ما هي الأولوية في سوريا لحوار الداخل أم الخارج؟

   أحمد جاسم الحسين

في إطار الحديث عن كل تفصيل سوري هذه الأيام، يحاول سوريون كثيرون التساؤل عن: هل الأولوية لحوار الداخل؟ أم للاتفاقيات الخارجية وحوار الخارج؟

السؤال في منطلقه غير سليم علمياً حيث يجري الربط بين مسارين لا يتعارضان لأنهما ليسا مرتبطين ببعضهما بعض تماماً بل يمكن أن يمشيا معاً!

في سوريا المنهكة بآثار الصراع يظل سؤال الحوار على طاولة النقاش، وفي سياق الإجابة يقال: حوار الداخل، الذي ينادي به عدد من السوريين، يتصدر المشهد كضرورة حتمية، فهم يرونه الطريق الذي يُعيد بناء الثقة ويمنح مساحة للحوار العميق مع الذات السورية أولاً.

أما أكثر السوريين فيميلون إلى اعتبار الحوار الخارجي خطوة أساسية، يُرجحونها كرافعة ضغط تُعيد التوازن في البلاد.

يرى سوريون كثيرون أن كثيرا من الداعين إلى حوار الداخل أولاً، مرتبطون بالخارج ويريدون أن يحققوا نقاطاً على الحكومة من خلال الدعوة إلى أولويته وأن كثيرا من النقاط التي يتمسكون بها سيقومون بالتخلي عنها فيما لو كانت الحكومة قد انتهت من الحوار مع الخارج!

غالباً ما يقصد بالخارج في هذا السياق ليس الدول العربية أو الإسلامية المجاورة بل إسرائيل والعالم الغربي!

هذه الاختلافات تُحيّد الحوار عن هدفه الأساسي: بناء سوريا على قاعدة من المواطنة المتساوية التي يصونها القانون.

هذا الانقسام بين شرائح من السوريين ليس وليد لحظة، بل هو امتداد تاريخي عميق الجذور يعبر عن أزمة مواطنة وأزمة ثقة بين مختلف الأطياف.

هناك نفر من السوريين عاشوا بخوف من وصول الأغلبية نحو مركز السلطة، خشيّة أن يكون الحوار الخارجي هو طريق لتقليص نفوذها، أو تسليم مستقبلها إلى حسابات دولية لا تراعي سوى مصالحها الذاتية. حيث يبدو التأكيد على الحوار الداخلي محاولة للحفاظ على الوجود، ودرء الخطر الاجتماعي الذي قد ينهش خصوصيتهم في دولة مركزية متوحدة تقودها الأغلبية كما يتوهم معظمهم.

في المقابل، يرى أبناء الأكثرية أن حوار الداخل لا يمكن أن يكون إلا مزيداً من تكرار الخطاب المهيمن الذي قاد إلى ما وصلنا إليه، وأن الحلول الحقيقية لا بد أن تأتي عبر إعادة ترتيب الأوضاع من الخارج، عبر ضغوط دولية تغير موازين القوى وتعيد توزيع السلطات. هكذا، يرى كثيرون منهم أن عدداً من الأقليات تمثل امتداداً لقوى خارجية، تستمد من تحالفاتها الأجنبية قوتها، وهو ما يجعل الحوار الداخلي محدود التأثير، ولا يمكن أن يحدث التغيير المنشود من دون دعم خارجي، معتمدين بذلك على قراءة تاريخية تصل إلى القرن التاسع عشر، حين بدأت الدول الغربية بالتدخل في سياسات الدولة العثمانية بحجة حماية الأقليات، وهو أمر حق أريد به باطل، أما الحق فهو ضرورة أن يكون جميع المواطنين آمنين، أما الباطل فهو أن يتخذ ذلك الحق فرصة لفرض الوصاية على سيادة الدول!

هناك كذلك تساؤل مرير حول نوايا بعض الأقليات أو المعارضين المنتمين إلى البرجوازية أو إلى عوائل كان لها امتدادات في أنظمة الحكم السابقة، إذ يتهمها البعض بالسعي وراء “مواطنة متميزة” أو امتيازات خاصة لا يحصل عليها غيرهم، وهو اتهام يزرع مزيداً من الشكوك.

وفي الإجابة يؤكد أولئك المعارضون للسلطة أن مطلبهم لا ينطلق من نزعة امتياز، بل من رغبة مشروعة في مساواة تحميهم من الإقصاء المتوقع، وتؤمن لهم أرضاً خصبة للتعايش.

هذه الاختلافات تُحيّد الحوار عن هدفه الأساسي: بناء سوريا على قاعدة من المواطنة المتساوية التي يصونها القانون.

ومن المهم التأكيد أنه لا يمكن لأي حوار أن يثمر إن لم يبنَ على احترام متبادل، وشعور بوجع السوريين، وفي الأحوال كلها لا يمكن لأي حل في سوريا أن ينجح إذا ظلّ كل طرف يتعامل مع الآخر كخصم يجب الفوز عليه، والتخلص من حالة الخصومة المعلنة أو المبطنة تحتاج وقتاً طويلاً.

