحاب القوات الغازية في أقصر الآجال. وبالمقدار ذاته، فإنّ وقف موجة الاستباحة والتنكيل الجماعي في الضفة الغربية يمثّل جزءاً من هذا الاختبار السياسي.
وإذ عادت فلسطين بقوة إلى الأجندة الدولية، مع المسيرات الحاشدة وتسيير أسطول الصمود، ثمّ مع موجة الاعترافات والانضمام إلى “إعلان نيويورك” بشأن برمجة تنفيذ حلّ الدولتَين، فقد عادت القضية قبل ذلك، وبقوة أيضاً، إلى الدائرتَين العربية والإسلامية بإنشاء التحالف الدولي لحلّ الدولتَين، والتحضير لـ”إعلان نيويورك”، وتحفيز دول العالم على الاعتراف بدولة فلسطين. وها هي جهود إنهاء الحرب على القطاع تتّجه بوضوح إلى دعوة دول عربية (مصر والسعودية والأردن وقطر والإمارات) إلى نشر قوات لها، إلى جانب قوات دولية، في المرحلة الأولى ممّا يسمّى اليوم التالي على توقّف حرب الإبادة. ولئن كانت الموافقة على المشاركة في هذه القوات المقترحة أمراً سيادياً خاصّاً بهذه الدول، إلّا أنه من الواضح أنها ستدعو إلى ربط مبدأ المشاركة بضمان وجود سياق سياسي، يكفل عدم الفصل بين قطاع غزّة والضفة الغربية، ويؤدّي إلى مباحثات جادّة تضمن تنفيذ حلّ الدولتَين في الأرض، خلال أمد زمني متّفق عليه. وفي مواجهة ذلك ستسعى واشنطن إلى تقليص هذا الأفق السياسي وخفض التوقّعات، والدعوة إلى التركيز في معالجة وضع قطاع غزّة فحسب، والتحضير للإغاثة والإعمار، والتهيئة لإجراء انتخابات في غزّة حصراً.
إنّ جهود إعادة الحياة شبه الطبيعية إلى القطاع المدمّر والمُدمّى لا بدّ أن تترافق مع جهد سياسي دؤوب
… بهذا تتبدّى القضية مرّة أخرى شأناً عربياً، كما تشهد على ذلك أزيد من سبعة عقود على الصراع، تخلّلتها حروب ومحطات سلمية والتزامات دولية وأدبيات سياسية ثابتة في قرارات عشرات القمم العربية، كما يدلّل على ذلك العداء الصهيوني المتجدّد للمحيط العربي بالتعدّيات الجسيمة المتكرّرة، مقرونةً بأطماع معلنة للاستيلاء على المزيد من أراضي الدولة العربية، وتحت قناع السعي إلى مزيد من الاتفاقات السلمية، بينما تسعى تل أبيب إلى فرض الإذعان على مكوّنات العالم العربي، والقبول بتغلغل صهيوني متعدّد الأوجه والقنوات. وبطبيعة الحال، فإنّ التطوّرات السياسية وانفراد الولايات المتحدة بجهود وقف إطلاق النار في القطاع قد أدّت إلى توكيل الجانب العربي بالأمر، وهو ما يلقى ترحيباً لدى أبناء غزّة والسلطة الفلسطينية، برغم أن الخطة الأميركية تلحظ “دوراً” ما (متأخّراً) للسلطة في القطاع، غير أن مفاعيل الكارثة في غزّة، التي أسهمت واشنطن في صنعها، تدفع في المرحلة الانتقالية إلى التخفّف من تحديد الأطر السياسية الناظمة للحياة الطبيعية في القطاع، واعتبار ذلك من استحقاقات المرحلة التالية.
وفي القناعة أن الدول العربية المعنية سوف تتعرّض لضغوط أميركية من أجل التقليل من الوفاء بالجوانب السياسية، وتقليصها في السيناريو المطروح، وذلك باسم الدواعي الإنسانية والإغاثية، وبحيث يبدو الأمر في النهاية محاولة فرض وصاية عربية ودولية على القطاع، والادّعاء بأن الجانب الفلسطيني غير مؤهّل حالياً لإدارة شؤون القطاع، وأن وجوده سيثير ردّة فعل قوية من تل أبيب، ما قد يفسد الاتفاق المزمع بلورته خلال الأسابيع المقبلة، ما يتطلّب تنسيقاً عربياً عالياً مع الطرف الفلسطيني، ويقتضي خلال ذلك توحيد الموقف الفلسطيني بمشاركة سائر المكوّنات من أجل التعامل بنجاعةٍ مع هذه المرحلة الانتقالية والفارقة. ويقيناً أن الوضع الحالي لا يحتمل حساسيات سلطوية، فالهدف هو عبور هذه المرحلة بثبات، وتجديد التوافق على الخطوط الوطنية والأساسية، أمّا مستقبل السلطة، ومستقبل الفصائل، فسيكون منوطاً بالتطوّرات المقبلة، ومنها إجراء انتخابات عامة، سوف تؤدّي حُكماً إلى مناخ سياسي جديد، وظهور قيادات جديدة على جميع المستويات.
تعود فلسطين بقوة إلى الدائرتَين العربية والإسلامية بإنشاء التحالف الدولي لحلّ الدولتَين
وقبل ذلك، فإنّ جهود إعادة الحياة شبه الطبيعية إلى القطاع المدمّر والمُدمّى لا بدّ أن تترافق مع جهد سياسي دؤوب من أجل وقف حالة التوحّش الإسرائيلي في الضفة الغربية، والاسترشاد بالإرادة الدولية التي عبّر عنها إعلان نيويورك (أُطلق في 28 يوليو/ تموز في الأمم المتحدة واعتمد من الجمعية العامة يوم 12 سبتمبر/ أيلول الجاري)، ويقضي هذا الإعلان بنشر بعثة دولية بقيادة الأمم المتحدة في الأراضي المحتلة وفق الفقرتَين 15 و16 من الإعلان.
على أن الحذر يبقى قائماً من سعي بنيامين نتنياهو لتقويض هذه التوقّعات، إذا ما وضع تعديلات على الخطة الأميركية تُخرجها من هدفها بإنهاء الحرب وتحقيق الانسحاب، وإذا مالأ ترامب وإدارته مرّة أخرى نتنياهو ومماطلاته، ووفّروا غطاءً له، ما يفتح الباب أمام تصعيد كبير، فيما تؤدّي هذه التفاعلات إلى استقرار الوعي بأنّ التلاقي العربي حول الحقوق الفلسطينية والعربية في هذه الآونة يشكّل ضرورةً وجودية، ومصلحةً عليا ملموسة، من أجل تحصين المنطقة العربية وترويض الوحش الإسرائيلي والعمل على تحجيمه برؤى استراتيجية جريئة، كتلك التي عبّرت عنها اتفاقية الدفاع المشترك بين السعودية وباكستان.
المصدر: العربي الجديد






