حين تقود فلسطين درّاجتها وتفوز في سباق مدريد

  ميسون شقير

                

في حدثٍ فريد من نوعه، وريادة تفيض عن أنها مقاطعة لتصبح صرخةً وصفعةً وصاعقةً، قادت فلسطين درّاجتها ذات الإطارات المؤلّفة من أرواح أكثر من 60 ألف فلسطيني في قطاع غزّة، بينهم نحو 20 ألف طفل، وسبقت كل متسابقي العالم، ثمّ تُوّجت في مدريد فائزةً بلا منازع، وحاصلةً على كل الميداليات معاً. نعم، لم يكن التوقّف غير المسبوق لسباق الدرّاجات “لا فويلتا” في مدريد، الذي أصبح مسرحاً للاحتجاجات ضدّ الحرب على غزّة، مجرّد حدثٍ رياضي عابر، بل تعدّى ذلك ليصبح حدثاً حافلاً بالرمزية، فسلّط الضوء على أن صوت المجازر وأنين المستشفيات والمدارس عاليان، يصلان إلى كل مسامع الكون، ويصمّان من لا يسمع، فقد شهدت إسبانيا عصر يوم 14 سبتمبر/ أيلول الجاري مقاطعة المرحلة الأخيرة من سباق الدرّاجات الهوائية (فويلتا بسيكليستا) على يد ما يزيد عن 150 ألف متظاهر، بحسب صحيفتي الموندو والباييس، الأكثر أهمية في إسبانيا، طالبوا بإنهاء المرحلة الأخيرة من المسابقة العالمية، لأن وفداً إسرائيلياً يشارك فيها، ولأن هناك مجزرة مرعبة ومستمرّة منذ عامَين في غزّة.

تجاوز هذا العمل السلمي (وإن كان حازماً) حدود الساحة الرياضية. ففي دقائق معدودة تحوّل الاحتجاج حدثاً سياسياً بارزاً وضع بيدرو سانشيز في موقفٍ غير مسبوقٍ لرئيس حكومةٍ أوروبي، مبدياً إعجابه بشعب مثل الإسبان، الذين يحشدون من أجل قضايا عادلة مثل قضية فلسطين، معرباً عن “فخره برؤية بلدٍ متعدّد الأعراق كبلدنا، ومع ذلك نتفق جميعاً على قضية عادلة كحقوق الإنسان”. واختتم خطابه برسالة واضحة: “عاشت حقوق الإنسان… وعاش الشعب الإسباني”. وجدير بالذكر أن أيّاً من الملصقات التي انتشرت، ودعت الناس إلى النزول إلى الشوارع، لم تُوقّع من أيّ جماعات أو جمعيات، إذ تؤكّد الرابطة الوطنية لأولياء الأمور والطلاب (FAPA) أن هذه الملصقات كانت تُتداوَل في مجموعات “واتساب” لأولياء الأمور، وتنتشر كالنار في الهشيم. كما أنها كانت تُوزَّع أيضاً بين مجموعات الأحياء في مدريد. فصرّح رئيس الاتحاد ورخي ناكارينو: “نعتقد أن الرياضة، كما ردّت بطرد الفرق الروسية من المنافسات بعد غزو قوات بوتين أوكرانيا، يجب أن تفعل الشيء نفسه مع الرياضيين الإسرائيليين، طالما استمرت الإبادة الجماعية”.

تقود إسبانيا حالياً خطاباً يربط التضامن مع فلسطين بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان

 

وفي ظاهرة استثنائية وعميقة، نظّم سكّان حي أرافاكا حملةً لصنع أعلامهم الفلسطينية بأنفسهم، لأن الأعلام التي تُباع في متاجر مدريد قد “طارت”، كما يقول رودريغو غونزالو (24 عاماً)، أحد منظّمي هذه المبادرة، بحسب صحيفة الكونفيدنثيال.