إن غياب الثقة مشكلة رئيسية تنشأ في المجتمعات التي تمر بحروب وقد تمتد إلى مراحل ما بعد النزاع، حيث إن طرفاً يريد إدامة السيطرة التي اعتاد عليها وإقصاء الآخر. وهناك من يريد حماية وجوده وتأكيد حقه وعدم الرغبة بتكرار إقصائه الذي امتد لمدة طويلة.

مسألة الترتيب الزمني للحوار وأيهما يجب أن يسبق، ليست مسألة تفضيل بقدر ما هي خيار يتوقف على الواقع. فالحوار الداخلي ضروري كونه أسّ الاستقرار الداخلي الذي لا يمكن إهماله أو تحييده. والحوار الخارجي ترميم لمخلفات النظام السابق واكتفاء شر العدو المحيط بنا ومحاولة إعادتنا إلى الطريق الطبيعي للدول.

هل يمكن عزل الداخل عن الخارج أو عزل الخارج عن الداخل؟

لا أحد ينكر أهمية الحوار الداخلي لأنه مدخل للسلام المجتعمي والتماسك وتعزيز قيم المواطنة، غير أن تأجيله أشهراً غير مفيد، وكذلك التمسك به كأولوية زمانية يبدو معاندة وعدم معرفة بالسياسة وزواريبها!

لا، فهما مساران متقاطعان ومتكاملان في الوقت ذاته. فالدعم الخارجي المؤثر لا بد أن يمشي معه حوار داخلي ناضج، والنجاح الحقيقي يكمن في التوازن بينهما.

يبرز في قلب هذا المشهد المعقد سؤال المصير السياسي: هل يمكن أن تكون سوريا دولة ديمقراطية حقيقية تحترم القانون والمواطنة كأحد مخرجات الحوار؟ الإجابة عن هذا السؤال مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمدى قدرة الأطراف السورية على تجاوز أحكام المقدمات السابقة تجاه بعضها، وفتح صفحة جديدة من التفاهمات القائمة على القبول المتبادل ضمن هوية جامعة هي الهوية السورية.

المتابع يدرك أن مشروع بناء حياة سياسية صحية في سوريا يواجه صعوبات جمة، نتيجة ضعف المؤسسات، وتفكك البنية الاجتماعية بفعل سنوات الحرب وعدم بناء قيم المواطنة عبر تاريخ الدولة السورية وبروز الهويات الفرعية أكثر من بروز الهوية الوطنية. ومع ذلك، فإن الطريق لا يزال ممكناً لكن هذا يحتاج جهوداً اسثنائية من المجتمع والسوريين عامة والسلطة الحالية كذلك!

فالحديث مثلاً عن سلطة القانون ليس شعارات إعلامية، بل ممارسة يومية تتطلب تقبل الآخر، واحترام حقوق الجميع، وعدم إفلات أحد من المحاسبة وكذلك أي حوار داخلي يحتاج سلطة قوية ممسكة بالوضع يقويها الحوار الداخلي أكثر فأكثر وتكون لديها القدرة على أخذ مسافة واحدة من مواطنيها!

اعتياد السوريين على قبول نتائج الديمقراطية في التجربة الجديدة، عملية بطيئة ومعقدة لأن سوريين كثيرين كانت تعني لديهم الديمقراطية السيطرة على الآخر، أو أن يأخذ مساحة أكبر من حجمه ولا يستطيع بين ليلة وضحاها أن يغير ميكانزمات عقله، في الوقت نفسه لا تعني الديمقراطية أن تسيطر الأكثرية على كل شيء وتتغول في الدولة!

سوريا اليوم ليست في مفترق طرق، بين الداخل والخارج، بين خوف موالين للسلطة ومعارضين لها بقدر ما هي أمام تحدي تحديد الأولويات وفي أي الطرق تسير، هذا ما لا نعرف تفاصيله لأن كثيرا من المفاتيح بيد السلطة أو مخرج من مخرجات الحوار مع الخارج، ويمكننا كمتابعين وغيورين أن نقترح أو نتساءل أو نعلق وكلنا أمل أن لا تخيب السلطة آمالنا!

لم يخرج سؤال الأولوية عن المناكفات السياسية السورية، فهناك من يرى أن طرحه نوع من محاولة تذاكي متأخرة، وهناك من يرى أن إغفال الحوار الداخلي يخفف من عُرى شرعية السلطة التي ترى أن تأمين

حاجات الناس اليومية أولوية قصوى وأنه لا يمكن أن ينجح حوار داخلي والبلد مكبل بالعقوبات الاقتصادية وسواها!

لا أحد ينكر أهمية الحوار الداخلي لأنه مدخل للسلام المجتعمي والتماسك وتعزيز قيم المواطنة، غير أن تأجيله أشهراً غير مفيد، وكذلك التمسك به كأولوية زمانية يبدو معاندة وعدم معرفة بالسياسة وزواريبها!

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى