
لم يكن التعديل الوزاري الأول على حكومة جعفر حسان صاخباً، لا من حيث عدد المقاعد التي طاولها، ولا من زاوية الدلالات السياسية المباشرة التي يحملها. بدا (في ظاهره) أقرب إلى “إجراء إداري محدود” لتصويب بعض المسارات في الشأن الاقتصادي، وذا طبيعة تكنوقراطية بلا دسم سياسي. لكن، كما العادة في السياسة الأردنية، فإنّ بعض ما لا يُقال أو لا يُعلَن قد يكون أكثر أهمية بكثير ممّا يُصرّح به، أو يُدوّن في كتب التكليف والبيانات الرسمية.
المفارقة اللافتة (قد تكون الأكثر تعبيراً عن جوهر اللحظة) ليست في من خرج من الحكومة، بل في من لم يخرج، إذ كانت توقّعات اتجاه واسع من النُّخبة الأردنية بأن يشمل التعديل وزير الخارجية، أيمن الصفدي، بناءً على حجم التكهّنات والتسريبات والتحليلات التي رافقت الأيام السابقة، بيد أنّه قبل محاولة الإجابة عن سؤال: لماذا بقي الصفدي؟ ربّما من الأدقّ أن نبدأ بسؤال آخر: لماذا توقّع كثيرون أن يخرج بالتعديل؟
الإجابة تكمن في وجود رأي “نافذ” داخل نخبة سياسية أردنية، ترى أنّ الصفدي (منذ بداية الحرب على غزّة) قاد الدبلوماسية الأردنية إلى ما يشبه “المغامرة” المحفوفة بالكلفة العالية، بخاصّة في ظلّ السياقين، الإقليمي والدولي، المعقّدين، فبدل أن تنحو السياسة الخارجية نحو الواقعية والانضباط الاستراتيجي في ظرفٍ عربيٍّ هشّ، وعلاقات مرتبكة مع واشنطن، وتراجع الوزن العربي الإقليمي، دخل الصفدي، بحسب هذا الرأي، مواجهةً مكشوفةً مع إسرائيل، ووضع الأردن في موقعٍ ضعيفٍ ضمن حسابات إدارة ترامب.
ويشير أصحاب هذا الرأي إلى برودة العلاقات الأردنية – الأميركية في الشهور الماضية، خصوصاً استثناء الأردن من زيارات المبعوث الأميركي للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، والعلاقة الباردة مع وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، بل وتراجع قدرة الأردن على التأثير في القرار الأميركي حيال الملفّ الفلسطيني، بعد أن كانت عمّان سنواتٍ طويلة اللاعب الأبرز، والوسيط الأكثر قرباً. من هنا، يقرأ هؤلاء بقاء الصفدي بوصفه تجاهلاً لهذا التآكل في الفعّالية الدبلوماسية، واستمراراً في مسارٍ قد يكون مُكلفاً وخطراً على الدور الأردني، في وقتٍ تحتاج فيه عمّان إلى إعادة تموضع وحسابات دقيقة، لا إلى صدامات مفتوحة مع أطراف دولية وإقليمية.
على النقيض من تلك الحجج والآراء، في الإبقاء على الصفدي تشديد على أنّ الرجل لا يتصرّف من تلقاء نفسه، بل ينفّذ رؤيةً عليا مرسومةً بوضوح، وأنّ خطابه السياسي والدبلوماسي، بما يحمله من نبرة حادّة أحياناً تجاه إسرائيل، وتصعيداً دبلوماسياً قوياً وواسع النطاق مع حكومة نتنياهو، ليس خياراً فردياً، بل سياسة دولة. وهنا تحديداً الرسالة الأكثر قوة: أنّ الموقف الأردني من القضية الفلسطينية، ومن الحرب على غزّة، ومن المشروع الإسرائيلي، ليس مجرّد ردّة فعل أو توظيف ظرفي، بل نابعٌ من إدراك عميق للمصالح الاستراتيجية الأردنية، ومن موقف الملك نفسه الذي رسم الدائرة المحدّدة لحركة الصفدي وتصريحاته ومواقفه.
التعديل إذاً، حمل في طياته رسائل سياسية صامتة، لكنّها عميقة. أهمها أن المواقف الأردنية في الملفّ الفلسطيني، وفي العلاقة مع نتنياهو، لا تعكس تكتيكاً سياسياً، ولا تهدف إلى امتصاص الاحتقان الداخلي ممّا يحدث في غزّة (كما أرادت رسائل إعلامية عبرية تمريره)، بل هي مواقف صلبة تنطلق وتتأسس على إدراك عميق لخطورة مشروع اليمين الصهيوني، ليس على القضية الفلسطينية ومستقبل التسوية السلمية فقط، بل حتى على الأمن الإقليمي والأمن القومي الأردني.
وتتمثل الدلالة الثانية تحدّياً، بما صمت عنه التعديل أو ما تجاهله، فالتعديل اقتصر على الاقتصاد والخدمات، وابتعد عن أيّ مضمون سياسي على صعيد الشأن الداخلي، وفي ذلك بحدّ ذاته دلالة سياسية واضحة، بخاصّة ما يتعلّق بمشروع التحديث السياسي المهم الذي أطلقه الملك قبل قرابة أربعة أعوام ومثّل تشريعياً تحوّلاً كبيراً في قوانين الأحزاب والانتخاب والموقف من العملين، السياسي والحزبي، ومثل هذا الضمور في الجانب السياسي من الحكومة يثير كمّاً كبيراً من التساؤلات عن مآلات التحديث السياسي، وتوجّهات مطبخ القرار في ما يتعلّق بترسيم ملامح المرحلة المقبلة على صعيد التجربة الحزبية والعلاقة مع المعارضة السياسية، مصير جبهة العمل الإسلامي، والمرحلة المقبلة من قانون الإدارة المرحلية ومن التعديلات المفترضة المطلوبة على قانون الانتخاب، للانتقال إلى مزيد من توسيع نطاق العمل الحزبي، ولعلّ سؤال المليون أردني: هل ما زال ذلك كلّه قائماً؟
المصدر: العربي الجديد