تنسجم هذه البادرة، وبعيداً من أنها ارتجالية، مع الخطاب المتطوّر لرئيس الوزراء الإسباني، الذي بات في الأيام الماضية يصف الهجمات الإسرائيلية بـ”الإبادة الجماعية”، فيكتسب هذا القرار بعداً مزدوجاً. فمن جهة، يلقى صدىً لدى أغلبية المجتمع الإسباني المصدوم بشدّة من صور الدمار في غزّة. ومن جهة أخرى، يُعرّض شانشيز لانتقادات المعارضة، ولغضب إسرائيل، وأيضا لاستياء القطاعات الأكثر محافظة في البلاد. يأتي هذا الصدام السياسي بين اليسار واليمين الإسبانيَّين في وقتٍ تتسلل فيه السياسة الخارجية بشكلٍ غير متوقع إلى الأجندة الداخلية. وقد اتخذت إسبانيا موقفاً قيادياً في السياق الأوروبي: فلم تنضمّ إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية فحسب، بل تقود حالياً خطاباً يربط التضامن مع فلسطين بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وقد تكون لهذه الاستراتيجية تكلفة دبلوماسية مع إسرائيل وحلفائها، لكنّها، في الوقت نفسه، تُعزّز صورة إسبانيا دولةً قادرةً على اتخاذ مواقف شجاعة في مواجهة المآسي العالمية.

قرّر سانشيز خوض مغامرة قوية إلى النهاية، مُدركاً أن غزّة أصبحت ساحةً أخلاقيةً وسياسيةً لا مجال فيها للحلول الوسطية

ولافت للنظر أنه حتى القطاعات المحافظة في المجتمع الإسباني أبدت تعاطفها مع الاحتجاجات، إذ تجاوزت إسرائيل كل الحدود الأيديولوجية. كما أن الحكومة الإسبانية تُدرك ذلك، ولذلك تُصرّ على أن المظاهرات لا تُمثل اليسار السياسي فحسب، بل تُمثل شريحة واسعة من المواطنين الذين سئموا من مشاهدة الأهوال من دون عواقب. ومن جهة ثانية، كشفت هذه الحادثة أيضاً مفهومَين متعارضَين للعلاقة بين الرياضة والسياسة، فبينما يُصرّ الحزب الشعبي، وشخصيات بارزة مثل رئيسة إقليم مدريد إيزابيل دياز أيوسو، أن الاحتجاجات “تشوّه” حدثاً رياضياً، وتُظهِر صورةً سلبيةً للبلاد، تُفسّر الحكومة اليسارية إيقاف طواف إسبانيا عملاً مشروعاً للضغط الدولي، متذرّعة بالمقارنة بحظر مشاركة روسيا في المسابقات الرياضية، مصرّحة: “إذا كانت الرياضة واجهة عالمية، فلماذا تُستبعَد من صراع بدأ المجتمع الدولي يُقرّ بأنه جريمة جماعية بحقّ المدنيين؟”.

في نهاية المطاف، يبدو أن ما هو على المحكّ يتجاوز مجرّد سباق درّاجات، خصوصاً أن احتجاج مدريد، وردّة فعل الحكومة، شكّلا سابقةً سياسيةً ستعيد تشكّل الأجندة الإسبانية في الأشهر المقبلة، إذ قرّر سانشيز خوض مغامرة قوية إلى النهاية، مُدركاً أن غزّة أصبحت ساحةً أخلاقيةً وسياسيةً لا مجال فيها للحلول الوسطية، ومدركاً أيضاً عواقب موقفه وموقف شعبه واستعدائه لإسرائيل ولأميركا. ما حدث يوم الأحد في طواف إسبانيا يؤكّد أن إسبانيا لم تعد متفرّجة على مأساة غزّة. وللمرّة الأولى منذ عقود، يُعلَن اندلاع صراع دولي في الحياة السياسية الإسبانية بقوة صدمة أخلاقية. ويبقى السؤال: هل سيترسّخ هذا الموقف محوراً جديداً للإجماع الأوروبي، أم أنه على العكس، سيُختزل إلى مجرّد لفتة محفوفة بالمخاطر تضطر الحكومة الإسبانية لدفع ثمنها في مجال الدبلوماسية والسياسة الداخلية. والسؤال الأكثر أهمية: هل ستستطيع دولنا العربية دعم إسبانيا وموقفها، والوقوف معها أمام تلك العواقب كلّها التي تنتظرها، أم أنه لا حياة لمن تنادي؟

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى