
لسنا هنا لنرفع التحدّي أو لنمارس الشجاعة الفارغة، وإنما لنكتب بدافع من واجب الضمير لقول الحقيقة كما هي، بكل احترام، ولكن أيضاً بكل صراحة ومسؤولية، فالكلمة الصادقة لا تُقاس بجرأتها، بل بصدقها ونبل مقصدها. وإن كان التاريخ قد علّمنا شيئاً، فهو أن الملوك يحتاجون من يذكّرهم بالحقيقة أكثر مما يحتاجون من يمدحهم.
منذ توقيع اتفاقات أبراهام سنة 2020، أكّد المغرب، على أعلى مستوى، في رسائل ملكية وبيانات رسمية، أن موقفه من القضية الفلسطينية “ثابت وغير قابل للمراجعة”، يقوم على حلّ الدولتين، عبر مفاوضات تفضي إلى سلام عادل ودائم. لم يكن هذا الموقف موضع شك. لكن، وبعد خمس سنوات، جرت مياهٌ كثيرة تحت الجسر: إسرائيل التي وقّعت الرباط معها اتفاقات تطبيع لم تعد هي نفسها إسرائيل التي كانت تدّعي أنها تبحث عن السلام. لقد انكشفت حقيقتها أكثر من أي وقت مضى، بعد أن تخلّت عن كل تعهداتها والتزاماتها: دولة متطرّفة يقودها مجرمو حرب مطلوبون للعدالة الدولية، يُعلنون على الملأ، بكل عجرفة وصلافة، رفضهم قيام دولة فلسطينية وسعيهم إلى ضم آخر الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويصوّت برلمان بلادهم بنسبة ساحقة على إنكار أي حق للفلسطينيين في الوجود على أرض أجدادهم، وتُعبر أغلبية شرائح مجتمعهم المتطرّفة، في استطلاعات رأي إسرائيلية، عن رغبتهم في استمرار حرب الإبادة في غزّة والضفة الغربية، حتى قتل أو تهجير آخر فلسطيني.
لا مجال للحديث اليوم عن “شريك سلام” سواء داخل الدولة أو المجتمع الإسرائيلي، نحن أمام كيان همجي يشنّ حرب إبادة جماعية موثقة في تقارير محكمة العدل الدولية والجنائية الدولية والأمم المتحدة، حرب لم تترك حجراً على حجر في قطاع غزّة، ولم تَرحم طفلاً ولا امرأة ولا كهلاً، عشرات الآلاف استُشهدوا وفقدوا وجرحوا، ومئات الآلاف شُردوا، والعالم بأسره يشهد أن ما يحدث “تطهير جماعي” و”جريمة ضد الإنسانية”. هذه ليست لغة انفعال، بل توصيف قانوني صدر في تقارير حقوقية دولية رسمية، وعلى لسان مسؤولين وسياسيين ومثقفين وفنانين وإعلاميين في جميع العالم.
كيف يمكن للمغرب، الذي جعل القضية الفلسطينية قضية وطنية، أن يصمت، ويستمر في علاقات طبيعية مع دولة مارقة؟
في مواجهة هذا الواقع، تُطرح الأسئلة نفسها منذ بدأت هذه المأساة الإنسانية: كيف يمكن للمغرب، الذي يرأس لجنة القدس ويحمل أمانة الدفاع عن مقدسات الأمة داخلها، أن يستمر في علاقات طبيعية مع دولة تستهزئ بالقانون الدولي وتدوس على كل القيم الإنسانية؟ كيف يمكن للمغرب، الذي جعل القضية الفلسطينية قضية وطنية، أن يصمت، ويستمر في علاقات طبيعية مع دولة مارقة، فيما يُدفن أطفال ونساء غزة تحت ركام القصف والتدمير الذي تحدثه آلة الحرب الجهنمية الإسرائيلية؟
أجاب الشعب المغربي عن هذه الأسئلة بوضوح منذ اليوم الأول في مسيرات وتظاهرات لم تتوقف سنتين من طنجة إلى العيون، ومن الرباط إلى وجدة. وفي كل قرية صغيرة وبلدة بعيدة، رُفع صوت واحد: أوقفوا التطبيع. ليس هذا الصوت شعاراً فارغاً، أو موجة عاطفية عابرة، بل تعبير عن وجدان جماعي تراكم عبر عقود من التضامن مع الشعب الفلسطيني. المغرب الرسمي نفسه يعرف أن هذه ليست قضية خارجية، كما تروج لذلك قلة متشنجة ترفع شعار “كلنا إسرائيليون”، بل امتداد لقضية وطنية، تمس هوية البلد وتاريخه ومصداقيته.
لكن المسؤولية، في البداية والنهاية، لا تقع إلا على عاتق صاحب القرار الأول والأخير في المغرب. التطبيع قرار ملكي، وإلغاؤه أو إبطاله أو تعليقه لن يكون إلا بقرار ملكي، وهذا ما يجعل مسؤولية صاحب القرار كبيرة وتاريخية، لأن استمرار علاقات تطبيع “طبيعية” مع دولة مارقة وشبه منبوذة في العالم، وفي ظل ما يقوم به جيشها من جرائم ترقى إلى “جرائم الحرب”، لم يعد خياراً استراتيجياً أو قراراً دبلوماسياً سيادياً فحسب، بل اختباراً أخلاقياً وتاريخياً ومِجسّاً للحسّ الإنساني الذي ينم عن حكمة وشجاعة صاحبه.
الاستمرار في التطبيع مع الكيان يقوّض كل المواقف والمبادئ والقيم التي رفعها المغرب ودافع عنها شعبه عبر تاريخه
لقد بُنيت صورة المغرب الدولية على الاعتدال، وعلى التوازن بين الثوابت الوطنية والانفتاح على العالم، وهذا الرصيد الأخلاقي والقيمي، الذي بُني بصبر عبر عقود، معرّض اليوم للتآكل إذا استمرت الرباط في نهج سياسة تُفسَّر في العالم باعتبارها “تطبيعاً” مع مجرمي “الإبادة الجماعية” في غزّة. ليست هذه مبالغة: دول أوروبية حليفة لإسرائيل، مثل إسبانيا وأيرلندا وبلجيكا، وأخيراً فرنسا وبريطانيا وكندا وأستراليا، اتخذت مواقف شجاعة، وشعوب من أقاصي الأرض خرجت في تظاهرات حاشدة لرفض الحرب الإجرامية في غزّة، ومطالبة حكومات بلادها بعزل إسرائيل ومحاكمة مسؤوليها، فإلى متى يبقى المغرب الرسمي شريكاً صامتاً لهؤلاء المجرمين؟ ليست مسؤولية القيادة فقط حماية المصالح الاقتصادية والسياسية الآنية للدولة، بل أيضاً تجسيد قيمها ومبادئها وتثبيت مكانتها بين الأمم، وقبل ذلك الإنصات إلى نبض شعبها، فذاكرة الشعوب لا ترحم، لأنها لا تنسى ولا تُمحى. من يقف في صف الضمير الإنساني اليوم سيُذكر بشرف، ومن يتردد أو يساير القتلة سيجد نفسه في الجانب الخطأ من التاريخ.
لسنا هنا لنُحذّر، بل لنُذكّر: من يحب الملك حقاً هو من يقول له الحقيقة، والحقيقة اليوم جلية: التطبيع مع إسرائيل، في زمن المجازر والإبادة الجماعية التي يرتكبها يومياً جيشها في غزّة، لم يعد مجرد خيار سياسي أو موقف دبلوماسي، لأن الاستمرار فيه يقوّض كل المواقف والمبادئ والقيم التي رفعها المغرب ودافع عنها شعبه عبر تاريخه، ويضع الدولة ومن يمثلها في مواجهة ضمير عالمي في حالة انتفاض جماعية ضد جرائم الكيان الصهيوني ومخططاته الجهنمية.
آن الأوان لاتخاذ القرار الشجاع الذي يضع المغرب في صف الحق والعدالة والإنسانية: وقف التطبيع أو تعليقه، واستعادة المكانة الأخلاقية للمغرب وقيادته صوتاً للحكمة والعدالة وكرامة الإنسان. لن يُسجّل هذا القرار في خانة المواقف السياسية فقط، بل في سجل التاريخ، فالأمم، كما الأفراد، تُعرَف بخياراتها في لحظات الامتحان الكبرى.
المصدر: العربي الجديد